عمان الأبدية
منى بنت حبراس السليمية
كان يضرب مواعيده في أصقاع الأرض، وينصب خيمة مجلسه في الصحاري والوديان وسفوح الجبال، يلتقي بناسه وأهله، يسمع منهم ويسمعون منه. يجرب الحياة بينهم، ويتقاسم ظروفها معهم.
وهو حيث حلّ وحيث ارتحل تمتلئ البلاد بأخبار موكبه. يتبعه الناس ينهلون قبسا من عطف أبوته دون حجاب أو حاجز. يوقف موكبه ليستمع إلى شيخ استند بمرفقه إلى نافذة سيارته كمن يسامر رفيق طفولته، ويترجل من سيارته ليسلّم على جمع من النسوة خرجن للسلام عليه. يفعل ذلك باطمئنان المحاط بأهله، وبشغف الساعي إلى إسعاد شعبه.
عرفه العمانيون عابرا شوارع عمان وطرقاتها، إذ يضبطون معه ساعة اللقاء، ويقفون على الأرصفة يترقبون مروره، وكلُّ أملهم نظرةٌ عجلى لا يستنكفون أن يبذلوا لأجلها ساعات نهار كامل، مرددين هاتفين: بالروح والدم نفديك يا قابوس.
تلك النظرة القصيرة هي ما يحتفظ بها العماني من لقائه بجلالته خارج أسوار الشاشات، ويسردها لأطفاله كما لو أنها امتدت دهرا.
أحبوه لأنهم رأوه في المفاوز والقفار أكثر مما سكن القصور، وأحبوه لأنه وصل إليهم وإن نأى المكان وعسرت الجغرافيا، فمهّدها لهم، ووصّل عمان بأطرافها، ومدّ بالحركة شرايينها، وقرّب البعيد إلى بعضه حتى تقارب والتأم.
أطلق على السيوح أجمل أسمائها، فكانت الشامخات والطيبات والراسيات والبركات والخيرات والرحمات والعلا واليحمدي والنماء وغيرها من الأراضي الخالية من مظاهر الفخامة التي جمعته بشعبه، ولم يكن لها من شرف إلا أن ضمت قائدا إلى أحضان أمته على بساط من البساطة والتواضع. تواضع السلطان لشعبه، فرفعه شعبه إلى أعلى مقام.
وعندما رأوا موكبه الأخير يسير به من بيت البركة إلى جامع السلطان قابوس الأكبر صبيحة الحادي عشر من يناير 2020، بكوه كما لم يبكوا حبيبا من قبل، وانتحبوا لفقده كمن يودع آخر ما يملك. كان يسير في الطرقات نفسها التي عبرها من قبل، وفي أحداقهم تشتعل جمرة الكلمات التي يودون تكذيبها على الشاشات: "مراسم تشييع جثمان المغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور". ولكن عزاءهم أبدا أنه الحاضر في الحياة، والحاضر في الموت، وفي ضمير أجيال عاشت في عهده من "المهد إلى الخلد".
***
في حياة كل الشعوب تواريخ مميزة كالوشم محفوظة في تلافيف الذاكرة، تضرب مواعيدها التي لا تخلفها السنون المتعاقبة، وكلما عادت عاد الحنين والشوق والوجد.
منذ الثالث والعشرين من يوليو من عام سبعين، وعلى مدى خمسين عاما تلت، صار هذا التاريخ وشما وذاكرة، يعرفه العمانيون أكثر مما يعرفون تواريخ ميلادهم؛ فلكل منهم حكايته ولكل جيل شواهده.
فهل ستغيب شمس الثالث والعشرين من يوليو بعد اليوم؟ يقول رصيد العقود الخمسة الماضية إن بعض الأحداث علامات، وبعض العلامات منارات ومنازل، يُنزلها أصحابها منزلة قصية في أعماق القلب.
كيف لا تكون كذلك وهي شاهدة على العهد الذي بدأه جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور طيب الله ثراه، ومنه انطلقت حياة جديدة لعمان، ولن تنتهي.
آمن منذ اللحظة الأولى بأن الإنسان بالتعليم.
ولأن درب البناء شاق وطويل، فليس على العماني أن ينتظر أكثر، ومن فوره بدأ نهضته التعليمية من تحت ظلال الشجر، معنيا بالكيف لا بالشكل، بالمضمون لا بالظرف.
استطاع أن يفعل ذلك - رغم شح الموارد وفقر الإمكانات -بإيمانه الذي شق الصخر طرقا، وبعزيمته التي حولت الصحراء واحة، وبشعبه الذي آمن به فآزره وأيده، وسار معه وبجواره، يبنون عمان شبرا شبرا، فرأوها كما رآها تكبر يوما بعد يوم، وهم يكبرون معه إذ يكبر، حتى مضت به السنون إلى خمسين عاما، يسابق فيها الزمن ليفعل لهم ما بوسعه أن يفعل، حتى شاخ جسده ووهن، ولكن عزمه يرفض أن يشيخ.
وعندما آن له أن يستريح رسم في السر راحة عمان من بعده، حرصا منه على أن تنأى عن أسباب الشقاق والفتن، فاختط لها بيده الكريمة من توسّم فيه أن يكمل البناء من بعده، فسمّى لنا هيثما سلطانا لعمان لما توسمه فيه من صفات تؤهله لحمل الأمانة.
تلك أياديه التي كانت تسيّر الأمور بعد وفاته، وتلك تربيته التي آتت أكلها في لحظة الامتحان الأصعب، ليثبت الجميعُ أنهم تربية قابوسية خالصة، وأن جسده الطاهر وإن غاب، فنهجه باق يقود المشهد، ويحرك القلوب التي أنى اتجه اتجهت.
عمانك يا سيدي هي عمانك، بحضورك وغيابك، لوحتك التي اخترت لها شكلها وألوانها، سَمتها وطابعها، نهجها وسيرتها، فعلها وقولها. خمسينك التي قضيتها بين أجيال عمان ترعاهم ويرعونك جعلت العمانيين قابوسيين في خُلقهم وإخلاصهم، فحق لهم اليوم أن يقولوا بصوت رجل واحد: "نحن قابوس بن سعيد أبناء عمان".
***
"أريد أن أنظر إلى خريطة العالم ولا أجد بلدا لا تقيم علاقات صداقة مع عمان" عبارة لا تزيد عن 15 كلمة، ولكنها رسمت سياسة عمان الخارجية، وتاريخا من العلاقات الدولية تضيق عنه المجلدات.
وقد أثبتت الأيام أنه كان على صواب دائما. الصواب الذي تعجر عن رؤيته البصائر المحدودة، ولكن الزمن كان دائما كفيلا بأن يجلّي مراميه، ويصادق على رأيه وبُعد نظرته.
نأى بالنفس، واعتمد الحرص، وهو يعبر بالبلاد في محيط تمور فيه الصراعات، وتتعالى فيه أصوات الخلافات، وسعى للإصلاح ما أمكنه، وجنب المنطقة شرور الحرب ما استطاع. شق طريقه بثبات، وقال (لا) حيث أراد، وسار مع الجمع متى ما اعتقد أن الخير حيث يسيرون.
اجتمعت في شخصيته صفات العطف واللطف، والشدة والحزم، مقدما الأوليين على الأُخريين متى ما وجد أنهما أقرب للإصلاح. وعمل بمبدأ العفو وهو القادر، ومد يد السلم وهو الغالب. يقرأ محبوه في نظرته الحب والصرامة معا، فمتى ما أحب لا يلين، ومتى ما جدّ لا يغالي.
اسمه قابوس؛ علامة تخصه وحده، ولكنها ارتبطت بعمان: فكان قابوسها، وكانت عمانه. وأبى إلا أن تكون عمان علامة بمواقفها، ومبادئها، ونهجها، وعلاقاتها، وسعيها للسلم داعية إليه.
قابوس بن سعيد بن تيمور - فقيد الأمة والعالم - رجل أتاح له عهده أن يرسّخ سيرته في الذاكرة، بأنه السلطان الذي لا يظلم عنده أحد، فإليه يحج الفرقاء بثقة واحدة ويقين راسخ بأياديه البيضاء ونواياه الخيّرة.
جمع الماء والنار، واحتكم لحكمته الشرق والغرب، وقرّب بين البعيد والقريب بهدوء الواثقين، وتدبير العارفين. آمن بالسلام مذهبا، فسار في سبله مجنبا عمان الدخول في تحالفات تشعل المنطقة والعالم، حتى رحل عن الدنيا وليس في يده دم بشر.