العالم بعد عام من كورونا
منى بنت حبراس السليمية
في 27 يوليو 2018 كتبت منشورا في الفيسبوك قلت فيه: "كانت السنوات في ذاكرتي علامات، فلا يمكن أن تكون ٢٠٠٥ مكان ٢٠٠٦، ولا أن تختلط أحداث سنة ٩٢ بـ ٩٣. كل شيء كان مصفوفا بعناية داخل رأسي قدر ما يستطيع أن يتذكر. ولكن بعد ٢٠١١ اختلطت أوراقي، وما عادت ذاكرتي تحفظ جيدا حدثا إذا ما حدث في ٢٠١٢ أو ٢٠١٣، وفقدت التمييز بين ذكرى محددة أوقعت في ٢٠١٥ أو ٢٠١٦؟
الأغرب من كل هذا أني أشعر أن عام ٢٠٢٠ بات شيئا من الماضي، وأننا نعيش أحداثا عشتها من قبل، وأستغرب كيف أننا ما نزال في ٢٠١٨! لابد أن في الأمر خدعة، وأني ضحيتها".
لا أعرف الباعث الذي دفعني لكتابة هذا الكلام قبل عامين! لعله الاحتياج إلى التنبؤ، إذا أمكن أن يكون التنبؤ بالمستقبل احتياجا. ولا يهم بعد ذلك أصدق ما تنبأنا به أم أخطأ.
ولكن النص أعلاه - مقارنة بما نعيشه حاليا في عام 2020 - يشي بأن الأحداث، على الأقل، ستعود إلى الترتيب والتموضع الصحيح في ذاكرتي بعد خربطة عانتها طوال العقد الأخير (في حال مازلت أثق في سلامة ذاكرتي)؛ فما بعد كورونا لن يكون كما قبلها. عبارة لاقت رواجا واسعا من شرائح مختلفة بسبب التحولات التي حتمتها الأزمة، فما كنا نعتقده صعبا ويستغرق زمنا طويلا أصبح بالإمكان تنفيذه تحت إلحاح الضرورة. ولكن هل سيكون ما بعد كورونا مختلفا حقا عما قبله؟ لا أحد يستطيع الجزم بأن الحال لن يعود سيرته الأولى بعدما يطمئن الإنسان ويركن إلى كسله الفطري وقد زالت الضرورة التي ساقتها الأزمة.
حسنا، سؤال الصديق طالب الرفاعي عن توقعي لما سيكون عليه الحال بعد عام من الآن، سؤال أسهل مما لو كان عن الحال في مستقبل أبعد غير محدد. أما والحال هكذا، فأتوقع أننا سنكون أمام أحد أمرين: أن يكون العالم قد تعافى لتوه من كورونا، أو أنه ما يزال يرزح تحت وطأته إذا ما أخذنا في الحسبان تصريحات جهات عالمية تتوقع بأن أي لقاح لكورونا لن يكون متاحا قبل حلول 2021 (وهي توقعات يجب أخذها على محمل الجد بعد كل شيء).
وفي كلا الحالين (إذا ما بقينا على قيد الحياة بطبيعة الحال) أحسب أن العالم لن يغادر حذره في ممارسة حياته السابقة، إذ لن تعود الحياة سريعا إلى ما كانت عليه وحتى وقت طويل، وإنما سنعمد إلى مزاولة حياتنا عن بعد رغم ما سيؤول إليه كورونا من تلاش وزوال؛ فمن يضمن عدم مباغتتنا من فيروس آخر وقد بدت هشاشة العالم كالحة أكثر من أي وقت مضى؟ لن تعود حياتنا الاجتماعية كما كانت عليه، وسنتجنب التجمعات الكبيرة لوقت بعيد، وسنبتكر طرقنا الجديدة في التواصل والسلام والتحية. وسنعتمد العالم الافتراضي أسلوب حياة، وسنعود لعقد ندواتنا وملتقياتنا ولكن عن بعد، لنكتشف أنه كان بإمكاننا فعل أشياء كثيرة بأقل التكاليف، دون أن نفقد متعتنا بها. على الرغم مما قد يعتقدهالبعض بأننا سنميل إلى التعويض عن مدة التباعد الاجتماعي بالإمعان في التقارب والمصافحة والاحتضان كإعلان انتصار على الزمن الذي تمدد كورونا فيه بيننا.
تُعلمنا الحياة بأن المستقبل قد يحمل الكثير من أمثال كورونا، وأن العالم معرض لأن يصاب بالشلل الكامل مرات ومرات، وأن المستقبل الحقيقي لمن يتعلم الدرس جيدا ويعمد فورا إلى تقوية مناعته الداخلية، وتعزيز صناعاته المحلية، وتحقيق اكتفائه الذاتي من الغذاء والدواء والمعدات اللازمة في ظروف كهذه، والأهم لمن يعلي من شأن البحث العلمي، ويرمم قصور أنظمته الصحية والبحثية. فمن يدري لعل كورونا الحالي ليس سوى مقدمة مخففة لحالات أكثر شراسة لا قدر الله.
قبل أسابيع طرحتُ سؤالا على الروائية العمانية بشرى خلفان في البرنامج الإذاعي (المشهد الثقافي) الذي يعده زميلي خلفان الزيدي، قلت لها: هل تتوقعين ظهور ما يعرف بأدب العزلة وصدور أعمال أدبية تتخذ من كورونا مادة على غرار رواية ماركيز (الحب في زمن الكوليرا)؟ اعتقدت بشرى إن هذا غاية في الإسفاف والابتذال لو تحقق، ورجت ألا يتهور الكتاب في هذا الاتجاه.
وفي ظني أن الكتابة لا تحتاج إلى عزلة وزمن متاح وحسب، بل تحتاج لما هو أهم من ذلك كله: إنها تحتاج إلى إحساس الكاتب بطبيعية العالم من حوله؛ لأن الكتابة ترجمة لحالة الاضطراب الداخلي لصاحبها، وحتى تتحقق فإنها تشترط سكون العالم حول فاعلها. ولكن يبقى هناك من يملك القدرة على الكتابة تحت أي ظرف. وحتما بعد عام من الآن سنجد أنفسنا أمام أعمال أدبية تولد من رحم هذه اللحظة، ولكني لن أتحمس لقراءة شيء منها لسببين:
- الأول، غياب المسافة الفاصلة بين الحدث ولحظة الكتابة؛ ما يعني غالبا كتابة مستعجلة لم تأخذ فسحتها الكافية لتنضج وتختمر.
- أما السبب الثاني فهو أن ما نشهده في واقعنا الآن إنما هو أغرب من أي عمل تخييلي، وأتصور أننا نعيش رواية لم يكتبها أحد، وإذا ما كتبها أحدهم مستقبلا فلن تكون مدهشة بالقدر الذي عشناه ونعيشه فعلا على أرض الواقع.
ستختلف الكتابة حتما، شروطها، أسلوبها، شكلها. أليست الكتابة هي الإنسان؟ واليوم يخضع هذا الإنسان لتجربة مريرة عامة. يعيشها العماني كما يعيشها الصيني والأمريكي وحتى الإنسان القطبي. ولكن التجربة رغم مرارتها مثيرة، لأنها أدخلت العالم كله في فرن واحد، تصغر أمامها كل التجارب المشتركة السابقة التي مرت على العالم، لأن ما كان ينقصها في ذلك الوقت هو المعايشة الآنية للحدث في عالم مترامي الأطراف بفضل ما وفرته الآلة الإعلامية الهائلة، فنعرف من أصيب بكورونا في أقاصي الأرض في اللحظة نفسها التي تظهر فيها نتيجة الفحص.
يتغير العالم بسرعة مجنونة، ويفرز قواه بشكل بالغ الوضوح، ويختبر قوة علاقاته وتحالفاته وتكتلاته، ويمحص السياسات والسلوكيات، ويعري عيوب كل بلد ونواقصها بموضوعية موجعة. ولكن رغم ذلك كله، ليس على أن الأدب أن يسرع؛ لأن رأس ماله هو فاصل الوقت، لا العزلة ولا الموضوع وحدهما كفيلان بإنتاج أدب يصمد في المستقبل.
3 أبريل 2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق