أبو سرور .. الصدق والوفاء
منى بنت حبراس السليمية
عرفت أبا سرور بعيون والدي وقلبه قبل أن أعرفه من خلال قصيدة تموضعت في إحدى صفحات كتاب الصف الثالث الإعدادي، فتشربناها ورحنا نتغناها بملء حناجرنا:
هذي سمــائل والآثار شاهـدة
والحال أصدق من حب يفدّيــها
فهل أملك اليوم أن أتحدث عنه إلا من خلال هذين: أبي، وشعره؟
ففي اليوم الذي اخترت فيه أن أحتفي بالشاعر أبي سرور، وجدتني أنساق للاحتفاء به بطريقة تقترب إلى احتفاء أبي به: احتفاء الصديق بصديقه.
ولست أدري ماذا أكون بينهما! سوى أنني ناقل لصورة العلاقة التي جمعت بين أديبين، اختارهما الشعر والمكان ليكونا وجهين من وجوه الشعر السمائلي بطبعه وطبيعته.
ودونما أي قصد مني، أجدني أقدم أحدهما من خلال الآخر، إذ ليس المقام مقام قراءة نقدية،، وإنما هو احتفاء ووفاء. فإن لم يرق ذلك للقارئ فإني أستميحه عذرا، فليس الأمر باختياري بعد كل شيء؛ لأنه حين يحضر أبو سرور في ذهني فلابد من حضور حبراس، الذي أجده يملي علي الآن هذه السطور ويلح علي وقد غيَّبه الثرى: رفقا بصديقي!
لم تكن علاقتي بأبي سرور علاقة قراءة، فأنا لم أعاقرها إلا متأخرة!! بل كانت علاقتي به علاقة تلصص، فقد أدمنت التلصص على لقاءاتهما وأحاديثهما المقصودة والمرتجلة، حتى ارتبطت صورة أبي سرور في ذهني غالبا بالمطر، الذي كلما همى ساق الخصب والخير؛ ففي كل المرات التي يتصادف فيها لقاء خارج البيتين يكون الجو غائما، ووادي سمائل يرقص بمائه بين النخيل، وأبو سرور على إحدى الضفتين خارج سيارته يصيد القصيدة من وحي النهر الرقراق من حوله.
ولست أنسى جلساتهما التي كان آخرها في العام 2008م عندما حضر أبو سرور إلى بيتنا، فجلس بصحبة آخرين في فناء البيت عصرا، يطارح صديقه وجلاسه الشعر وأخبار الشعراء، وبقي الحال هكذا لساعات، قبل أن ينفض الجمع ولم يدر بخلد أحدهم أنه جلوسهم الأخير، إذ غادر صاحب البيت بعده بأشهر قلائل إلى جوار ربه، وبقي أبو سرور يحج إلى بيت صديقه بعد ذلك لمرات عدة، وفاء لصاحبه الذي آلمه غيابه عن دنياه. يأتي مشيا من بيته قرب مدرسة عائشة أم المؤمنين، إلى بيت صديقه في حلة الفتح مسافة كيلو متر تقريبا، ويأبى الدخول أو أخذ قسط من الراحة إلا واقفا ومسلما على عجل، ويمضي عائدا على قدميه رافضا كل دعوات إيصاله إلى بيته.
ليس أبو سرور الشاعر – الذي أحب أن أقدمه هنا – بقدر ما أقدم أبا سرور الإنسان، هكذا اخترت أن أتحدث عنه، عن نهر أبوته الذي يجري سلساله بين جوانحه وروحه فيفيض شعرا، فحالة الاندماج بين عائلته وعائلة حبراس جعلت أسماء الأبناء تتشابه في البيتين، وكأنما جرى الاتفاق بين الرجلين على تسمية أبنائهما بالأسماء ذاتها، كما لم يكن لأحد من الشعراء ذاك الكم من الذكريات العائلية – باستثناء عائلة الشيخ موسى بن عيسى البكري – كما هي مع عائلة أبي سرور، فمنذ الصحبة الأولى التي جمعت الاثنين معا على بساط الشعر، ثم القدر الذي اختارهما مع ثلاثة آخرين ليكونوا في بعثة دراسية إلى القاهرة لم يتمها حبراس، وبعدها مشوار العمل التدريسي الذي جمعهما في مدرسة مازن بن غضوبة، إلى أن فرقت بينهما المهمات التي أفضت بأبي سرور إلى الرحيل شرقا وغربا في طول البلاد وعرضها، فجعلت حبراس يرحل وراء صديقه زائرا، ونحن معه في أسفاره خلف الشاعر وشعره، حتى خلدا ذاك الشوق شعرا، فأرسل إليه حبراس في إبرا الأبيات التي حفظناها أبناء حبراس وأبناء أبي سرور معا:
يا طائر الشوق طر للشرق ميمـونا
واحمل بريشـك آهات المشــوقينا
وانشـر جناحيك في الأجواء منتحيـا
ساحــات إبرا الوفا مهـد الوفيينــا
وانزل على الأيك صـداحا بأغصنــه
تتـــــلو الغرام أناشــيدا وتلحينـا
فإن تربعت فـي دست الجــلال بها
فحي فيهــا العلا عـزا وتمكينـــــا
واقـــرا السلام عليهم مــن أخ ولهٍ
أظنـاه سقم النوى عن ربعــه حينـا
يسامــــر النجم والأشواق تسـعره
ويـــذرف الدمع في الخدين غسلينا
يا طائرا ناد لي في الحي من حسنت
فعـــــــــاله فغدا طودا سمـا دينا
أبا ســــــرور عظيم الأريحيــة من
سمت به همــة لا ترتضي الــدونـا
بنى حياة لها الذكر الحكيـم هــــدى
ونورها ســــــــنة من وحي هادينا
واستمطرت من سـما الآداب فكـرته
غيث البلاغــــــة سيبا سال سيحونا
لديه روض القوافي مـورق نضـــــر
يدلي بباقــــــــــاته وردا ونسـرينا
بيانه يتــــــرك الألبـــاب حائـــــرة
إن رددت شـــــــــدوه أنغام قارينـا
كأنه سحــر هـاروت ببــــــــابلـــه
يخلف الســــــــامع النصات مفتـونا
أبا سرور سطا الدهر الخــــؤون على
روض من الأنس نمــــــاه تآخينـــــا
قضى بحكم التنــــائي بيننا حســــدا
فبــــــــددت جمعنا غـــدرا ليـــالينا
فهل تعـــود لييـــــــــلات لنا سلفت
نجني ثمــــار الـــوفا منها أفانــــينا
ونحتسي من حميـــاها معتقـــــــــة
صـــــــرفا من الود في أحضان وادينا
وادي سمائل حيث العـــز من قــــدم
فيه بحد الظبـــــــا والسـمر قد صينا
حيث ابـــن بجدتها الطائــــــي مازنها
أتى بمشـــــــعل مختار الهـدى فينـا
حيث المســــــــاجد للنســـاك منتزه
رحب وروض أنيـــــق للمصلينــــــــا
حيث البــــلابل في أغصــــان غوطتها
تشــــــــدو الغناء فتستهوي المغنينا
حيث القلاع على هـــام العـلا ارتفعت
تـــروي لحاضرنا أمجــــــــاد ماضينا
هيا نعود إلى الفيحــــاء في جــــذل
حميــــــــد والشوق للأحباب يحـدونا
ولنجتمع في ربــــاها كي نعانــق في
أفيائهــــــــــا قـــادة غــــرا ميامينا
إخوان صــــدق عيـــــون الله تحفظهم
للدين والمجــــــد والعليـــاء باقينـــا
بدور تم قـــد ازدانت مرابعنـــــــــا
بهديهم قبســــا وانجـــــــاب داجينا
أبطال حرب إذا سمــر القنـا اشتبكت
لم تلفهـــــم للعـــدا إلا مطاعينــــا
لله مجلس آداب قــد ازدهــــــــرت
أيامنا فيــــه واخضرت قوافينـــــــا
عند الخليلي عبــدالله عمـــــــــدتنا
نجل الأئمــــة من بالنور جــــــاؤونا
يوما بأدغــــال نمشــــي في خمائلها
والشامســـي بلحن الشعــــر يشدونا
وتارة عند أستــــاذ غــــــــــدا علما
بيـــــن البرايا وشؤبــوبا لصـــــادينا
سليـل عيسى ومـــن لي أن أرى رجلا
كشخصــه الفـــذ ما بين المؤاخينــــا
أشياخنـــا في ربا الفيحــــــاء قاطبة
إليكم من تحيــــــاتي رياحينـــــــــا
فضضت ختم الشــذى عنهــــا لتحمله
إليكم نســـــمات من تصافينــــــــا
ولم يتأخر أبو سرور في جوابه، الذي أججته الأشواق السمائلية فاستعرت لتنداح القوافي في تذكار مرابع الفيحاء وأيامها، ليقول:
باق على الـود يا حبــــراس باقينـا
فابعث بشـوقك تستهو المشــوقينا
باق علــى الـود ما غنت مطـــوقة
تشدو الوفاء على أيــك الوفييــــنا
يا شاكي الشوق والأشواق مؤلمــة
إن تشـك شوقا شكونا نحن سبعينـا
شوقا تحملت لا يسطيــــــع يحمله
رضوى ولا خلت سينا أو فلســطينا
لكنمـا الصبر درع كنت حاملـــــــه
ولم أزل حاملا درع المـــــــــوفينا
غنت على أيك إبرا منــــك صــادحة
فأرسلت شجوها بين الشجيينــــــا
وخلفتنا وإبــرا والعلا معنـــــــــا
أسـرى يديها لها انقادت قوافينــــا
يا حـادي المجد والتاريــخ من بلــد
إليه تنتسب العليـاء تدوينــــــــــا
هيجت قيسا على ليلى فكيف تــرى
عواقب الذكريات للذكيينـــــــــــا
قيـــس أنا ذاك ليـــــلاه ومغـرمه
سمائــــل هل تراني ثم مغبــــونا
لله من بلد ســادت عمــــــان بمـا
أتى به مــازن من ديــــن هادينـــا
لله مــــازن لولا أنت ما عــــــرفت
عمــان عن ربهــا دنيــــا ولا دينـــا
قصــدت أحمد مختــار الإله ضحـــى
ولم تخف من بني الدنيـا فراعينـــــا
تيهي سمائل بالأمجـــاد زاهيـــــــة
كالشمس راد الضحى تلكــــم معالينا
ما ذي القـلاع التي قامــت دعائمهــا
على السـماكين إلا فخــر ماضينــــا
أضحت على الدهـر تاريخا نقدســــه
مجدا على الحـق نرويه ويروينــــــا
شــدنا قلاعك لا من عـزم واهيــــة
لكن بنينا على هامـات عاصينـــــــا
فهل تفاخرنا مصـر إذا ذكـــــــــرت
أهرامهــا وذكرنا برج طســـــــــينا
قلاعنا بنيت للمجــد عاليــــــــــــة
للديـــن ناصـــــــــرة لله تحـــدونا
دينت مفاخـــــر أجيال ســمت وعلت
لكن فخــرك عن عليـاه ما دينـــــــا
تلك المسـاجد بالفيحاء مدرســـــــة
للحرب قاعـــــــــدة مأوى المصلينا
قوم هم عرفوا المـولى وشـــــرعته
مازايلـوا النحلة الســــــمحا ميامينا
تراهم يذرفون الدمـــع إن سـجــدوا
فيها وإن برزوا يلفــوا ســــــلاطينا
وإن تسائل صروف الدهر إن ركبـــوا
لم تلف إلا مطاعيمــا مطاعينــــــــا
كأن عزريل في أيـدي ســـــــيوفهم
سيوفنـــا هي عزريـل العصييــــــنا
لو حاول الدهر يدنـو من كرامتـــــهم
لاندك من أصلـه وانخر موهــــــــونا
سمائل تنبت الأعــلام ما بــــــــرحت
ميمونة تنجب الأبنــــا ميامينـــــــــا
حبراس لو نذكر الماضـــي وأمتـــــه
شدنا على هامــة الجوزا أســـاطينــا
من لي بمثل الألى فازوا بما عمـلــوا
ســــــاروا على ملة الرحمن داعينــا
فهم لنا قـادة أعــــلام كل عـــــــــلا
نبني وما برحـــــــوا للمجد موحينـــا
ذكـــــــراهم بيننا فخــــر ومحمـــدة
وشـــــــكر بر وتاريـــــخ ينمينــــــا
كما كان لأبي سرور بعض الطقوس الشعرية الغريبة التي تصادفنا ونصادفها بين الفينة والأخرى في طريق ذهاب أو إياب، ويعرفها كل من عرف أبا سرور - وعرف سيارته البيضاء - حتى ما عدنا مع مرور الوقت نستغربها، فهو لا يحب ركوب السيارة إلا سائقا، على عكس صديقه، لذا كنا كثيرا ما نجد سيارته واقفة على الرصيف، وأبا سرور يقرفص خارجها مكبا على ورقة وقلم يدوِّن شيئا ما، وهو مشهد لفرط ما تكرر، بتنا نفهم إلى أي قدر أنتج شعرا، فينتابني لحظتها الفضول للتلصص على من ينتظر مرغما بداخل السيارة، مشفقة عليه من وقوف لا حول له فيه ولا قوة، بيد أنه مرغم على انتظار خاطر القصيدة الذي لا يرحم من لا يفهم الشعر وفجائيته.
يخطئ من يقرأ أبا سرور ولا يقرأ الامتداد الذي صنعه بروح الشاعر وعاطفة الأب، فمنذ عناوين قصائده التي تطالعنا في فهارس ديوانه ذي الأجزاء الأربعة، نجد أبوته حاضرة بكل تجلياتها، فيدخل في اليومي والعادي ليجعل منه شعرا، ويأبى ألا يشارك ابنا من أبنائه مناسبة مهما صغرت، ليخرج بها من حيزها الخاص إلى حيز الشعر، فهو ديوان الشاعر والعائلة معا، يأخذنا من خلال أبياته إلى عالمه الأسري الجميل والواسع، ليصنع من أحداثه صورة تنعكس على كل حدث مماثل لدى أي عائلة.
وقد استطاع أبو سرور أن يصنع عائلة أدبية متنوعة، ليأتي كل من محمود وعبد الحميد وعائشة وميمونة وغيرهم من أبنائه في طليعة المهتمين بالأدب من أبنائه، فلكل واحد منهم إنجاز أدبي له حضوره الجميل، وكيف لا يكونون كذلك وقد تتلمذوا على يد هذا الأستاذ الفذ، الذي لم تلهه مشاغل الحياة عن مسؤوليات الأب المربي، والأستاذ المؤدب، حتى كانت المائدة الحميدية بتنوعها لونا من ألوان العطاء الذي لا ينقضي.
تسلمي حبيبتي وصديقه العمر ع كلامك ومشاعرك الصادقه
ردحذفبوحٌ راقٍ ونثرٌ أرقى..
ردحذفسعدت بالتواجد هنا.