الجمعة، 29 أبريل 2016

أرواح ضاق بها المكان

أرواح ضاق بها المكان

منى بنت حبراس السليمية

لا أذكر على وجه الدقة كم كان عمري يوم سقطت مكتبة أبي الخضراء أرضا بما فيها من أثقال ناءت بحملها لسنوات. اختلط خشبها ونشارته بالأغلفة والأوراق، وساد الغرفة الملاصقة لمجلس الضيوف – حيث كانت – خراب هائل كان يستند بضخامته قبل ذلك الحدث إلى الجدار.

كانت تلك أول مرة أنتبه فيها إلى وجود مكتبة في البيت. جمعنا الكتب جماعيا – ولكن عشوائيا كذلك – صغارا وكبارا في محاولة للسيطرة على الدمار وتنظيفه، وصففنا الكتب على الأرض آخذين بقايا ما كان مكتبة إلى طريقها الطبيعي في انتظار عودة أبي من عمله لننظر ماذا يرى.

لم يهتم أبي بذكرى ما كان مكتبة بمجرد اطمئنانه على سلامة كتبه وقد رآها مرتبة في أكوام على الأرض، وأخال أنه لو رآها وهي جاثمة بين خشبها لحظة السقوط لهاله المنظر. أمَرنا ببساطة أن نزيح الكتب إلى الزوايا وتحت الأسرّة ريثما يبتني لها مكتبة جديدة أكثر صلابة وتحملا.

في اليوم التالي كان النجّار يأخذ مقاسات الجدار الشرقي من مجلس الضيوف من أقصاه إلى أقصاه، وراح يبني مكتبة تسلقتْ رفوفها السقف وأخذت مساحتها الجدار كله. يومان والمكتبة جاهزة لاحتضان الكتب المنتظرة تحت الأسرّة، وراح أبي يفرزها بينما كانت أمي وعمتي تمرران عليها منديلا مبللا لإزاحة ما علق بها من غبار جراء وقعة المكتبة القديمة.

تسلقنا الرفوف الجديدة بإيعاز منه لصفّ الكتب التي أرادها أن تكون في الرفوف العلوية حسب الترتيب الذي أملاه علينا. يوم كامل وأصبحت المكتبة الجديدة شامخة في صدر مجلس الضيوف كما لم تكن من قبل في البيت مكتبة. في البدء كان شكلها وحده ما يثير دهشتي، فقد كنت أدلف إلى المجلس وأبقى أتأملها رافعة رأسي الصغير إلى أقصى مداه؛ ليطال نظري تلك الكتب التي صارت بعيدة جدا فوق رفوفها العلوية، ونزولا إلى الرفوف السفلية التي حفلت بالكتب التي ظن أبي أنها تصلح لأطفاله.

مع الوقت صرت أطالع العناوين، وشدني بعضها الذي رحت أتصفحه في سن مبكرة. من هناك بدأت علاقتي بالقراءة، وإن كان تعلقي بالمكتبة بدأ مع تلك الحادثة التي ربما لولاها لما انتبهت إلى وجود تلك الكائنات في بيتنا، فإن طبعا تسرّب إلي من أبي ولازمني حتى ساعتي هذه، فقد حدث مرة أن أعار أحدهم موسوعة من خمسة مجلدات ولكنها لم تعد. حزن أبي لذلك، ولم يجد في نفسه جسارة ليطالب مستعيرها بإعادتها، فخرجت بأجزائها الخمسة ولم تعد.

ومرة أخرى أعار آخر ثلاثة مجلدات ذهبت هي الأخرى ولم تعد، وحاول مرارا البحث عنها في معارض الكتب حتى عثر على نسخة أخيرة ومهترئة في معرض الكتاب 2008م.

ولما كان لا يحب رد طالب كتاب، في الوقت الذي يؤلمه ضياع كتبه، راح يسطّر بيتين وضعهما بداخل برواز، معلقا إياهما في واجهة مكتبته:

يا مستعيرَ الكتبِ       لستُ أعير كتبي

لأنها أحبتـــــــي       وإنني حِبٌ أبـــي

وبذلك جعل البيتين ينوبان عنه الرد قبل أن يفصح طالب كتاب عن طلبه، مجنبا نفسه حرج طلبات إعارة لا تفي بوعودها، وتاليا صار حزنه على ضياع كتبه يسكنني، فصرت لا أطيق إعارة كتاب أبدا، وهو طبع مازلت أكافح للتخفيف منه دون جدوى؛ فقد أيقنت أن الناس غالبا يعيدون الأمانات إلى أهلها إلا إذا تعلق الأمر بكتب يستعيرونها!

امتلأت مكتبة أبي وفاضت، وبعد وفاته عمدتُ إلى إغلاق شرفة تطل على الجانب الجنوبي الشرقي من البيت وتحويلها إلى مكتبة، فكبرت هذه أيضا وأصبحت أكبر من سابقتها، ثم بعدها بسنوات أخذت تضيق وما كان من بد غير التفكير في مكتبة ثالثة،  ولكن في غرفتي هذه المرة، ولكنها سرعان ما امتلأت مفترشة الأرضيات مُراكمة الجديد كل مرة.

إلى هذا الحد ما عادت أمي تطيق مزيدا من الكتب خارج الرفوف، فقد كانت رؤيتها وهي تضيّق الواسع من الأمكنة يجعلني تحت طائلة عتبها المستمر، حتى صرت أهرّب الكتب من أبواب خلفية لأجنب أمي رؤية الجديد منها، ومجنبة نفسي  توبيخا مستحقا في آن.

الحديث عن ترتيب الكتب والمكتبات حديث البدايات، عندما يكون في الرفوف متسع والمكتبات جديدة لا تزال، ولكن عندما تضيق المساحات ولا تجد الكتب مستقرا طبيعيا تقيم فيه، فلا تحدثني عن ترتيب ولا تنظيم، فقط أن تَسلم من السخط والعتب والتهديد المستمر بنهاية تشبه نهاية الجاحظ، تلك هي القضية.