الجمعة، 10 أغسطس 2018

دخان الكويت

دخان الكويت

منى بنت حبراس السليمية

كنت طفلة في السادسة من عمري، أترقب دخول المدرسة في صفي الأول، عندما حل الثاني من أغسطس من عام 1990م. في ذلك الوقت لم نكن نعرف من الأخبار غير ما تبثه نشرات أخبار تلفزيون سلطنة عمان؛ إذ لم تكن اللاقطات الهوائية قد عرفت طريقها إلى سطح منزلنا بعد، ولكني عشت الحدث كما ينبغي لطفلة ولدت في عائلة تولي متابعة الشأن السياسي اهتماما بالغا.

فهمت أن صدام غزا الكويت، وتابعت الأخبار مع عائلتي قسرا دون أن أفهم جل ما يدور أو يقال. ولكني أذكر أن نوعا من الأقمشة وجد طريقه إلى الأسواق من رحم الحدث. أخذ القماش اسم "دخان الكويت"، وما يزال شكله وألوانه وملمسه مدموغا بذاكرتي؛ كان مزيجا من المخمل والقطن، وألوانه لا تبرح الرمادي والأسود، وإن غادرتْهما فإلى تدرجات أخرى لا تفارق الدكنة. كانت المرة الأولى التي حفظتُ فيها ارتباط الموضة بالسياسة.

نجحت الموضة في إدخال اسم الكويت إلى معظم البيوت في عمان مطلع التسعينيات، حتى تلك البيوت التي لا تولي كبير اهتمام بالأحداث خارج حدود أسوارها، فسرى الاتفاق غير المعلن بجعل الكويت مادة تداول بصيغة تختلف عما تقدمه نشرات الأخبار في تلك المرحلة من تاريخ الخليج.

ولكن حرب الكويت لم تمر على عائلتنا مرورا عابرا، أو مجرد موضة زائلة؛ فقد أربك اسم أخي "صدام" ابن العامين حسابات العائلة، ودفع بأبي إلى تغييره ليكون "بشارا"، بيد أن الألسنة التي اعتادت اسم صدام، لم تكن طيعة في استجابتها للاسم الجديد، على خلاف موظفي الأحوال المدنية الذين لم يتطلب منهم تغييره أكثر من جرة قلم.

​الإرباك الذي أصاب عائلتنا لم يكن في اسم أخي صدام وحسب، ولكنه إرباك أدبي بنحو خاص، فقبل أعوام من الغزو كتب أبي قصيدته "بلاد الرافدين" على وقع طبول حرب الخليج الأولى، ومنها بيتان وُشِما في ذاكرتنا، نحن أطفاله، كأنشودة حربية تغذي مواطن الحماس في نفوسنا، يقول فيهما:
أيا صــــدامُ سر بهمُ مُجـِــدًّا    وألحقْ بالغزاةِ أجلَّ خطبِ
ودعْ جثثَ الأعادي كلَّ يومٍ     تُغطي كلَّ منحدرٍ وشِـعبِ

وضعتنا حرب الكويت في مواجهة مع أبيات حفظناها عن ظهر قلب، وأربكتنا كلماتها بين موقفين، وحربين، وشخص واحد!

بعد نهاية حرب الأشهر السبعة أعاد أبي اسم صدام إلى مكانه في شهادة الميلاد، دون أن يدري أنه قد يضطر مجددا - لو لم يفعل - إلى تغيير اسم بشار بعد عشرين عاما أخرى.


أغسطس 2018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق