عن كتاب "الطبيعة في الرواية العمانية"
مجلة "القباب" الثقافية الجزائرية. عدد 8. ديسمبر 2014م
منى بنت حبراس السليمية
قلما دُرِست "الطبيعة" في الفنون السردية خارج إطار الدراسات المكانية، إذ دُرِست بوصفها مكانا في النص الروائي، بينما الطبيعة لا تشترط وجودها المكاني في النص، فهي قد تكون مكانا وقد لا تكون، الأمر الذي يتيح إمكانية النظر فيها بنظرة أوسع ترفعها إلى درجة الرمز أحيانا، دون تجاهل صفتها المكانية.
ومن جانب آخر فإن اللغة الشعرية التي اعتمدها كثير من كتاب الرواية، تمتاح كثيرا من مكوناتها ومادتها من الطبيعة، الأمر الذي يفضي بنا إلى الوقوف على الطبيعة المتخيلة، تفريقا بينها وبين طبيعة الواقعية النصية. يضاف إليه الاتساع في مفهوم الطبيعة الذي يتيح مجالا رحبا لدراستها من حيث هي فطرة، وخِلقة أولى، وطبع، وجبِلَّة، بما يحقق تحولا في مادة الدرس من البعد الفيزيائي إلى البعد النفسي من خلال دراسة الطبيعة البشرية.
من هذا المنطلق تناولت دراستي الموسومة بـ "الطبيعة في الرواية العمانية" الطبيعة في عدة أشكال، أولا بوصفها مكانا في رواية "الطواف حيث الجمر"، استنادا إلى كون المكان – أو الأمكنة – التي توظفها بدرية الشحية في روايتها إنما هي أمكنة طبيعية، وهو ما أتاح الوقوف على خصيصة المكان الطبيعي، وما يتوالد عنه من مظاهر أخرى لها ارتباط بحياة الإنسان الذي يعيش في كنفه من ثقافة وتراث، يؤثران بشكل حتمي في تشكيل الشخصيات.
كما تناولت الدراسة – ثانيا - شكلا أكثر رقيا للطبيعة الفيزيائية المعروفة، وهو الطبيعة في شكلها المؤنسَن، والمتحول من واقعه المجرد إلى مرتبة إنسانية ما، والمتحققة بما يسبغه عليها الإنسان من بعض صفاته، وقد مثلت هذه الظاهرة رواية "تبكي الأرض يضحك زحل" لعبد العزيز الفارسي.
بالإضافة إلى تناولها – ثالثا – الطبيعة في تحولها من الدرس الفيزيائي إلى الدرس النفسي والفسيولوجي، منتقلة من مادتها الخارجية المتمثلة في الوسط المحيط الذي تشكله عناصر الطبيعة الخارجية إلى دراسة الطبيعة البشرية من خلال وجهين اثنين، هما الفطرة الإيمانية من جهة، والفطرة الجنسية من جهة أخرى، مع ما يبدو من تناقض بينهما على مستوى القيمة الاجتماعية، غير أنهما يتفقان في الأصل الذي يصدران منه، وكأنما بذلك نقارب بين مصطلحي (الفطرة) و(الطبيعة) على أساس أن الطبيعة ما هي في جوهرها إلا الفطرة الأولى لوجود الأشياء، قبل أن يتدخل الفعل البشري مغيرا ومقننا ومحددا، بل مشوِّها أيضا.
وأخيرا، جمعت الدراسة في فصلها الأخير الروايات الثلاث في دراسة "الطبيعة الفنية"، وهو فصل يحاول البحث في فنيات توظيف الطبيعة حسب الشكل الذي اتخذته في كل فصل من الفصول الثلاثة من خلال العناصر الفنية المشكلة للبناء للروائي، معتمدا آلية تجميعية تقود إلى المقابلة فيما بين الروايات الثلاث بطريقة لن تخفى على القارئ، دون أن أضطر إلى إقرار أفضليةٍ فنيةٍ لرواية على الأخرى – وما كان لدراسة كهذه أن تفعل – وإنما قصارى ما حاولته هو إعطاء بعض اللمحات التي من شأنها أن تجمع الشتات الناجم عن استقلال كل رواية في فصل بعينه.
فكانت الرؤية التي تحكم إبداع الروائي العماني تجاه الطبيعة حاضرة بما يعكس خصوصية الطبيعة العمانية في وجودها الواقعي، وقد حققت ذلك رواية "الطواف حيث الجمر" من خلال توظيفها للطبيعة المكانية، وهو توظيف لم يكتف بالوصف الجامد لمكونات المكان الطبيعي، بل تجاوزه إلى رسم نتاجاته وصولا إلى ما أسميناه بالطبيعة الحياة (أو الطبيعة المعيشة)، بكل ما يتصل بها من ثقافة وتراث وأسلوب حياة، وَسَم الشخصيات التي تشكلت ضمن حدوده الجغرافية، حيث كانت الطبيعة الفيزيائية مشكلا رئيسا لطبيعة البشر المنتمين إليها، ومحددا لأفعالهم ورؤاهم، وهو ما أنتج الموروث الاجتماعي الذي تتناقله الأجيال.
ولم تقتصر "بدرية الشحي" على تصوير العلاقة بين الشخصية الرئيسة بغيرها من الشخصيات، بل صورت أيضا علاقتها بمفردات الطبيعة من حيوانات ونباتات وحشرات أيضا. وقد كشف التغير المكاني عن هذا التنوع البيولوجي، وهو ما يستشعره القارئ ضمنا بين سطور رواية "الطواف حيث الجمر"، وذلك بالمقابلة بين الأمكنة الموظفة فيها ما بين جبل وسهل وبحر ودغل.
ومن جانب آخر، شكلت الأنسنة قيمة حيوية عكست رؤية عبد العزيز الفارسي للطبيعة في روايته "تبكي الأرض يضحك زحل"، فقد عملت هذه الرؤية على كسر السببية في القاعدة الفيزيائية للطبيعة، عندما منحتها مجموعة من الأشكال الإنسانية؛ إذ عكست الطبيعة صورة الأب، والابن، والوطن، والمعشوق، والأصل، والمنتقم الغاضب، في الوقت الذي صورت فيه التناقض بين الطبيعة الفيزيائية من جهة، والطبيعة البشرية لأهلها من جهة أخرى.
ومما تجد الإشارة إليه إلى أن الطبيعة العمانية التي يمتاح منها الروائي واقعه النصي لم تحقق العلاقة التلازمية القاضية بالاستعلاء والاستعداء والاستغلال بين المدينة والقرية أو الريف، وذلك انطلاقا من الطبيعة العمانية ذاتها التي لم تعرف الإقطاع بسبب غياب الطبيعة الزراعية التي تشترط على أهلها امتهانا بالزراعة دون سواها، فلم تنظر الرواية العمانية لابن القرية بوصفه أقل شأنا من ابن المدينة، وذلك بسبب حداثة المدينة العمانية بحد ذاتها واقعا. بيد أن الإقطاع سجل حضوره في رواية "الطواف حيث الجمر" عندما كان مسرح الأحداث خارج حدود الوطن الأم، في أفريقيا تحديدا، وقد مثلت زهرة شخصية الإقطاعي الذي يستغل الأرض وأهلها لصالحه كما وجدنا ذلك في الفصل الأول.
وعلى الصعيد الفني فإن التباين في توظيف التقنية السردية لتصوير الطبيعة في الروايات الثلاث كان مترجما للتباين في أشكالها، فقد واكب تعدد صور الطبيعة المؤنسنة في "تبكي الأرض يضحك زحل" تعدد أصوات النص، بما تشيعه من ذاتية تعددية تعكس علاقة كل شخصية بصورة الطبيعة التي ترتضيها، وهذه غاية في حد ذاتها اتخذ لها الفارسي الوسيلة التي لاءمتها محققا فرضية النص الطبيعي التي درسناها في الفصل الرابع.
كما كان لاعتماد بدرية الشحي على الوصف المسرد تحديدا – على أساس أن الوصف هو قوام التشكيل المكاني الأول في النص الروائي – دور في تصوير الطبيعة في عفويتها وعوزها للانتقاء، كما دعمت جرأتها الموضوعية بجرأة فنية من خلال استخدامها لضمير المتكلمة، وهو على خلاف السائد في الرواية النسوية في الخليج العربي التي دأبت الكاتبة الأنثى فيها على استخدام تقنية التبئير الصفر.
في حين أن التقنية الموظفة في "الأحمر والأصفر" التي تجمع مزيجا من تداخل راويين، معتمدة على فكرة المذكرات من جهة، ومراوحة في استخدام الضمير المحيل على السارد متناوبا بين الشخصية والراوي من جهة أخرى، تبقى باعثا على السؤال عن موقع الكاتب بين الاثنين في نص يقترب من السيرة الذاتية التي أريد لها أن تكون غيرية.
يضاف إلى أن ثمة علاقة قربى وثيقة بين اللغة الشعرية والطبيعة، مما يرفعها من كونها مكونا مكانيا أو كونيا إلى برجوازية رمزية، وقيمة تأويلية، محققة الطبيعة المتخيلة الصرفة ومميزة لها عن الواقعية النصية التي لا تأخذ من الواقع إلا ما يكرس قيمة الإقناع.
وقد كانت أشكال الطبيعة في الرواية العمانية أكثر مما تناولته هذه الدراسة، وقد كان مقررا لها أن تتسع أكثر لتضم رواية "منامات" لجوخة الحارثية، مصورة (الطبيعة الحلمية)، وقد بدا أن أشكالا أخرى من التوظيف تحتاج إلى مجهر بحثي علّه يجد الوقت والجهد في قادم الأيام.