التحرير الأخير
منى بنت حبراس السليمية
مرّت يوم أمس الذي صادف 23 من مايو الذكرى الخامسة عشرة لتحرير الجنوب اللبناني، بعدما انسحبت القوات الإسرائيلية منه في عام 2000م.
خمسة عشر عاما ولا تزال المناسبة تجر معها مشاهد وأحداثا عالقة في الذاكرة تُبعث حية بأحاسيسها وروائحها. ومشهد اقتحام اللبنانيين لمعتقل الخيام وتحرير من فيه من الأسرى - الذين تركهم حرس المعتقل خلفهم؛ ليلحقوا بمن انسحب من قواتهم المندحرة - لا يزال له وهج خاص. مشهد بثته قنوات التلفزة في ذلك اليوم دون حاجة لصوت معلّق أو أية مؤثرات. مفاجئا وطازجا كما هو؛ فللفرح صوته الذي متى ما اقترن بشيء أطّره، وفرحة ذلك اليوم بلا إطار.
يومها جلس أبي أمام التلفاز مسندا ظهره إلى الجدار على يسار الشاشة، وبيده قلم يخط به مدندنا على ورقة أسندها بركبته. يرفع رأسه إلى الشاشة يتزود بها من إحساس اللحظة، ثم يعود ليصبه في ورقته أبياتا شعرية. في ذلك اليوم خرجت من رحم المناسبة قصيدته (لبنان):
عرّج على لبنانَ يا شـــعرُ
واعطر فأنفاس الصَّبا عطرُ
تحرر الجنوب! والأيادي من داخل زنازين معتقل الخيام تمتد مصافحة الحرية في أيدي الجنوبيين عبر فتحات الأبواب الحديدية. مشهد لا يزال يبعث فيّ الرغبة في كتابة فرحة الأسير في لحظات معتقله الأخيرة، وهتافات الشعب تكسر أبواب الزنازين. هل توقع ذلك يومها؟ كم ظن أنه سيبقى هناك أكثر؟ كيف يمكن أن يُترجم هذا الفرح في قصيدة/ قصة/ رواية؟
ورغم مضي خمسة عشر عاما، لا أزال أستعيد مشاهد الحدث عبر اليوتيوب. أستحضره من الأمس، بالإحساس نفسه الذي أصاب بقشعريرة أدمعت لها العيون. وفي لحظات التذكر هذه أستحضر أغنية جوليا بطرس:
نرفض نحن نمــوت،
قولولـ(ن) رح نبقى
أغنية كان يبثها التلفزيون العماني في أوائل التسعينيات بدون مناسبتها (بالنسبة لنا نحن صغار التسعينيات على الأقل)، فيتركنا نتغنى بها دون أن نعرف عن أي جنوب تغني جوليا: "موئلنا يا جنوب .. يا حبيبي يا جنوب. غابت شمس الحق وصار الفجر غروب".
ومع تكشّف المعنى والمقصد، والجنوب، بقيَ السؤال حائرا: هل كان التلفزيون العماني يبث الأغنية (مجردة من أية مناسبة نعرفها) عن قصد؟ في وقت لم تنتشر فيه بعد الصحون الهوائية فنعرف هذا الجنوب أكثر من نشرات إخبارية!
تحرر الجنوب اللبناني إذن، وكنا نتوقعه - بحماس المتفائلين - فاتحةً لتحررٍ آخر لهضبةِ الجولان، وبمبالغة أكبر .. لتحرر فلسطين. لم نكن نعلم وقتها أنه آخر أفراح العرب، وآخر سياق توظّف فيه كلمة (تحرير) بمعناها الصحيح، قبل أن نعرف أنها لن توظّف لا بالمعنى الصحيح ولا المزيف بعده أبدا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق