الأربعاء، 25 فبراير 2015

معرض الكتاب، وأنا

معرض الكتاب، وأنا

جريدة الوطن، ملحق أشرعة
1 من مارس 2015

منى بنت حبراس السليمية

      لا أعرف متى حمل لي معرض الكتاب حسّا طفوليا ملوّنا بالفرح. كنت أعرفه أيام المدرسة، ولكنه كان يعني نزهة خارج المدرسة والعودة بلفافة فشار أو كتيّب صغير أجيب به والدي الذي سيسألني عما اقتنيت فور عودتي إلى البيت.

    وفي الجامعة، تغير الأمر بفعل الضرورة، ولكن أهميته لم تكن تتناسب مع مصروفي الضعيف الذي لا يقيم شراء ما أريد، فبقيت أواسي نفسي بمكتبة الجامعة التي ستمدني بكل ما احتجت وإن قصّرت، ولكنها، رغم كل شيء، الخيار الذي ليس لي سواه.

    الدورة الأولى التي اختلف فيها معرض الكتاب عن سابقاتها، كانت في عام 2008م. يومها اشتريت كتبا أقرب إلى مزاج أبي منها إلى مزاجي، ولكنه مزاج لم يكن بعيدا جدا بعد كل شيء. كان ذلك قبيل حصولي على الوظيفة. ومعرض الكتاب دون وظيفة تُؤَمِّن لك مصروف الشراء سيحكم عليك بالحسرة، ولكن حسرة أخرى توفرها لك الوظيفة أيضا من جانب آخر؛ ارتباط وظيفي يحرمك من الذهاب وقت تشاء!

     ومع افتتاح كل دورة: يربكني سؤالان ما ينفكّان يوجّهان إليّ وإلى غيري، ومبعث الارتباك ليس لأن الإجابة عليهما صعبة – رغم أن الصعوبة من صفات السؤال لا الإجابة – ولكن لأنهما يشعرانني بأنني خارج السرب، وخارج النظام، وخارج نواميس القراءة الطبيعية، وخارج سنن الكون، على عكس جميع الناس – أو غالبيتهم على الأقل – الذين يسيرون وفق خطة محددة واضحة لا يحيدون عنها، فيكونون جميعا – كنتيجة أخالها حتمية – أقرب مني لتحقيق الهدف.

    أما السؤال الأول، فهو: هل أعددتِ قائمة بالكتب التي تريدين اقتناءها من المعرض؟ يُسقط في يدي لأنني لوهلة، أفهم أن الإجابة إذا كانت بنعم تعني شخصا يعرف ما يريد، ويعني نقيضُها العكسَ غالبا! وأنا التي لم أعترف بالقوائم قط – رغم عناوين أحرص على اقتنائها أحيانا – تعوّدت أن أمشّط المعرض دارا دارا، وأجد متعة بالغة عندما يختطفني كتاب لم أكن قد حسبت له حسابا، فمهما وضعتُ القوائم فإن متعة المرور على دور النشر كلها لا يعادلها شيء، لأن القوائم إذا كانت تعني أنني أعرف سلفا عناوين بعينها، فإن التمشيط يضعني في صورة الجديد الذي لم أعرف.

      أما السؤال الثاني فهو: هل قرأتِ كل ما اشتريتِ من معرض الكتاب الماضي؟ وهذا السؤال لا يثير ارتباكي بقدر ما يبعث غيظي، لأن الكتاب ببساطة ليس سلعة تُستهلك لنترقب تاريخ انتهاء صلاحيتها قبل الموسم التالي!

      هذا أولا، أما ثانيا: فالقراءة مشروع طويل المدى، لا ينحصر بين حدّين زمنيين ضيقين، ولا شيء يحتم الفراغ من القراءة – التي لا يجب أن تنتهي – في ظرف زمن محدد سلفا، أما ثالثا: فهو إن الكتب في عمان قلما نجدها في غير معرض الكتاب، وأن نكتفي بما اشتريناه في العام الماضي ولم نفرغ منه بعد، ونضرب عن الشراء في الدورة الحالية بسببه، فذلك لا يتلاءم مع بلد لا تتوفر فيها مكتبات تمدنا بالجديد كلما صدر.

    ختاما، سأقول: يجبرنا المجال البحثي غالبا أن نكون في معرض الكتاب كحاطبي ليل، لأننا ببساطة لا نعرف متى تحين الحاجة البحثية القاتلة لكتاب بعينه ويعز علينا العثور عليه هنا أو هناك. لذا، فلا قوائم ولا معيار يرتبط بما أشتريه اليوم يحكمه ما اشتريته سابقا. وسوف لن أفعل أكثر من أن أستسلم لرائحة الكتب وإغراءاتها، وليغرق صندوق السيارة، ولتغرق المكتبة، ولتغرق الغرفة، وليغرق البيت كله .. وأهلا بمعرض مسقط للكتاب 2015م، بشهيّاته وشهواته المباحة المؤجلة.

السياحة، التي لم تثر!

السياحة، التي لم تثر!

جريدة الرؤية
26 من فبراير 2015

منى بنت حبراس السليمية

    قبل يومين، كنت في طريق عودتي عبر الطيران العماني من دولة الكويت، وشد انتباهي أعداد الكويتيين الذين ملأوا مقاعد الطائرة أفرادا، وجماعات، وعائلات قادمين معي إلى مسقط، فجلستْ بجواري على مقاعد الدرجة السياحية فتاتان كويتيتان، بعدما توزعت عائلتهما في المقاعد أمامنا وعن يسارنا. سألتهما: تزورون السلطنة للسياحة أم لزيارة خاصة (وخشيت أن تكون مجرد ترانزيت)؟ بادرتني إحداهما بأنهم يزورون السلطنة للمرة الأولى، وقد قدموا إليها سياحة.

    قالت لي – تشير إلى سيدة تجلس في مقعد أمامنا: "خالتي زارت مسقط من قبل، وأقامت في شانغريللا، وتقول إنه عجيب، وجئنا لنقضي خمسة أيام في عمان للسياحة". سرّني ما قالت، وفي الوقت نفسه أخذني القلق: "ماذا سيجدون بعد شانغريللا؟"

    وفي موقف مشابه – وكنت في الكويت ما أزال – هاتفتني أختُ صديقة لي كويتية، تقول إنها تتوق لزيارة عمان، لأنهم يمدحون شانغريللا كثيرا، وقد كانت تظن أن شانغريللا في سمائل! فصححت لها المعلومة.

    وعودا على السؤال القلِق: ماذا سيجدون بعد شانغريللا؟ مؤكد أن الطبيعة في عمان مبثوثة طولا وعرضا، وفي فصل الشتاء تكون أكثر استقطابا للحركة السياحية، وهو ما كانت تقوله كويتية أخرى لزوجها (كما أتوقع) في الحافلة التي أقلتنا من سلّم الطائرة إلى مبنى القادمين. قالت – وأنا أنصت: "الجو حلو فـ عمان بيناير وفبراير، لكن صيفهم مو شي، كله رطوبة على عكس الحين، بس في الصيف يقولون صلالة وايد حلوة، آنا ما رحت بس جذيه يقولون".

    وعلى ذكر الصيف في صلالة، قالت لي صديقتي التي كنت في زيارتها، إن صديقة لها زارت عمان، وقالت إنه لا شيء فيها يشجّع على إعادة التجربة! سألتها مستغربة: "أين ذهبت في عمان؟!" قالت: صلالة. سألتها – أخمن خطأ في التوقيت – "في أي شهر كان ذلك؟" فكان جوابها مطابقا لتخميني: في فبراير. وجدتني أقول: "معها حق. صلالة للصيف .. وليست للشتاء، لأنها في الشتاء ما فيها شي فعلا!"

    فما الذي يجعل صلالة "ما فيها شي في الشتاء"؟ هل الموسم وحده ما يجعل فيها شيئا في الصيف؟ وهل كانت مدن العالم العربية والغربية بحاجة إلى خريف مماثل كي يكون فيها شيء طوال العام؟ في عمان لسنا بحاجة إلى افتعال الطبيعة أو إيجادها؛ لأن الله كان أكرم عندما منحنا إياها. نحن بحاجة إلى خدمات تتناسب مع ما تفرضه جغرافية السلطنة من قطع للمسافات، دون أن يضطر السائح للعودة من حيث جاء؛ لأن السكن المناسب، والمأكل المناسب، ودورات المياه، كلها لم تتوفر!

     صلالة، وسمائل، ومسقط، ومطرح، وسوق الظلام، وصحار، ونزوى، وبهلا، وغيرها من ولاياتنا العمانية تردّدت كثيرا على مسامعي في رحلتي تلك – كما في كل الرحلات التي أستطيع أن أقول باطمئنان إنها ليست قليلة – فلم يعد الترويج للطبيعة العمانية والتعريف بها معضلة، لأن غالبية من نعرف ونلتقي بهم يعرفونها جيدا، كبقعة سليمة آمنة في جسد عربي ملتهب، وهذه نقطة أخرى تضاف إلى رصيد الأهمية التي يشكلها قطاع السياحة في عمان اليوم.

    ولكن المعضلة هي: كيف نعزز الطبيعة بالخدمات؟ فما الذي يمنع أن يكون شانغريللا في سمائل فعلا – كما كانت تظن أخت صديقتي الكويتية؟ برأيكم: هل أحلم؟! سمائل – وسواها من الولايات –لا فنادق فيها حتى الآن، أين سيقيم السيّاح الذين أغريتهم بها وبفرادة واديها ونخيلها وجبالها، وبـ "السمدي" و"قلعة الخوبار" و"عين ورد"؟

     سمائل تخلو من المطاعم والمقاهي التي تليق بضيف جاء من الخارج، بعدما أُغلقت المحاولة الوحيدة التي تمثلت في "مقهى الرصافة" في قلب "المَدْرة"، وبقيت تلك التي تحمل لافتاتها اسم مطعم، ولكنها إلى شيء آخر أقرب. تعتمد على تقديم الطلبية واستلامها بعد حين .. بعيدا، حيث لا مكان سوى البيوت أو تحت ظلال النخيل.

    هل تحدثت عن سمائل كثيرا؟ هي مثال فقط، والأمثلة كثيرة ومبثوثة في ولايات شتى. وفي ظل انخفاض أسعار النفط، تبدو السياحة هي الفرصة الأكبر السانحة أمامنا الآن، إذا ما أردنا إنعاش اقتصادنا الوطني ونثبت أننا لسنا دولة اللون الواحد في مصادر دخلنا، وما لم تضع الدولة ثقلها في هذا القطاع، فقد لن تكون الفرصة مواتية في وقت آخر. أقول ذلك لأن أوضاع العالم الأمنية واضطراباته المتلاحقة تجعل من السلطنة – التي حجزت لنفسها درجة الصفر في مؤشر التهديدات الأمنية – ضمن الخيارات الأولى للباحثين عن السكينة والجمال.

    سأقترح أخيرا: مثلما سخّرت السلطنة إمكانياتها، ورسمت توجهها في السنوات الأخيرة نحو ريادة الأعمال، سيكون ضروريا في المرحلة الراهنة فعل الشيء ذاته نحو تطوير السياحة، ولتكن مؤسساتنا الصغيرة والمتوسطة موجّهة لهذا الهدف؛ لأن عمان الجميلة الآمنة تستحق اهتمامنا .. تستحق اهتمامنا.

الاثنين، 9 فبراير 2015

"حديث الفجر" الذي كان!

"حديث الفجر" الذي كان!

منى بنت حبراس السليمية

     لا أعرف متى رأيت الفجر لأول مرة، بزرقته الداكنة التي تفضح نورا غير بعيد. كنت طفلة ما أزال، وأعوامي لم تتجاوز أصابع الكف الواحدة بعد، عندما وجدتني مأخوذة بالزرقة الداكنة أمامي وهي تخرج من عباءة ليل أسود. بقيت ملتصقة بالنافذة، أرقب تدرجات الأزرق من دكنته إلى إشراقته حتى بزغت تلك الصفراء كاملة، والدهشة تضج بها روحي.

      فكرت لوهلة ما إذا كان أهلي يعرفون عن هذا! وما إذا رأى أحد منهم هذا المشهد قبلي؟ أسئلة ساذجة معجونة بالدهشة، رحت معها أنتظر استيقاظ شقيقتي لأخبرها بالسر، ولكن عدم اكتراثها جعلني أستيقظ في الفجر التالي؛ لأتأكد ما إذا كان ما رأيته في سابقه حقيقة أم بقايا نوم تعلق بأجفاني.

      تأكدت. فغدت مراقبة الفجر متعتي الخاصة التي لا يزاحمني عليها أحد. أصحو بإرادة كاملة، وشوق طفولي يكتشف العالم لتوه. طلبت – تاليا – من أمي أن تضع لي منبها على ساعة لا أعرفها متى بالضبط، قبل أن أكتشف أن الفجر يراوغ ساعته؛ يسبقها صيفا، وتسبقه شتاء.

      كبرتُ، وبقي الفجر دهشتي التي لا تزول. أرسم فيه أحلاما ناعمة كانقلابات الفجر الزرقاء من العتمة إلى النور، بلا صخب ولا ضجيج. ببطء ينقلب العالم من حال إلى حال أمام الناظرين. يعدهم بابتسامة كالشمس تدق جرس البداية الأزلية بيدها الحانية في ذلك الوقت من كل صباح.

     وعندما أصبح عليّ أن ألتحق بالمدرسة، تقلصت ساعات التأمل الفجري لصالح الاستعداد لمدرستي. قلّصها ترقب جديد، وقلق يأخذ القلب نحو فروض لم أخبرها من قبل، وانتظار لصباحات يشاركني فيها عالم المدرسة الجديد.

      ثم عندما كبرت أكثر، أخذته مني المذاكرة التي تمتد حتى قبيل دخولي لجنة الاختبارات، وشيئا فشيئا غدا الفجر من المؤجلات التي أتحين لها فرصة إجازة لا تلاحقني فيها التزامات تُقصيه إلى خانة المؤجل.

      وعندما كبرت كثيرا تلاشى الفجر تماما لصالح المشوار الطويل من البيت إلى العمل. كبرت وكبرت .. حتى وجدتُ فجري لاهثا يركض تحضيرا لعمل أو غرقا في زحام طريق يستحثه حرص الوصول على الموعد، أمام جهاز بصمة يحصي أنفاس فجر خلّفته ورائي.

     سُرق الفجر .. ولكني عندما تمكنت من استرجاعه أثناء تفرغي للدراسة، وجدته غافرا لزلة الحياة التي اقترفتها بدافع العيش، وجلس معي مقرفصا يستمع لحكاياتي وثرثرتي على لوحة المفاتيح، نشرب على شرفته شايا بالحليب نمزجه بالزنجبيل تارة وبالزعفران تارات. أكتب وأكتب، ووحده يسمع طقطقتي على اللوح في ذلك الوقت البرزخي من إفاقة النهار. يمد لي من هدوئه طاقة للكتابة، ويمنحني من صمته فرصة لأستمع لذاتي، حتى غدا الفجر عندي ميلادا لكتابة جديدة، ومشروعا لعمر قادم.

    وعندما رحت أتأمل ما كتبته في كل فجر مذ أصبحت لوحة المفاتيح ثالثتنا، وجدت الشمس تشاغبه لتكون شاهدة على أحاديث الفجر التي كانت، تزرع فكرة نشر النحت اليومي الممتد من صلاة الفجر وحتى تعامد الشمس في كبد السماء؛ الوقت الذي عجزتْ شهية الكتابة عن التمدد خارجه. رحت أجمع أشتاته، وأضمه بين جنبات مشروع حمل اسمه بنفسه – ولم أسمه – "حيث الفجر"؛ الحديث الذي لم يتيسر في غيره من أوقات يومي الطويل المشحون باللهاث خلف كل شيء إلا حديث داخلي.

أخيرا...

    كنت سأدفع بـ "حديث الفجر" إلى دار النشر، رغم ضيق الوقت الذي يحول دون أن يدرك معرض الكتاب بنهاية فبراير 2015م، لأعود أدراجي بعدها إلى معترك الحياة التي سرقت الفجر مني من قبل، وستظل تسرقه إلى أبد الدهر ... أسلّمه لها راضية أو مرغمة، والحنين يشدني لأحاديث أخرى ستبقى حبيسة حتى أسترد فجري من جديد.

      ولكن بدا أن العنوان "الكلاسيكي جدا" اصطدم مؤخرا برأي من عرفوا به، وعرفوني قبله، ولأنني أثق بهم قررت أن أغير وجهته، وأختار له عنوانا آخر، قد لا يكون الفجر إحدى مفرداته، ولكني وددت أن أخبرهم عن الفجر وحديثه، قبل أن يتربع العنوان البديل في غلاف كتاب ما كان ليرى النور لولا "حديث الفجر".

السبت، 7 فبراير 2015

قداسة الشعر

قداسة الشعر  
منى بنت حبراس السليمية

القدس العربي
9 من فبراير 2015م

"أكتب الشعر، ونشرت وأنا في سن صغيرة - في السادسة عشرة - في مجلات وطنية وعربية، ولدي ركام هائل، ولدي عقدة تجاه الديوان الشعري. أريد حين أشعر أن النهاية قد اقتربت أن أختار منتخبات وأنشر ديوانا واحدا فحسب؛ لأنني أقدّس القصيدة أكثر من أي شيء آخر."

هكذا افتتح الناقد المغربي "عبد الرحيم جيران" جلسته في مختبر السرديات العماني مساء يوم الأربعاء 28 من يناير 2015م في النادي الثقافي، بعدما قدمته الصديقة "بشرى خلفان"، ساردة سيرته العلمية والبحثية والثقافية، ومعددة قائمة كتبه السردية إبداعا ونقدا، ليضيف إلى تقديمها تلك العبارة التي لا لتشير إلى سهو طال ما أدلت به، بل لكي يقدم – في لطف- درسا في التواضع في حضرة الشعر المقدّس، وليوجّه رسالة إلى الشعراء.

الأكاديمي المغربي الذي استضافه النادي الثقافي ليقدم ورقة رئيسة في ندوة "الفرجة والمجتمع العماني" - والتي امتدت طيلة يومي 27 و28 من يناير 2015م - يكمل في منتصف العام الجاري عقده السادس، ولكنه يبدو شابا يختبر المعرفة، ويتهيبها من غير وثوقية، ونجده في أوج عطائه محاورا نظريات السرد في مختلف توجهاتها؛ يهدم ما استقر منها وصار في عداد القديم، ويؤسس للجديد بأناة، وترو، وفق رؤية معرفية تأسست تفاصيلها وفق خبرة طويلة، ومصاحبة رصينة  للنظريات السردية الغربية وأُسسِها المعرفية التي شكلت أنساقها.

يظهر هذا المسار المعرفي للأكاديمي عبد الرحيم جيران من خلال التراكم الرصين المتأني الذي تؤشر عليه إصداراته الآتية: كتاب "في النظرية السردية" - دار إفريقيا الشرق (2006)، الذي يعيد فيه النظر في مفهوم السيرة، والقراءات التي طالت رواية الحي اللاتيني للروائي سهيل إدريس، وكتاب "إدانة الأدب" ـ مطبعة النجاح (2008) الذي يحاور فيه الناقد الفرنسي الشهير تودوروف، وكتاب"علبة السرد: النظرية السردية من التقليد إلى التأسيس" – دار الكتاب الجديدة المتحدة (2013)، الذي يعلن فيه عن ميلاد منهج سردي عربي متكامل، وكتاب "سراب النظرية" ـ دار الكتاب الجديدة المتحدة (2013) الذي يقدم فيه النظريات النصية ويعيد النظر في أسسها. كما للناقد عبد الرحيم وجه آخر يتمثل في ممارسته الإبداع؛ فله في مجال الرواية: رواية "عصا البلياردو" الصادرة عن دار إفريقيا الشرق (2011)، ورواية "كرة الثلج" الصادرة عن دار الآداب (2013)، وفي مجال القصة القصيرة مجموعة قصصية موسومة بعنوان "ليل غرناطة"، صادرة عن  دار الأمان (2013). هذا إلى جانب الإبداع في مجال الشعر بصنفيه العمودي والحديث.     

وإذا كان الناقد عبد الرحيم جيران قد تجرأ على النشر في مجال السرد بنوعيه الرواية والقصة القصيرة، فإنه لم يستطع أن يصدر حتى اللحظة ديوانا واحدا، على الرغم من الركام الهائل من القصائد التي كتبها ونشرها في منابر عدة. يبرر الناقد موقفه هذا أنه ناجم عن كونه يعد القصيدة مقدسة لا يجوز العبث بقدسيتها. فعلى الرغم من سنواته الستين، وخبرته في الكتابة الشعرية ممارسة ونظرًا ما تزال القصيدةُ الإبداعَ الأجمل الذي يسكن المستقبل، والمستحق للانتظار مادام سيقنعه قبل النهاية باختيار منتخبات من قصائده تليق بديوان شعر وحيد.     

ما أجمل الرسالة يا سي عبدالرحيم! وما أصعب أن يتحملها قلب الشاعر وأنانيته الجميلة، التي ترقى دوما إلى أن تصير دربا يفضي إلى ذاته في تميزها واختلافها الجذري. وعلى الرغم من توقنا لظهور ديوانك الوحيد الذي تحلم به تتويجا للحياة، فإننا حتما لا نتمنى النهاية، التي لا يملك أحد موعدا محددا ودقيقا معها. ربما كنت تفكر في اكتمال التجربة، والإحساس ببلوغ الذروة التي تجعل منها قابلة لأن تحوز الرضا عندك، ولكن لا شيء مكتمل في العالم، ولن يكون مكتملا؛ فقل الشعر، واترك له فرصة أن يكون مزهرا في الآذان، وليذهب الديوان إلى الجحيم، ومعه الرهبة من الشعر، فرسالتك قد وصلت، كما أردت لها أن تصل. وصلت لتؤكد على الأهم وهو احترام الكتابة، وأن الشعر تركة ينبغي أن تورث على نحو أجمل، وأن العبرة ليست بالإصرار على الحضور في المشهد، وإنما بالإخلاص للشعر أولا وأخيرا.

ليس عليك- إذن- بعد الآن أكثر من تحرير الشعر من ديوانه، ومن ارتهانه بنهاية الحياة واكتمال دورة العمر، فالشعر ليس ما ضمّه ديوان، وسورته حدوده، بل ما ارتقى لمرتبة القداسة.