بلاليط أمي ميمونة
منى بنت حبراس السليمية
اسمها ميمونة. ونناديها "أمي ميمونة"، كما جرت العادة صغارا أن نسبق أسماء النساء في الحارة بكلمة أمي. لم تكن أمي ميمونة امرأة ظاهرة بالمعنيين الفيزيائي والمعنوي، فقد كانت امرأة ضئيلة وهادئة على الدوام، مطيعة لزوجها وزوجته الأولى التي كنا نسمي بيتهم باسمها: "بيت أمي أسما"، ولكنها حفرت في ذاكرتي مواقف لا أنساها، رغم أنها وعائلتها غادروا الجوار وانتقلوا للسكن في عمق سمائل.
تنزل أمي ميمونة علينا كملاك يتحسس بقدرته الخارقة أوان ضعفنا، ولم نكن نسأل أنّى لها ذلك، ولكن السؤال الآن يجد نفسه شاخصا في زحمة الذكريات. تأتي وتذهب دون أن يستوقفنا مجيئُها، وكأنها خفة الهواء، أو اعتيادية الوقت.
مرضتُ يوما بألم ضرس، ولم تأخذني أمي لطبيب الأسنان أو أبي كما تفترض البديهة، ولكني أتذكر أمي ميمونة وهي تمسك بيدي على الرصيف، وبيدها الأخرى توقف تاكسيا يقلنا إلى المستشفى.
أتذكر نشيجي وبكائي ويدها تطوقني داخل سيارة التاكسي، وهي تهمس لي:"ما تصيحي ماه تراه يزيد"
دقائق واقتعدنا كراسي الانتظار أمام باب الطبيب، ننتظر دورا لم أعرف إن كان تأخر أو أنه أتى على مقاس احتمالنا للصبر. دلفتْ معي كحارس أمين، وراحت تشرح للطبيب وجعي وتاريخه ودرجة ألمه، ووقفت على رأسي تمسح عليه، وتهوّن شدة خلع الضرس علي. بعد خروجنا أتذكر جملتها العالقة في أذني كجرس: "شفتِ كيف ما يعور؟!" وقفلنا عائدين في تاكسي آخر إلى البيت.
خلال كل ما مضى، لم أسأل أين كانت أمي، أو بقية أهلي! ما أعرفه أن أمي ميمونة انبثقت لحظة الألم وأنهت قصته.
مرة أخرى .. بل مرات تدخل علينا قبل ذهابنا إلى المدرسة، وقد كنا خمسة في البيت أخوة وأخوات صغارا في صفوفنا الدنيا بمدارس مسائية، دون كبير في البيت يسند احتياجاتنا، وأيضا لم نسأل أين هم! تأتي أمي ميمونة وتسألنا "تريقتوا باه؟" فنرد أن لا، فتقول لأختي التي تكبرني بعام: "تعالي ماه معي المطبخ"، وتعد لنا طبق "بلاليط" وتضعه على السفرة وتقول: "تريقوا باه" وتنصرف.
عندما كبرت، رحت أسأل: لماذا كانت تعد لنا أمي ميمونة "البلاليط" في كل مرة وليس بيضا مسلوقا مثلا؟ أو لماذا ليس فولا أو حمصا أو شيئا آخر؟ ولكني الآن فقط صرتُ أفهم أنها تنتقي الطبق الذي لا يتطلب أكله خبزا! والآن فقط صرنا نعرف أن بيتنا كان بلا خبز أيضا!
تدخل أمي ميمونة وتخرج دون أن تُحدث ذكرا، حتى كبرنا، وراحت مواقفها تتضخم في ذاكرتي حتى زاحمتها. كانت جارة تعرف كيف تعزف فنون الجيرة دون أن ينتبه لها أحد. وحدها من كان يعرف كيف يكون جارا دون أن ينتظر مقابلا أو حتى رد الجميل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق