الخميس، 24 أبريل 2014

الكتابة الحلم

الكتابة الحلم

لـ منى بنت حبراس السليمية

      دائما اتخذتْ علاقتي مع الكتابة صورة جدلية، تسحبني في غورها، وأسحبها في دوامة من بحر نفسي التي لا تستكين، فمنذ بداية عهدي بها رضيت بحقيقة الصراع بيننا، فأحببت تقلباتها التي طالما نالني من تعنتها الكثير .. وآمنت – كعربون علاقة أنشد أن تكون أبدية – أنها صاحبة سلطة، وأنها تصنعني بالضرورة ولا أصنعها.

     هكذا شخَّصتُ حقيقة العلاقة بيني وبينها، وأجدني راضية بصورة تجمعني بها على هذا النحو، فهي إشكاليتي التي ليس من حل لها إلا بها .. تأتي ولا تأتي، فأظل أستجديها بكل غالٍ ونفيس لكي تزور، ولكنها غالبا ما تزوَّر.

     أعرف تماما أني مهما بذلت لها المطارف والحشايا لن تأتي ما لم تكن صاحبة قرار في نفسها، فكم من مرة اقتعدت لها كرسي مكتبي الصغير، وبقيت خلف طاولته ساعات أنتظر مخاضا لا يأتي، وإذا ما جادت بالحرف أو الحرفين فإنها سرعان ما تهرول بعيدا بقهقهاتها العالية، فأفهم بالسرعة ذاتها أنها لا تأتيني كلها؛ كي لا أكون كلي .. إنه العهد الذي قطعته على نفسها بألا يجمعنا معا كيان نصي واحد، ولا ينبغي لنا أن نبلغ معا نقطة زمنية ننعتها بالتوحد.

     إنها الحلم الذي لا يتحقق، ولأنها كذلك سيبقى قلمي ينشدها، ويرضى منها باليسير، ليبقى إحساسي - مهما بلغ إعجاب الناس بكل ما خربشت حتى اللحظة - أني ما فعلت شيئا بعد، ومتى ما أحسست بذلك أكون قد مت .. "فالقصيدة الأجمل هي دائما تلك التي لم أكتبها بعد، ومتى كتبتها أكون قد مت .. أطال الله بقائي".

      هكذا قالها "أدي ولد أدبا" ذات مساء أميري، ولم يكن يعرف أنه يجترح من إحساسي غاية الألم، وغاية الرغبة، وغاية الحنين، فالكتابة ضرب من الجمال، بل أقصى غايات الجمال، لا تكشف عن حلاوتها إلا بما يغذي كتابة جمال آخر، ولكن الجمال المكتوب لا يأتي، فيتكرس الجمال الداخلي الذي لا يراه أحد، وحدي أحسه وأتغير به، ولكن أحدا لا يلحظ تغيري.

      دائما تمنيت العثور على جمال يشبهني، جمال لا يتجلى للأبصار؛ لأنني على يقين بأنني – مهما ملأت الفراغات من حولي – لن تبصرني العيون.

      فأتعجب ممن اخترع مسابقات ملكات الجمال، كيف لم يخترع مسابقة لجمال الأشياء غير المرئية فينا؟! وكيف لم يع أن الجمال ليس أنثى بالضرورة، ولكنه كلمة تستطيع أن تكون أنثى، كما تستطيع أن تكون شيئا آخر،، أي شيء.

      ولدتُ وبداخلي رغبة كتابة لا تتحقق، وكم اشتهيت أن أفجِّرها في كلمات، فمازال يؤلمني أن أراهم ينزفون كلمات وأبقى أنا أنزف صمتا، فلطالما استطعت شيئا لا يتجسد، وأريد أن أنتفض لتتطاير مني الكلمات: كلمات كلمات كلمات . . . ولكني أتشظى فتاتٍ من كل شيء إلا الكلمات.

       أذكر تماما عندما كنتُ في عامي الجامعي الثاني، إذ كنت أواظب على حضور أدبيات الخليل، فتباهيت أن كنت في الخليل، ولكن أحدهم كسر أشرعتي، ولم تكن مناعتي ضد الأقوال المتطايرة قد قويت بما يكفي لامتصاص الآخر، كقوقعة كنت، مكتفية بأن أجد نفسي على الشاطئ، تتنازعني رغبتا الانتماء إلى البر وإلى البحر. قال: حددي، ماذا ستكونين بعد أن تتجاوزي مرحلة كتابة الخواطر؟ أقاصة أم شاعرة؟ 

      أخذتني الصاعقة بغتة! أيجب أن أكون واحدا من هذين؟ ألا يكفي أن أكتب نصا تسميه أنت خاطرة؟ ولكني ابتلعت غصتي ولم أجاهر بالسؤال المكظوم، وبقيت أفتش عن أناي القاصة أو الشاعرة في داخلي، ورغم ركض السنين لم أعثر على أي منهما، وبقيت تائهة لا أعرف لمن أنتسب!

      فإلى متى أستجدي القصيدة ولا تأتي، وإلى متى أحاول القصة ولا أستطيع، ومع ذلك لا أحس أبيات في جوفي، ولا حكاية في فمي أسردها على عجل، وما خشيت يوما أن أموت وفي فمي حكاية كما كانت تخشى هدى حمد، إذ لم يكن همي أن أبحث عن قالب أصب فيه الكلمات، بل كان بحثي عن الكلمات، والكلمات فقط.

      وبعد قرن من الزمان، وجدتني أعاقر القراءة، فقد عددتها كتابة في اتجاه عكسي، وفعلا مكمِّلا حتما، فرحت أعبُّ من هنا وهناك، وكلما فعلت أدركت كم هي الشقة بعيدة ما بيني وبين الكتابة الحلم، ودون أن أدري وجدتني أكتب قراءاتي، فذهبت - وقد ملأتني كتابتي الجديدة عمرا من السعادة – إلى أستاذ عرَّفني بنفسي الكاتبة، فقال: تحولتِ إلى ناقدة!! فحق علي أن أخشى على ذاتك الكاتبة!

       صعقت ثانية، وعدت أفتش عمن كنتُها، عن تلك الكاتبة التي يعرفها، ولكني لم أجدها. بحثتُ عنها في كل خربشاتي منذ نص "أمي" الذي قرأته ذات صباح مارِسيِّ في طابور المدرسة، عندما كنت ما أزال في الصف الأول الإعدادي، إلى آخر نص كتبته في الذكرى الأولى لرحيل أبي، فعجزت!

      حتما لم يكن يسخر مني، حتما قرأ ما لم أعثر عليه في حملة بحثي المجنونة، غير أني وجدتها أخيرا، عرفت أين وجد أناي الكاتبة، وجدها فيما لم أكتبه بعد، في حلمي الذي لم يتحقق، وجدها في الجمال غير المرئي فيَّ، وجدها حيث لا يجب أن يفعل، فياله من مخترع – مخترق – كبير!

      والآن، كلما أسلمت جفني للكرى، رأيت فيما يرى النائم أني أكتب صفحات ملأى بالكلمات، أرى كلمات تتقافز في كل مكان، وتطير هنا وهناك، وينبت لما كان منها يدور في الأرض ريش فجأة، فتحلق حولي، وتحط فوق رأسي، وعلى كتفي، فأشعر في احتفائها بي بسعادة ونشوة بالغة، فنقهقه معا، نضحك عاليا، نرقص جميعا في حلقة لا تنتهي، أشبه بحلقات الدراويش في وجدهم وانعتاقهم من ربقة العالم الذي يريدون الانفلات منه، حتى إذا ما أنهكنا الدوران والضحك، تختبئ معي تحت الغطاء وننام.

       وعندما أصحو أجد كل الروايات - التي اقتنيتها من معارض الكتب، وتلك التي استعرتها من بعضهم دون أن أبيِّت نية لإرجاعها، وتلك التي أهديت لي - مبعثرة في السرير، وأسفله، وتحت الغطاء، وعلى أرضية الغرفة. الروايات في كل مكان، فأتعجب كيف جاءت كلها من رفها ذاك في مكتبي الصغير إلى هنا، وكأن يدا سحبتها من رفها الخاص وجاءت بها إلي، فأعاجل ترتيبها كما كانت، فألتقط أولاد حارتنا، وعمارة يعقوبيان، والعقاب لدستويفسكي، وأجاثا كريستي، وهمس الجسور، ورمال وجليد، وحسين العبري.

       وأنحني تحت السرير، فإذا ببدرية الشحي، وتبكي الأرض يضحك زحل، ولمن تقرع الأجراس، والبؤساء، والطيب صالح، وهيكل، وجوخة الحارثي، ومبارك العامري، وغيرهم آخرين .. أية حفلة بربكم جمعتكم هنا هذا الصباح؟

       وعندما أجلت ببصري في نظرة خاطفة على رفوف المكتب – وقد أعدت الوضع إلى طبيعته – وجدت كل المصنفات الأخرى في رفوفها كما هي، وكل شيء في مكانه لم يبرحه، إلا الروايات التي خرجت لتشاركني الرقص في عرس غريب، في تلك الليلة الحلم، أفيكون حلمي القادم أخيرا رواية؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق