الاثنين، 31 أكتوبر 2016

في الذكرى الثانية والثلاثين لميلاد أخضر

في الذكرى الثانية والثلاثين لميلاد أخضر

منى بنت حبراس السليمية

٣٢ عاما مضت وكنت أظنها لا تمضي..
أنا التي لم أعرف متى ولدتُ إلا عندما أصبحتُ في الصف الثالث الابتدائي!!
كان سباقا كما أحسب تتباهى به الفتيات الصغيرات كلما سألتهن المعلمة عن تواريخ ميلادهن..
وكنتُ وحدي أقف عاجزة عن معرفة الإجابة..

وعندما سألتُ أمي، قالت إنها لا تحفظ تاريخ ميلادي. وفي الواقع كنت مخطئة بسؤالي لأمي؛ فأمي كانت ومازالت لا تجيد حفظ التواريخ، إذ نحن وما يحصل لنا تقويمها الوحيد الذي تعرف؛ فبنا وحدنا تؤرخ أحداث حياتها: "عندما ولد أخوك فلان كان كذا، وعندما ولدتِ أنتِ حصل كذا"، وليس مهما بعد ذلك في أي تاريخ من الشهر أو العام أو القرن ما حدث.

الآن أفكر أنه لو قال لي أحدهم يومها إنني ولدت في عام 1945 لصدقته!
فتواريخ ميلادنا شيء لا يعنينا طالما غاب عن الذاكرة، وكل ما لا يرتبط بذاكرتنا ليس مهما أن نعرفه، إنه شيء قبل الذاكرة تحديدا.

ولكني عرفت من شهادة ميلادي أني من مواليد 30 أكتوبر 1984م؛ ففرحت كمن اكتشف تاريخ الأرض، أو بدء الخليقة..
فقد أصبح لي تاريخ يؤرخني. تاريخي الذي يبدأ قبل ٣٢ عاما.
أحببت هذا اليوم/ الرقم (30- 10) كثيرا.. فلطالما أحببت مضاعفات العدد 10 التي تجد طريقها إلى الذاكرة سريعا، ولكن هناك ما ارتبط بهذا التاريخ فصبّه كخرسانة لا تتزعزع من ذاكرتي؛ فهو يوم ارتبط بوفاة أنديرا غاندي .. في اليوم نفسه، والساعة نفسها، من العام نفسه 1984م.. هذا مما عرفته لاحقا.. (أثق في ذاكرة عمتي رغما عن أنف جوجل الذي قال إنها اغتيلت في 31)

أليس عظيما أن يؤرخ ميلادك بوفاة أحدهم كحجم غاندي؟
ولم أعرف أية فكرة كنت أهجس بها بأن روح أنديرا غاندي هي من يسكنني الآن، وكنت أخاف من الوحدة؛ حتى لا تستفرد بي روحها لتكشف لي ما لم أعرفه ولا أريد أن أعرفه عن السياسة والاغتيالات.. ولكني كعادة المسلمين أسارع بالاستغفار خشية أن أتلوث بفكرة تناسخ الأرواح دون سابق رغبة أو ترصد!

نعم.. هي ٣٢
أقولها فخرا بسنيني التي مضت، وأعلن بها عهدا جديدا عليّ أن أعيشه، فلست أعاني عقدا عمرية في إعلان عمري الحقيقي، فهو الشيء الوحيد غير القابل للسرقة أو الإنقاص، ولست أجد في نفسي - في الثانية الثلاثين - رغبة في العودة إلى الخلف يوما.

وتذكروا.. أن غدا هو يوم الشجرة أيضا، يوم آخر اقترن  بتاريخ ميلادي في ذاكرتي كذلك، فلعلي كنت سببا في اخضرار العالم!!
أترونني بالغت؟
حسنا حسنا لا تغضبوا.. كنت أعني اخضرار ذاكرتي تحديدا.

ولكني أتفكر الآن: ماذا أضفت إلى الحياة حتى هذه اللحظة، وماذا أضفت لنفسي خلال سنيني هذه؟
محطة أختم بها أكتوبر لهذا العام .. و٣٢ عاما مضت

محطة نذرتها للتأمل...

فمنذ الغد أنا شخص آخر

2016

كأسان

كأسان

منى بنت حبراس السليمية

استغرب النادل عندما طلبت كأسين لإبريق واحد، وقد علم أني لا أنتظر أحدا. أدخل مقهاه يوميا صبحا ومساء بلا رفيق سوى كتاب أتأبطه وحقيبة يدوية صغيرة. أحضرَ الكأس الثانية ورحت أصبّ ما بقلب الإبريق دفعة واحدة موزعة إياه على الكأسين. وقبل أن أنصرف قلت له:"الأتاي لا يطيق الانتظار في قلب الإبريق، وأنا لا أطيق مرارة الكأس الثانية"

السبت، 22 أكتوبر 2016

بلاليط أمي ميمونة

بلاليط أمي ميمونة

منى بنت حبراس السليمية

اسمها ميمونة. ونناديها "أمي ميمونة"، كما جرت العادة صغارا أن نسبق أسماء النساء في الحارة بكلمة أمي. لم تكن أمي ميمونة امرأة ظاهرة بالمعنيين الفيزيائي والمعنوي، فقد كانت امرأة ضئيلة وهادئة على الدوام، مطيعة لزوجها وزوجته الأولى التي كنا نسمي بيتهم باسمها: "بيت أمي أسما"، ولكنها حفرت في ذاكرتي مواقف لا أنساها، رغم أنها وعائلتها غادروا الجوار وانتقلوا للسكن في عمق سمائل.

تنزل أمي ميمونة علينا كملاك يتحسس بقدرته الخارقة أوان ضعفنا، ولم نكن نسأل أنّى لها ذلك، ولكن السؤال الآن يجد نفسه شاخصا في زحمة الذكريات. تأتي وتذهب دون أن يستوقفنا مجيئُها، وكأنها خفة الهواء، أو اعتيادية الوقت.

مرضتُ يوما بألم ضرس، ولم تأخذني أمي لطبيب الأسنان أو أبي كما تفترض البديهة، ولكني أتذكر أمي ميمونة وهي تمسك بيدي على الرصيف، وبيدها الأخرى توقف تاكسيا يقلنا إلى المستشفى.

أتذكر نشيجي وبكائي ويدها تطوقني داخل سيارة التاكسي، وهي تهمس لي:"ما تصيحي ماه تراه يزيد"

دقائق واقتعدنا كراسي الانتظار أمام باب الطبيب، ننتظر دورا لم أعرف إن كان تأخر أو أنه أتى على مقاس احتمالنا للصبر. دلفتْ معي كحارس أمين، وراحت تشرح للطبيب وجعي وتاريخه ودرجة ألمه، ووقفت على رأسي تمسح عليه، وتهوّن شدة خلع الضرس علي. بعد خروجنا أتذكر جملتها العالقة في أذني كجرس: "شفتِ كيف ما يعور؟!" وقفلنا عائدين في تاكسي آخر إلى البيت.

خلال كل ما مضى، لم أسأل أين كانت أمي، أو بقية أهلي! ما أعرفه أن أمي ميمونة انبثقت لحظة الألم وأنهت قصته.

مرة أخرى .. بل مرات تدخل علينا قبل ذهابنا إلى المدرسة، وقد كنا خمسة في البيت أخوة وأخوات صغارا في صفوفنا الدنيا بمدارس مسائية، دون كبير في البيت يسند احتياجاتنا، وأيضا لم نسأل أين هم! تأتي أمي ميمونة وتسألنا "تريقتوا باه؟" فنرد أن لا، فتقول لأختي التي تكبرني بعام: "تعالي ماه معي المطبخ"، وتعد لنا طبق "بلاليط" وتضعه على السفرة وتقول: "تريقوا باه" وتنصرف.

عندما كبرت، رحت أسأل: لماذا كانت تعد لنا أمي ميمونة "البلاليط" في كل مرة وليس بيضا مسلوقا مثلا؟ أو لماذا ليس فولا أو حمصا أو شيئا آخر؟ ولكني الآن فقط صرتُ أفهم أنها تنتقي الطبق الذي لا يتطلب أكله خبزا! والآن فقط صرنا نعرف أن بيتنا كان بلا خبز أيضا!

تدخل أمي ميمونة وتخرج دون أن تُحدث ذكرا، حتى كبرنا، وراحت مواقفها تتضخم في ذاكرتي حتى زاحمتها. كانت جارة تعرف كيف تعزف فنون الجيرة دون أن ينتبه لها أحد. وحدها من كان يعرف كيف يكون جارا دون أن ينتظر مقابلا أو حتى رد الجميل.

دعارة بحثية

دعارة بحثية

منى بنت حبراس السليمية

لم أجد وصفا يليق بما نقله لي صديق بأن عددا من الدارسين في مرحلتي الماجستير والدكتوراه يقصدونه ليكتب لهم أطروحاتهم، ويضيفون: أنهم قد جمعوا المادة الخام ورسموا الفصول وبوّبوا الأبواب ورصدوا المراجع، وإنما يحتاجون فقط لصاحب لغة يصيغها لهم في شكل بحث أكاديمي.

لم أجد وصفا يليق بهذا أفضل من كلمة (دعارة)، وأستميح حياء من ستخدشه هذه الكلمة، لأن هناك من يتبجح بامتلاكه الخبرة العملية والعمق الفكري في مجال بحثه، ولكنه يعجز عن صياغة أفكاره وجهده الذي سيقدمه للجنة المناقشة! وكأن العمق ممكن دون لغة تعبّر عنه!

وراح هؤلاء يعرضون على صديقي هذا الأرقام بأصفارها التي تنتصب بإغراء لقاء عمله الذي سينالون به لقبا علميا يرفعهم في السلّم الوظيفي، وهي الأرقام التي بسببها راحت تتناسل أشكال التجارة التي تتكفل للباحث بإعداد أطروحته وتنفيذ ملخصها، بل وتهيئته ليوم المناقشة بما يجعله يبدو صاحب الجهد لا سواه!

ولا حاجة مطلقا لاستعادة أعداد الشهادات الأكاديمية المزورة التي أفصحت عنها وزارة التعليم العالي غير مرة، فتلك قصة أخرى. وإنما أُذكّر بأن أعقد أنواع التزوير الذي يصعب كشفه، هو ذاك الذي يكون في الرسائل الأكاديمية. ولكم أن تتخيلوا أعداد تلك الرسائل المسروقة أو المزورة أو المشتراة في مكتبات الجامعات محليا وخارجيا، بينما يتبوأ أصحابها مراكز ومواقع ينظّرون من على منابرها ضد الفساد والمفسدين.

وإذا كان الذوق العام قد تعوّد على التحسس من لفظة (دعارة) مقرنا إياها بالجسد لا سواه، فإن دعارات أخرى أفظع وأشنع طالت أشياء أخرى في حياتنا العملية والعلمية. وفي ظني لا أسوأ من دعارة تطال العلم وتفسده، وتظهر صاحبه بأبهى صور الاجتهاد والمثابرة، بينما يخفي عيبا خلف موقعه الجديد، الذي حصل عليه بعد لقب علمي مدفوع الثمن!