الأربعاء، 30 ديسمبر 2015

جنة التفرغ

حسنا،

وقد عزم هذا العام على الرحيل، يهمني جدا أن أعلن أن عامي الجديد سيتأخر قليلا عن عامكم لثلاثة أشهر، فلن أحتفل بليلته الأولى إلا في الليلة الأخيرة من مارس 2016، لأنها الليلة التي تؤرخ بداية تفرغي التام للدراسة بدءا من صباح اليوم الذي يليه، بعد طول تشظٍ ومكابدة.

لذا، فإن خطتي التي أكتبها الآن، ليست للـ (الآن) بالضرورة – أقصد بدءا من يناير – ولكنها للعام الذي سأتحرر فيه من التزام وظيفي أعاق مشوار دراستي كثيرا، حينها فقط سأدشن تقويما جديدا أتحرر فيه من سارقي الفجر، ومن المسافات التي أقطعها يوميا ما بين مسقط وسمائل التي أذهبت ثلث عمري، وأعلن في المقابل كسبي لثلث حياة وثلث نفسية مهدرة في زحامات تكبر أسبابها وتصغر كلفتني عمرا من المزاج المتعكر.

عامي هذا سيكون عاما مغربيا بامتياز، سأقيم في المغرب طويلا، هناك في الشمال حيث طنجة ومارتيل، وسأقلب القاعدة التي التزمت بها سنوات من القراءة والكتابة، فأكتب كثيرا وأقرأ قليلا، لأنجز أطروحة تعلقت في رقبتي منذ عامين، وأُسعِد بإتمامها قلبين في هذا العالم، أما سعادة البقية – إن سعدوا – ففضل منهم وكرم أقدره بمحبة هائلة.

في عامي هذا سأتفرغ لأشياء عالقة كانت تنتظر فرصة لتشغلني فلم أمكّنها مني، وها أنا أعلنني لها الآن حلالا زلالا: سأنهي كتابين علقتهما طويلا قبل النشر "نافورة الشمس" و"حديث الفجر" (لا يزال بعنوانه القديم)، وأحسب أنهما تخمّرا وتعتقا بما يكفي لأرضى عنهما. وسأقرأ روايات أجنبية أكثر، وروايات عربية أقل. وسأمنح نفسي قسطا وافرا من القراءة في علم النفس والأنثروبولوجيا والتاريخ وتاريخ الفكر الإنساني خصوصا ومجتمعاته، وفي الفلسفة الأخلاقية والسياسية. وسأعيد طباعة ديوان "فيض الإحساس" بكثير من الإضافات والتعديلات التي فاتتني في الطبعة الأولى.

ماذا بعد: سأسافر إلى وجهات شتى أبدؤها بمصر وأنهيها بأسبانيا، سأعيش عمري كله في هذا العام: سفرا وقراءة وكتابة .. وسينما

هل بقي شيء؟ نعم .. لدي طموحان لابد من (الشروع) فيهما في عامي الجديد: ترميم لغتي الإنجليزية، وتعلم اللغة الفرنسية.

وسأبوح أخيرا بسر صغير: روايتي الأولى تنتظر نصيبها من الوقت الذي لن أدّخره بعد الآن، ففي الختام – وكما قلت سابقا – لابد أن أكتب رواية قبل أن أموت.

ختاما، أستحضر جواب شاعر مغربي سألتُه: لو منحوك عاما من التفرغ ماذا ستفعل؟ قال: لن أنام!

منى بنت حبراس السليمية

28 من ديسمبر 2015م

الأحد، 13 ديسمبر 2015

الزهايمر لا يستثني أحدا

الزهايمر لا يستثني أحد

منى بنت حبراس السليمية

مجلة التكوين - العدد 3

     كان هذا منشورا وضعته في الفيسبوك قبل أيام قليلة، ولم أكن أعني به حقيقة طبية بطبيعة الحال، ومع ذلك أيّده كثيرون، أيا كان المعنى الذي توصلوا إليه من العبارة أعلاه، فيما سألني سائل في رسالة خاصة: ما هو السن المحتمل للإصابة به؟!

     ليست الحقيقة الطبية – التي لا أعرفها – كانت دافعا لكتابة هذه العبارة، ولكنها الحقيقة التقنية التي اعتمدناها أسلوب حياة، وبنينا بها ذاكرات بديلة واتكأنا عليها بثقة كسلى، وبرمجنا تفاصيلنا المهمة على مقاسها وسرعة أدائها، فإذا بنا نصاب في مقتل!

    فمن منا لم يفقد ذاكرة هاتفه الذكي يوما، أو جهاز حاسوبه، أو فقد أرشيفا إلكترونيا كاملا من الصور وأرقام الأصدقاء، أو فقد مجلدات من بحوثه ومقالاته وأشياء كتبها كانت على وشك أن تخرج للقراء بمجرد دَفعةٍ واحدة تزج بها إلى دار النشر!

    أستحضر الآن القاصة والروائية هدى حمد التي فقدت جهاز حاسوبها وبه روايتها "التي تعد السلالم" قبل اكتمالها، بعد أن قطعت فيها أشواطا هائلة قبل النشر، وقبلها القاص والمسرحي هلال البادي الذي فقد مجموعة قصصية كاملة كان يعدها للنشر، بينما الشاعر المغربي محمد العنّاز فقد ذاكرة جهازه وفيه أطروحة الدكتوراه التي لم يبق عليها سوى فصل واحد قبل المناقشة النهائية، ومثله الناقد المصري محمد الشحّات الذي فقد قبل أيام كتابين أعدهما للنشر بسبب فيروس أصاب حاسوبه المحمول، وبسببه أعلن عزلته التامة التي قد تمتد عاما كاملا؛ تعبيرا عن خسارتين نفسية وعلمية، ويتفرغ خلالها للبحث والتأليف .. وغيرهم.

    ولا عدّ لمن فقدوا ذاكرة هواتفهم بما فيها من أرقام وصور وذكريات تصعب استعادتها ما لم تكن محصنة ببريد إلكتروني، أو بذاكرة احتياطية تنوب عن ذاكرة الهاتف الهشة.

    لم تعد الذاكرة البشرية وحدها محل تعويل في حفظ سيرورتنا التاريخية وركام تجاربنا، بعد أن تعقدت الظروف وطبيعة الحياة التي حتمت الاستعانة بذاكرات إلكترونية لا مناص منها، بيد أننا في ارتكاننا المطمئن لتلك الذاكرات ينسحق في لحظة كل ما احتفظنا به للزمن (ومن الزمن)، بعد أن نكون تخففنا منه بوعي أو دون وعي، مطمئنين إلى وجوده في حاويات أخرى يمكننا الرجوع إليها متى شئنا، وما أكثر الأشياء التي نقرر استعادتها بالتقليب في أرشيفات صور بين حين وآخر، مهما تباعد الزمن بين الحينين، فإذا بصورة تَطُل بين الركام تعيد إلى الذاكرة ذكرى أوشكت أن تمّحي، ولولا الصورة التي كرّت بالذاكرة البشرية من لحظتها الحالية إلى لحظة غابرة ما كنا نحسبها تعود.

    قبل أيام تعرضت لحادث مماثل، وهو الحادث الثالث من نوعه خلال ثلاث سنوات، وإن استطعت استعادة الأرقام فإن أرشيفات الصور إلى ضياع نهائي. فهل تُعوّض الذاكرة البشرية – بعد شحذها لأقصى ممكناتها – ما طمرته الذاكرة المادية؟ ثمة أشياء في هذا العالم قد لا تبدو مهمة، لكنها تكتسب أهميتها من لحظة التوثيق، فما الذي تعنيه صورة التقطت عفوا وأنت تسير بمحاذاة سور؟ لحظة كهذه قد لا تتذكرها طوال حياتك، ولا حاجة لك بتذكرها، ولكنها بوجودها صورةً في ذاكرة مادية ما، تكتسب مع الوقت تاريخا: تاريخ شباب سيكون ذات يوم جزءا من الماضي وأنت تسير منتصبا قبل أن تحني ظهرك السنون، أو ذاكرة السور الذي قد لن يبقى في مكانه، أو لعله يتحول إلى معلم أثري يكون لك شرف السبق بالتصوير بمحاذاته!

    ذاكرة الصور تعيد رسم قيمة الأشياء، وهي قيمة زمنية بعد كل شيء، الذي نحاول أن نمسك منه ما يمكن الإمساك به في هروبه الأزلي إلى المجهول. تشدنا دائما الرغبة في أن نقول: (كنا هناك)، في زمان ومكان هربا في غفلة من العمر، وكأننا نكتسب هويتنا من خلال وجودنا فيهما في وقت ما، فللإحساس طعم الزهو بأن كنا هناك، يوم غاب عنه غيرنا ممن فاتهم الظرف الزماني والمكاني غير القابلين للاستعادة.

    تشغلني الذاكرة إلى الحد الذي يجعلني أسترجع تعليقين مهمين لصديقين جاءا منفردين، عندما قلتُ في مقال إني أخشى من العمى، فقالت هدى حمد: "أريد حتى آخر يوم من عمري ألا أفقد شيئين: بصري وذاكرتي" بينما قال وليد النبهاني: "أما أنا فأخشى من الزهايمر".

   الزهايمر لا يستثني أحدا، فإن لم يكن "زهايمر" صحيا فـ "زهايمر" إلكترونيا، فحافظوا على ذاكراتكم واستنسخوها، فلم تعد الذاكرة مأمونة، ولم تعد التقنية كذلك.