الأربعاء، 22 أبريل 2020

حديث مع روز اليوسف: هل تعيش الرواية العمانية عصر ازدهارها؟

حديث مع روز اليوسف: هل تعيش الرواية العمانية عصر ازدهارها؟ [1]

منى بنت حبراس السليمية

أعتقد – كما يعتقد غيري – أن التأريخ لريادة الرواية في عمان قد حُسم بتغليب المسألة التاريخية على المسألة الفنية، فلا يختلف اليوم اثنان على ريادة عبدالله الطائي الذي نشر أولى رواياته (ملائكة الجبل الأخضر) في عام 1981، وتلاها بروايته (الشراع الكبير) رغم أنهما كتبتا قبل هذا التاريخ بسنوات. ثم تلته أسماء كتبت الرواية في الثمانينيات وحتى نهاية التسعينيات أذكر منهم: سعود المظفر، وسيف السعدي، وحمد الناصري، ومبارك العامري، وعلي المعمري الذي أسس بروايته (همس الجسور) التي صدرت في 2007 لمرحلة جديدة من مسيرة الرواية العمانية كما ذهب لذلك شبّر الموسوي. وقد ناقشت بشيء من التفصيل موضوع التأريخ للرواية العمانية في مقال نشر في مجلة نزوى بعنوان (الأصوات الروائية الجديدة في عمان، العدد 85). ما أود أن أقوله في هذه المسألة: إن الريادة شأن تاريخي محض، وليس للشروط للفنية شأن في البت فيه.

وقد أصابت الكاتبة العمانية بسهم وافر في الكتابة الروائية، وتعود بداية إسهامها إلى عام 1999 عندما أصدرت الروائية بدرية الشحي روايتها (الطواف حيث الجمر) التي كانت علامة فارقة في مسيرة تطور الرواية العمانية بشكل عام. ثم هناك أسماء روائية عمانية مهمة: جوخة الحارثي التي أصدرت روايتها الأولى منامات في 2004، ثم (سيدات القمر) في 2010 التي فازت بعد تسع سنوات بجائزة مان بوكر العالمية 2019، ثم روايتها (نارنجة) التي صدرت في 2016 وفازت بأرفع جائزة محلية وهي جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب. وهناك هدى حمد التي انطلقت في الكتابة الروائية من روايتها (الأشياء ليست في أماكنها) في عام 2009 وفازت بجائزة الشارقة للإبداع العربي. ثم روايتها (التي تعد السلالم) في عام 2013، تلتها روايتها (سندريلات مسقط) في 2016، وأخيرا روايتها (أسامينا) في 2019. وبشرى خلفان بروايتها (الباغ) التي صدرت في 2016 أيضا، وحققت نجاحا واسعا ومقروئية عالية. بالإضافة إلى أسماء روائية أخرى دخلت عالم الكتابة الروائية وتفاوتت مستويات الكتابة الفنية لديها.

وإذا كان هناك ما يميز الرواية في بلد ما عن آخر، فهو الخصوصية المكانية بالدرجة الأولى، فلا يمكن إغفال خصوصية المكان في الرواية العمانية. عمان بلد غير مكتشف، وبقي على الدوام بعيدا عن دائرة الضوء التي غالبا ما تستأثر بها بلدان المركز العربي. وفي تصوري أن الرهان دائما على صدق الاشتغال على المكان ليس بوصفه مكونا فيزيائيا جامدا ويتجلى في النص عبر بوابة الوصف وحدها، وإنما من خلال ما ينطق به هذا المكان من مخزون حكائي يمد الجنس الروائي عموما بطاقة جديدة لم يكتشفها القارئ العربي أو العالمي من قبل. وبالرجوع لمعظم القراءات التي تناولت رواية (سيدات القمر) كانت كلها تجمع على السر المكاني الذي قدمته جوخة الحارثي في روايتها بما يشبه الاكتشاف الجديد. بالطبع هناك ما يمكن أن يميز الرواية العمانية غير المكان، ولكنها تبقى قواسم مشتركة؛ فكلنا نملك حكايات، ولكن المسألة هي كيف نكتبها.

وفي ظني أن أية محاولة لتقييم الرواية العمانية الآن ستتطلب حذرا بالغا، لاسيما بعد فوز جوخة الحارثي بمان بوكر 2019. ما أعتقده - أو ما آمله - أن الحال بعدها لن يكون كما كان قبلها، عربيا وعالميا؛ فالرواية العمانية الآن تمر بمرحلة الاكتشاف (أو الانكشاف) من قبل الآخر غربيا وعربيا، ولا نعرف المدى الذي يمكن أن تتسع له هذه الحالة، وما هي حدود خطها الزمني الذي يمكن أن تمتد إليه. ما نحتاجه هو أن نستثمر هذه الحالة بمزيد من الاشتغال على إلقاء الضوء على الرواية العمانية الجيدة، والدفع بها للقارئ الآخر سواء من خلال تقديم كشف نقدي يفتح آفاقها، أو بالبحث عن مسارات لترجمتها إلى اللغات الأخرى. وكما قلت في مقال بعنوان (عالمية الرواية العمانية؛ سؤال الكتابة والتلقي والزمن)  نشرته جريدة عمان في 24 يوليو 2018: "إننا لا نعرف أية صدفة قد تجمع قارئا من أقاصي الأرض بنص عماني تغير خارطته التاريخية". وبالضبط هذا ما حدث مع النص المترجم لرواية سيدات القمر بعد تسع سنوات من صدورها، فهي اليوم أشهر رواية عمانية بعد هذا الفوز.

​فهل نعيش الآن عهد ازدهار الرواية العمانية؟ أعتقد أن الحديث عن عهد ازدهار أدب ما حديث يقع في خانة المستقبل، إما بالتحقق أو بالتأريخ. ولكننا الآن لا نستطيع الحديث عن فترة ازدهار للرواية العمانية لأن هذا لم يحدث بعد. ولا نعرف إن كان سيحدث أم لا؛ لأن الرواية العمانية - كحال الرواية العربية عموما - تعاني مشاكلها الخاصة والعامة. وصعود أسماء روائية معينة لا يحقق بالضرورة ما يمكن أن نسميه فترة ازدهار. الازدهار لا يعني الكتابة وحدها، ولكنه يعني أيضا سياقات تلقٍٍ سليمة ومناخات حرية تتبنى الإبداع وتأخذ بيده ولا تصادره أو تمنعه. ما أعتقده أننا ما نزال بعيدين عن الفرصة التي يمكن أن تكون فترة ازدهار حقيقية. ولكن الأهم هو أن تستمر الكتابة، وتتوالى الإصدارات الروائية، وأن نبقى ندافع عن الكاتب وحقه في الكتابة، والزمن وحده هو الكفيل بالحكم على كل شيء، وأن يبقى الكاتب العماني، وأي كاتب ومهتم في أي بلد، يحلم بأن يكون أدب بلده مقروئا، وأن يحظى بحقه من الاهتمام والالتفات. 

أما التحديات التي تواجهه فأصنفها إلى نوعين: نوع خاص بالكاتب نفسه، ويتمثل في مدى قدرته على تطوير أدواته ومنجزه. ونوع يتصل بالبيئة التي يكتب فيها وتتلقى كتابته. ففي عمان هناك أزمة أسميها (أزمة تلقٍٍ)، تتمثل في محاولة تلقي الأدب بوصفه خطابا أخلاقيا تربويا، وتتم محاكمته اجتماعيا بحسب ما يدعو إليه من فضيلة أو العكس. في السنوات الأخيرة واجه عدد من الكتاب في عمان تنمرا غير مسبوق من شريحة واسعة ممن يزعمون أنهم قراء بدعوى ما تتضمنه كتاباتهم من إشارات وإيحاءات تخدش حياء المجتمع، ولم تسلم من ذلك رواية جوخة نفسها التي حازت على جائزة عالمية. أما التحدي الثالث فهو تحدي الرقابة التي باتت تمارس منعها المباشر لعدد غير قليل من الإصدارات الأدبية العمانية دون أن تقدم تبريرا لهذا المنع.

وفي ظني أن كل كاتب عربي يحلم بأن يحقق حضورا في مصر (طالما أن السؤال عن حضور الكاتب العماني عند القارئ المصري)، لأنها بلد كبير والانتشار فيها يحقق نصف المسافة بين الكاتب وبين القراء العرب. أما التبادل المفترض فينبغي أن تحققه دور النشر كما أتصور، لأنها المعنية بعملية التوزيع في المقام الأول، فليس من مهام الكاتب (وهذا شيء أصر عليه) أن يوزع كتبه، وإنما هي واحدة من أولى مهام دور النشر التي تذهب بالكتاب إلى القارئ العربي في معارض الكتب كما نتخيل. ولكن دعيني أخبرك بشيء: هناك دور نشر  تنشر لمجموعة كبيرة من العمانيين (على سبيل المثال)، ولكننا في معرض الكتاب بمسقط نكتشف أن معروضها هي الكتب العمانية فقط دورة بعد دورة. وحصل أن سألت في إحدى الدورات عن كتاب لكاتب سعودي فقيل لي إنهم لم يشحنوه لأن كمية الكتب العمانية التي شحنوها كانت مكلفة، وعلى كلٍ هذه هي الكتب المطلوبة في عمان. تلقائيا فكرت أن هذه الدار عندما تذهب إلى السعودية ستشحن كتب السعوديين فقط، وعندما تحل في بلد آخر تشحن كتب ذاك البلد وهكذا. يعني كتبكم بينكم! فكيف يحدث التبادل بين البلدان إذا كانت دور النشر تعرض للمتلقي ما يصدر عن مواطنيه فقط؟ الحديث عن دور النشر يطول كثيرا وذو شجون، ولكن هناك بوارق أمل في دور نشر تعمل بمهنية عالية ونسعد بنشاطها وتسويقها لما يصدر عنها. اليوم أستطيع أن أقول إن دار النشر أصبحت عتبة مهمة من عتبات القراءة: عن أي دار تنشر أقل لك ما كتابتك. هكذا أفهم السوق: من يكرس نشر السيئ لن تتوقع منه جيدا، واجتماع الغث والسمين في جناح واحد ليس في صالح الجيد بطبيعة الحال. وعلى الكتّاب أن يتخيّروا لكتبهم دورا تكمل معهم المشوار الذي بدأوه بألم الكتابة، لأن النشر ألم هو الآخر، ولابد من التصدي له بإخلاص لا يقل عن إخلاص الكتابة.

حسنا، يبدو أنني سأنهي بالسؤال الذي أرجأته طويلا، فأنا نادرا ما أجيد الحديث عن نفسي، ولكني أعتقد أن المشهد الثقافي في عمان عرفني أول مرة في الشارقة. كان ذلك في ملتقى الشارقة للإبداع العربي الثاني في ديسمبر 2011. جرت العادة أن تُرشِح جمعية الكتّاب والأدباء أو الرابطة في كل بلد خليجي كاتبين وناقد واحد في كل دورة، ولكن في السنة التي شاركت فيها طُلب من الجمعية العمانية للكتاب والأدباء أن تُرشح كاتبين فقط؛ لأن الناقد (المفترض) قد تم اختياره وهي منى السليمي. حارت الجمعية وأعضاؤها في منى السليمي هذه التي لم يكن أحد قد سمع بها من قبل، وليست عضوا في الجمعية أساسا. يعود هذا الأمر إلى الروائي السعودي محمد المزيني الذي جمعتني به صداقة خلال مرحلة إعداد الماجستير، وتحمس لمشاركتي في الملتقى الذي كان على وشك التحضير له بصفته عضوا في مجلس أمنائه. كانت ثقة كبيرة منه وأرجو أني لم أخيبها. من هناك كانت أولى بداياتي.
قبلها كانت كتاباتي ومحاولاتي لا تتجاوز سطح مكتب جهازي المحمول، وأحيانا النشر الشحيح في ملحق شرفات الذي كانت تصدره جريدة عمان أسبوعيا. في الواقع نشرت فيه مرة واحدة فقط قبل ذلك التاريخ.
وإذا كان لي أن أتذكر محطات فارقة في حياتي، فأتصور أن كل جهد ننجزه إنما هو محطة، لذا فإن مشاركتي في الشارقة كانت محطة، وقبلها كان حصولي على الماجستير محطة سابقة في غاية الأهمية، لأن ما اكتشفته فيها ما كنت لأكتشفه في مرحلة البكالوريوس ربما. ثم مؤخرا مرحلة الدكتوراه في المملكة المغربية. لا أعني بطبيعة الحال أن الحصول على الشهادة بحد ذاته محطة، ولكن الرحلة نفسها واكتشاف الجديد في كل مرة. ولكني سأبوح لك بسر وهو أنني كائن كسول في العادة وما لم أضع العمل في سياق يُلزمني به فسآخذ وقتا طويلا لحين إتمامه؛ لذا أربط البحث بشرط زمني، وهذا الشرط هو  الشرط الأكاديمي.
وإلى الجانب النقدي، هناك محاولاتي السردية التي أودعها دائما في مدونتي الصغيرة (سماء وإلف). ثمة شغف يلازمني في الجمع بين الاشتغال النقدي والكتابة السردية، ولكني أجد نفسي باحثة أكثر من كوني ساردة، وهذا ليس اختيارا بعد كل شيء، ولو كان باختياري لاخترت أن أكون روائية.

ــــــ
[1] أصل المقال حوار صحفي أجرته معي ماجي حامد ونشر في مجلة روز اليوسف بتاريخ 22 يناير 2020

السبت، 4 أبريل 2020

العالم بعد عام من كورونا

العالم بعد عام من كورونا

منى بنت حبراس السليمية


في 27 يوليو 2018 كتبت منشورا في الفيسبوك قلت فيه: "كانت السنوات في ذاكرتي علامات، فلا يمكن أن تكون ٢٠٠٥ مكان ٢٠٠٦، ولا أن تختلط أحداث سنة ٩٢ بـ ٩٣. كل شيء كان مصفوفا بعناية داخل رأسي قدر ما يستطيع أن يتذكر. ولكن بعد ٢٠١١ اختلطت أوراقي، وما عادت ذاكرتي تحفظ جيدا حدثا إذا ما حدث في ٢٠١٢ أو ٢٠١٣، وفقدت التمييز بين ذكرى محددة أوقعت في ٢٠١٥ أو ٢٠١٦؟
الأغرب من كل هذا أني أشعر أن عام ٢٠٢٠ بات شيئا من الماضي، وأننا نعيش أحداثا عشتها من قبل، وأستغرب كيف أننا ما نزال في ٢٠١٨! لابد أن في الأمر خدعة، وأني ضحيتها".

لا أعرف الباعث الذي دفعني لكتابة هذا الكلام قبل عامين! لعله الاحتياج إلى التنبؤ، إذا أمكن أن يكون التنبؤ بالمستقبل احتياجا. ولا يهم بعد ذلك أصدق ما تنبأنا به أم أخطأ.

ولكن النص أعلاه - مقارنة بما نعيشه حاليا في عام 2020 - يشي بأن الأحداث، على الأقل، ستعود إلى الترتيب والتموضع الصحيح في ذاكرتي بعد خربطة عانتها طوال العقد الأخير (في حال مازلت أثق في سلامة ذاكرتي)؛ فما بعد كورونا لن يكون كما قبلها. عبارة لاقت رواجا واسعا من شرائح مختلفة بسبب التحولات التي حتمتها الأزمة، فما كنا نعتقده صعبا ويستغرق زمنا طويلا أصبح بالإمكان تنفيذه تحت إلحاح الضرورة. ولكن هل سيكون ما بعد كورونا مختلفا حقا عما قبله؟ لا أحد يستطيع الجزم بأن الحال لن يعود سيرته الأولى بعدما يطمئن الإنسان ويركن إلى كسله الفطري وقد زالت الضرورة التي ساقتها الأزمة.

حسنا، سؤال الصديق طالب الرفاعي عن توقعي لما سيكون عليه الحال بعد عام من الآن، سؤال أسهل مما لو كان عن الحال في مستقبل أبعد غير محدد. أما والحال هكذا، فأتوقع أننا سنكون أمام أحد أمرين: أن يكون العالم قد تعافى لتوه من كورونا، أو أنه ما يزال يرزح تحت وطأته إذا ما أخذنا في الحسبان تصريحات جهات عالمية تتوقع بأن أي لقاح لكورونا لن يكون متاحا قبل حلول 2021 (وهي توقعات يجب أخذها على محمل الجد بعد كل شيء).

وفي كلا الحالين (إذا ما بقينا على قيد الحياة بطبيعة الحال) أحسب أن العالم لن يغادر حذره في ممارسة حياته السابقة، إذ لن تعود الحياة سريعا إلى ما كانت عليه وحتى وقت طويل، وإنما سنعمد إلى مزاولة حياتنا عن بعد رغم ما سيؤول إليه كورونا من تلاش وزوال؛ فمن يضمن عدم مباغتتنا من فيروس آخر وقد بدت هشاشة العالم كالحة أكثر من أي وقت مضى؟ لن تعود حياتنا الاجتماعية كما كانت عليه، وسنتجنب التجمعات الكبيرة لوقت بعيد، وسنبتكر طرقنا الجديدة في التواصل والسلام والتحية. وسنعتمد العالم الافتراضي أسلوب حياة، وسنعود لعقد ندواتنا وملتقياتنا ولكن عن بعد، لنكتشف أنه كان بإمكاننا فعل أشياء كثيرة بأقل التكاليف، دون أن نفقد متعتنا بها. على الرغم مما قد يعتقدهالبعض بأننا سنميل إلى التعويض عن مدة التباعد الاجتماعي بالإمعان في التقارب والمصافحة والاحتضان كإعلان انتصار على الزمن الذي تمدد كورونا فيه بيننا.

تُعلمنا  الحياة بأن المستقبل قد يحمل الكثير من أمثال كورونا، وأن العالم معرض لأن يصاب بالشلل الكامل مرات ومرات، وأن المستقبل الحقيقي لمن يتعلم الدرس جيدا ويعمد فورا إلى تقوية مناعته الداخلية، وتعزيز صناعاته المحلية، وتحقيق اكتفائه الذاتي من الغذاء والدواء والمعدات اللازمة في ظروف كهذه، والأهم لمن يعلي من شأن البحث العلمي،  ويرمم قصور أنظمته الصحية والبحثية. فمن يدري لعل كورونا الحالي ليس سوى مقدمة مخففة لحالات أكثر شراسة لا قدر الله.

قبل أسابيع طرحتُ سؤالا على الروائية العمانية بشرى خلفان في البرنامج الإذاعي (المشهد الثقافي) الذي يعده زميلي خلفان الزيدي، قلت لها: هل تتوقعين ظهور ما يعرف بأدب العزلة وصدور أعمال أدبية تتخذ من كورونا مادة على غرار رواية ماركيز (الحب في زمن الكوليرا)؟  اعتقدت بشرى إن هذا غاية في الإسفاف والابتذال لو تحقق، ورجت ألا يتهور الكتاب في هذا الاتجاه.

وفي ظني أن الكتابة لا تحتاج إلى عزلة وزمن متاح وحسب، بل تحتاج لما هو أهم من ذلك كله: إنها تحتاج إلى إحساس الكاتب بطبيعية العالم من حوله؛ لأن الكتابة ترجمة لحالة الاضطراب الداخلي لصاحبها، وحتى تتحقق فإنها تشترط سكون العالم حول فاعلها. ولكن يبقى هناك من يملك القدرة على الكتابة تحت أي ظرف. وحتما بعد عام من الآن سنجد أنفسنا أمام أعمال أدبية تولد من رحم هذه اللحظة، ولكني لن أتحمس لقراءة شيء منها لسببين:
الأول، غياب المسافة الفاصلة بين الحدث ولحظة الكتابة؛ ما يعني غالبا كتابة مستعجلة لم تأخذ فسحتها الكافية لتنضج وتختمر.
- أما السبب الثاني فهو أن ما نشهده في واقعنا الآن إنما هو أغرب من أي عمل تخييلي، وأتصور أننا نعيش رواية لم يكتبها أحد، وإذا ما كتبها أحدهم مستقبلا فلن تكون مدهشة بالقدر الذي عشناه ونعيشه فعلا على أرض الواقع.

ستختلف الكتابة حتما، شروطها، أسلوبها، شكلها. أليست الكتابة هي الإنسان؟ واليوم يخضع هذا الإنسان لتجربة مريرة عامة. يعيشها العماني كما يعيشها الصيني والأمريكي وحتى الإنسان القطبي. ولكن التجربة رغم مرارتها مثيرة، لأنها أدخلت العالم كله في فرن واحد، تصغر أمامها كل التجارب المشتركة السابقة التي مرت على العالم، لأن ما كان ينقصها في ذلك الوقت هو المعايشة الآنية للحدث في عالم مترامي الأطراف بفضل ما وفرته الآلة الإعلامية الهائلة، فنعرف من أصيب بكورونا في أقاصي الأرض في اللحظة نفسها التي تظهر فيها نتيجة الفحص.

يتغير العالم بسرعة مجنونة، ويفرز قواه بشكل بالغ الوضوح، ويختبر قوة علاقاته وتحالفاته وتكتلاته، ويمحص السياسات والسلوكيات، ويعري عيوب كل بلد ونواقصها بموضوعية موجعة. ولكن رغم ذلك كله، ليس على أن الأدب أن يسرع؛ لأن رأس ماله هو فاصل الوقت، لا العزلة ولا الموضوع وحدهما كفيلان بإنتاج أدب يصمد في المستقبل.

3 أبريل 2020