الأربعاء، 10 ديسمبر 2014

جنة "زكي نجيب محمود"

جنة "زكي نجيب محمود"
لـ منى بنت حبراس السليمية

      كنت كلما ارتدتُ المكتبة الرئيسة بجامعة السلطان قابوس أقف - مختارة أو مجبرة - أمام رفوف كتب الأدب والنقد دون سواها، فأتخير منها محاوِلةً الدقة فيما أختار، ولكني رغما عني ما كنت أستطيع تجاهل كتب زكي نجيب محمود في كل مرة أزور فيها المكتبة لاسيما بعدما أتيت على معظمها في إجازة منتصف عام 2004م، ولم يكن أمامي سوى القليل مما لم أقرأه بعد، فأخذت في إحدى زياراتي الأخيرة "حصاد السنين"، و"مع الشعراء"، بعد أن انطفأ أملي في إمكانية العثور على "خرافة الميتافيزيقيا" في المكتبة أو خارجها، وبقيت أسأل عنه في كل دورة لمعرض الكتاب دون أن أعثر عليه!

     أسَرَني هذا الرجل منذ السنة الأولى في دراستي للبكالوريوس إثر قراءتي لسيرتيه النفسية والعقلية، فهو وإن كان قد كتب "قصة نفس" أولا غير أني قرأت "قصة عقل" قبلها، لجهلي بأقدمهما، وبناء على اتفاق أبرمته مع صديقة لي استعارت "قصة نفس"، على أن نتبادل الكتابين بعد انتهائنا من قراءة كلٍّ منا ما بحوزتها.

    ولكن صديقتي لم تنهِ "قصة نفس"، فأعطتني إياها يأسا بعدما عجَزتْ عن فهم العلاقة التي تربط بين الأحدب والراوي، وبينهما معا بإبراهيم.. فأدركتُ أن قراءتي لقصة عقل أولا قدمت لي خدمة في فهم ما أشكل عليها فهمه، وقد اكتفت هي لاحقا بما أخبرتها به عن حكاية النفس، دون أن أتمكن من إغرائها بمعاودة القراءة.

     أنهيت الكتابين وغيرهما من السير الذاتية في إطار دراستي في صيف 2003م لمادة "فن السيرة الذاتية"، التي بعثت فيّ بعد أعوام رغبةً في دراسة هذا الفن في عمان كأطروحة ماجستير، قبل أن يقول لي أحد أساتذة القسم "إنك ستدرسين فنا في حيز مكاني لم يَكتب فيه سوى أربعة فقط!!" فتراجعت عن الفكرة في حين لم يتراجع عنها - بعد سنوات من ذلك - "نصيب الصبحي" زميل دراستي الذي سينشر قريبا رسالته في الموضوع نفسه وقد تكاثر عدد الكاتبين لسيرهم الذاتية مؤخرا.

نسيت زكي نجيب محمود وقصص عقله ونفسه، ولكنه عاد ليطل ثانية مع أستاذ مادة "فن السيرة الذاتية" نفسه في عام 2007، ولكن هذه المرة مع مادة "تذوق النص الأدبي".. إنه الدكتور وليد محمود خالص.

    وفي محاضرة ما، كان سؤاله مباغتا .. أيقظ ذكرياتي عن زكي نجيب محمود:
- ماذا قرأتم عن زكي نجيب محمود؟
ولا مجيب! فتحمست للقول إنني قرأت قصتيه - سيرتيه - نفس وعقل - وكنت قد رغبت في أن يسألني أكثر عنهما، فلم يتأخر الرجل:
- وما الفرق بينهما؟
فأجبته بنشوة قارئ منتفخ - شعر بالأنظار كلها نحوه - بأن الأولى قصة ذات كمعظم القصص المنضوية تحت مسمى السيرة الذاتية، أما الأخرى فهي قصة تكوُّن العقلية العلمية لدى زكي نجيب محمود...

    كان بإمكاني أن أصمت بعد أن أديت الواجب – واجب وضع إجابة لسؤال مطروح في قاعة درس – ولكني استطردت قائلة بأني قرأت المتأخرة منهما أولا، ولكنني أحببت المتقدمة لألفتها، وقدرة زكي نجيب محمود على تفصيل نفسه على مقاس ثلاث شخصيات!

     بدوت مجتهدة للحظة، لولا أن طالبا سأل الدكتور عما يُقصد بالفلسفة الوضعية المنطقية، فالتفت إليّ الدكتور سائلا:
- هل قرأت في قصة عقله عن الفلسفة الوضعية المنطقية؟

      استنجدت بذاكرتي، وطالبتها بالعودة لأربعة أعوام إلى الخلف، وفشلت! فأجبته على استحياء: لا أذكر – وكنت أعني لا أتذكر التفاصيل – غير أنه فهم قولي بأني لا أذكر أنه قد ذكر هذا المصطلح!

      فرد معقبا: "كيف يا بنتي؟ فلسفة زكي نجيب محمود فلسفة وضعية منطقية". فتضاءلتْ نفسي فجأة بعدما كنت منتفخة منذ قليل! أحسست بعقدة النقص، وأنني لست قارئة كما يجب.

     عدت إلى زكي نجيب محمود في قصتيه من جديد، قرأتهما كما لو أنني ما فعلت من قبل، ولكنني اتبعت التسلسل التاريخي لكتابتهما هذه المرة، فخجلت من الدكتور خالص، وخجلت من نفسي عندما اكتشفت أن قصة عقل = الفلسفة الوضعية المنطقية!

     استرشدت بأسماء كتبه المسرودة في سيرتيه كأبطال حكاية، وعدت إلى المكتبة، وقرأت: جنة العبيط – في تحديث الثقافة العربية – تجديد الفكر العربي – في حياتنا العقلية – مجتمع جديد أو الكارثة – الكوميديا الأرضية.

     رحت أقرؤه كمن يقرأ نفسه، وكأن ليس في المكتبة إلا زكي نجيب محمود! كانت ثلاثة أسابيع - من إجازة منتصف العام - عنوانها الأبرز "زكي نجيب محمود"، فأحسست لوهلة أنه بإمكاني أن أخرج بشيء حوله، وفكرت لاحقا في دراسة "أنموذج المقالة الأدبية في كتابات زكي نجيب محمود" كونه مثالا لمن نظّر وطبّق في هذا الجنس الأدبي الذي أصبح كما يسميه بعضهم "المطية الذلول"، غير أن مشرفي وقتها لم يتحمس، وتركني للوقت ليتكفل بتثبيت خياري أو أصرفه إلى وجهة أخرى، ولكن السؤال الذي كان يحاصرنا وقتها كلما فكرنا في دراسة نتاج شخصية عربية: ألم يُقتل بحثا بحيث لا جديد لنقدمه؟

     بيد أن هذا السؤال (الهاجس) لم يكن ليخلو من حسنة، إذ إنه صرف غالبية كبيرة من طلبة الدراسات العليا العمانيين إلى دراسة الأدب العماني والتنقيب فيه شعرا ونثرا، وقد بدا هذا التوجه جليا للمتابعين للدراسات الأكاديمية المنجزة في السلطنة. وهي ظاهرة وإن كان سببها الأقرب فيما تم بحثه سابقا في الأدب العربي، غير أن الباحث العماني وجد في أدب بلاده ما يستحق أن يوليه عنايته قبل سواه، وعندما كانت تردني هذه الملاحظة خليجيا وعربيا، كنت أجيبهم بالمثل القائل: "ما حك جلدك مثل ظفرك"!

هناك تعليقان (2):

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. اود لو أغير تفكيرك والفت انتباهك إلى أمور شتى. بنية الثقافة العربية المعاصرة ليس كما تتخيلينها. معظمها استشراق واختراق واستدخال، لأن غالبية المجالات الأكاديمية والصحافية والأدبية تابعة. أنا لي طريقتي في اعادة رؤية البنية بناء على مضمونها المباشر وليس على تاريخها، لأن عندي تجربة سياسية. في حالتك يلزمك نظرة مختلفة تعتمد على المنهجية العلمية الحقيقية، ولن تجدي هذا إلا عند العلماء المعاصرين ذوي الميول الجهادية، ولكنهم غير مطلعين على الثقافة المعاصرة. الشيخ ابو قتادة الفلسطيني ونسيت اسمه الحقيقي، من هؤلاء لأنه مطلع على الفلسفات والثقافات والسياسة والأدب والتاريخ والتراث. أنا أتعلم منه، 70% من ملاحظاتي في الحياة وآرائي وجدتها مشتركة معه مع أنني من خلفيات مختلفة ولم اكن مطلعا عليه، والبقية 30% أتعلم منه. اعدت النظر في كل تجاربي وآرائي وثقافتي، وأتألم حين أراك تتبنين تلك الأوهام لأنك تعتقدين -بناء على الاعلام والأكاديما- أنها ذات قيمة. انظري لما يقوله ابو قتادة عن زكي نجيب محمود، وكيف ينصفه مع انه مغاير وخصم. في وقتي الحالي لا امكانية لمعرفة المجالات المختلفة، ولهذا لا بد من مرجعية نثق بها بناء على التقاطعات الأساسية.

    ردحذف