الخميس، 19 ديسمبر 2019

الصوت الجريح



منى بنت حبراس السليمية

"عبد الكريم يغني لي" لم تكن عبارة فهد وحده في رواية فئران أمي حصة. كانت عبارتي أيضا.

مع عبد الكريم أكتشف أن المواساة ليست في القدرة على التخفيف عن الحزين، وإنما في القدرة على الحزن معه. وعبد الكريم جريح بما يكفي لأن يشاركنا أحزاننا جميعا.

 يستدعي صوت عبد الكريم صورة طفلة تنزل برفقة أخيها من السيارة، وتعبر الشارع إلى الجهة الأخرى لتدخل دكانا تشتري منه شريط كاسيت صدر لتوه، وسرعان ما يلقمانه مسجل سيارة أخيهما الأكبر فيغني عبد الكريم: "بيني وبينك غربة كنها الليل".

كانت الطفلة ابنة تسع سنوات، ولم يكن حزن عبد الكريم ما يشدها لصوته في طفولتها تلك، ولكن شيئا خفيا تحاول اكتشافه في كل مرة تسمع فيها أغانيه.

في طريق عودتها اليومية من العمل بعد غروب الشمس، تدير هاتفها على تطبيق إذاعة أحوال العاشقين وتربطه ببلوتوث السيارة ليصدح عبد الكريم: "غريب .. كيف الزمن يرحل". فيؤنس وحشة الزمن في روحها قبل أن يختصره لها في مشوار العودة إلى البيت.

تعرف أن إذاعة عبد الكريم في هاتفها، ولكنها تأبى النزول من السيارة لمجرد أن أغنية: "رد الزيارة" قد انبثقت للتو بينما تضع جير السيارة على الـ P 

قبل أيام طلبت من صديقتها أن تحمّل تطبيق الإذاعة في هاتفها بينما تدردشان عبر الواتساب. تركتا صوته خلفية لدردشتهما. ماذا لو يعلم عبد الكريم أن أغنية "نعم مشتاق لك وقلبي يبيك" انطلقت ليلتها من ثلاث حناجر في لحظة واحدة من أماكن مختلفة!

إذاعة أحوال العاشقين، هي أعظم اختراع لعشاق عبد الكريم عبد القادر. وقت تشاء انقر على تطبيق الإذاعة في شاشة هاتفك ولن يتأخر عبد الكريم الذي سيبادر رغم ذلك بعتبه "تأخرتي، وهذا الموعد الأول"

لم يكن "الموعد الأول"، ولن يكون "آخر كلام" ولكنه دائما "منى الروح والعين".

الأربعاء، 4 ديسمبر 2019

ضعف

ضعف

منى بنت حبراس السليمية

كنت كلما حاولت أن يصل صوتي حتى آخر طالبة في الفصل أختنق. ما أن أبدأ الحصة حتى أشعر بيد تمسك بحلقي، وتجعل صوتي يخفت ويخفت ولا أنتبه إلا لصوت الطالبات في الخلف: أستاذة ما نسمع!

أحاول مجددا. أعيد ترتيب أنفاسي، وحبالي الصوتية. أعاود بصوت أحاوله أن يكون أعلى، فأدخل في نوبة سعال لا تنقطع.

لا بأس. لن أستسلم. أشرب جرعات من الماء. أعتمد هذه المرة على التحرك داخل مساحات الفصل وأسير مع صوتي طالما عجز عن الذهاب لوحده بدوني حتى آخر طالبة. مشى الحال. 

في بداية فصل جديد، قررت المعلمات ابتداع حصة جماعية، فجمعن طالبات أربعة فصول من الصف السادس في قاعة كبرى متعددة الأغراض، وقسمن الحصة إلى فقرات. كل معلمة تصعد على خشبة القاعة وتعطي فقرة للطالبات المحتشدات.

كان علي أن أبدأ. القاعة أكبر، ولا ممرات أجول بينها لأوزع بريد صوتي بين الطالبات. مع أول جملة بالكاد أنطقها تعالت الأصوات بشكل مضاعف: "أستاذة ما نسمع!"

هذه المدرسة ناقصة، كيف لا توفر "مايكات" داخل الفصول الدراسية! 
حسنا. لن ألتفت إلى الحرج الذي أحسه بوجود باقي المعلمات وقد اكتشفن للتو عطب صوتي. سأعيد ما قلته، فدخلت في نوبة السعال اللعينة. 

تداركت إحدى المعلمات الموقف وصعدت إلى الخشبة بجواري، وقالت: "أستاذة منى مريضة اليوم نخليها ترتاح يا بنات وسأكمل معها الفقرة".

نزلت وفي عيون بنات فصلي جملة معلقة تكاد تنطق: "أستاذة منى صوتها ضعيف ما مريضة".

الأربعاء، 23 أكتوبر 2019

أمي .. مسألة صعبة

أمي .. مسألة صعبة

منى بنت حبراس السليمية

علاقة وحيدة محكومة بالندم كيفما كانت حيثياتها؛ سأندم بعدها على كل تفصيلة لم تكن كما يجب. على كل تقصير غير مقصود. على كل اتصال لم أرد عليه. على حب كان يمكن أن أمنحه بطريقة أفضل. هذه العلاقة ستميتني دائما، ستجعلني بعدها ناقصة إلى الأبد.

تلك هي علاقتي بأمي. مهما فعلت لأتجنب الندم اللاحق لن أستطيع. نحن محكومون بشيء اسمه المستحيل عندما يتعلق الأمر بأمهاتنا، وكل محاولاتنا للتخفيف من قدسية الأم الضاغطة على وجداننا لن نستطيع.

ثمة شيء لا يجعلني أنظر لأبي بالطريقة نفسها. هناك شيء زائد تجاه أمي، يجعلني مذنبة على الدوام، مذنبة حتى لو لم أقترف غير مجيئي إلى الحياة وأنا أدرك أنه بلا قرار مني ولا حول.

أمام أمي لست حرة أبدا. وحتى أنتزع شعور التحرر من هذا الامتنان الأبدي سأحتاج إلى طاقة هائلة أقوى بها على المحو والانسلاخ والتشظي. لا شيء يستطيع جعلي متجردة في نظرتي لأمي ما دام كل شيء يجعلها إلها، ويوجعني أن أكفر به.

أحاول بشكل يائس ترقيع حاضر  يجنبني الندم غدا، ولكن أمي - رغما عنها - لا تجعل ذلك ممكنا. كيف سأعوض طلبها الذهاب إلى السوق ولم أذهب؟ أو رغبتها في استيقاظي باكرا لنفطر معا ولم أستيقظ؟ أو اتصالاتها التي لم أستطع الرد عليها؟ أو انشغالي بهاتفي بينما تجلس بجواري؟ أو أن أقول لها أحبك ولم أفعل؟ أو أن أدس في يدها مصروفا ولم أدس؟ أو أن أشتري لها راشن البيت ولم أشترِ؟

ما أطول القائمة التي لن تجعل غدي أفضل! ستجعلني أمي أندم على كل شيء صائبا كان أو خاطئا. الأمهات لا يربيننا وهن على قيد الحياة، إنهن يبدأن في تربيتنا بعد رحيلهن! وما أكثر ما ستربيني أمي! وما أقسى التربية التي تبدأ بغياب أحد أطرافها.

أين المفر يا أمي؟ لا مهرب منك إلا إليك، وليتني آمن وأصل فلا أندم بعدك أبدا. ستغفرين كل هذا، أعرف، ولكن مغفرتك إثبات إدانة بأني مذنبة أبدا، ولا أملك وسيلة لأكون غير ذلك.

حكايتي مع المعنى

حكايتي مع المعنى

مهرجان رحلة المعنى: مكتبة تكوين/ الكويت (7  14 مارس 2019)

منى بنت حبراس السليمية

قبل شهرين وقعتُ بالصدفة على قصة قصيرة غير منشورة للأديب المغربي أحمد بوزفور بعنوان (أحمر كالدم أبيض كالحليب). شدّني فيها أنها تقدم رؤية جديدة للعلاقة بين المعنى والخيال، وتفرّق بين النص وتأويلِه. ورد في جزئها الأول: 
"كنا على الشاطئ، بالمايوهات. رجل غريب يلبس لباسا كاملا (بذلة وقبعة وحذاء)، ويحمل مظلة، جلس إلى جانبنا. وأخذ ينظر طويلا إلى فيلا بيضاء تبدو على الشاطئ من بعيد، ثم نظر إلينا وقال:
تصوروا أن في تلك الفيلا طفلةً صغيرةً في السابعة من عمرها، تلبس تنورة حمراء وقميصا أخضر، وتلعب بالعرائس. تتخيلها بناتا صغيراتٍ يلعبن بالدمى، وتتخيل لها تلك الدمى. إحدى الدمى تلبس تنورة زرقاء وقميصا أحمر، وتضع في شعرها شريطا أبيض من حرير، وتقفز على الحبل. تصوروا.. سقطت الطفلة ذات التنورة الزرقاء، وجُرحت ركبتاها. تضعها ماماها الدمية على حجرها وتبحث بيدها عن زجاجة الدواء الأحمر. تمد لها الطفلة ذات التنورة الحمراء الزجاجة التي أمدها لها أنا، فأنا أيضا هناك. وأنا أب الطفلة.
وسكت، فانفجرنا فجأة في ضحك جماعي صاخب.
قال له أحدنا: هل فقدت بنتا لك في السابعة من عمرها يا سيدي؟
ما أهمية ذلك؟ المهم أن تتصوروا. أنا رجل عازب لا زوجة لي ولا أولاد.
إذن فقد قتلتَ بنتا في السابعة من عمرها.
نظر الرجل إلينا في دهشة، ونهض وهو يقول: أنا أتصور العالم، وأنتم تتصورون المعنى. ما أهمية المعنى؟ المهم هو العالم"[1]
يفاجئنا هذا النص الغريب بأنه يقيم حاجزا بين الخيال والمعنى، ويخبرنا أن الخيال أهمُ من تفسيره أو تأويله أو حتى محاولة البحث عن معناه، مهما بدا هذا الخيال غيرَ منطقي أو غيرَ معقول. ولا يفوتنا أن ننتبه إلى الفرقِ الذي يقدمه بوزفور بين صانع الخيال وصانع المعنى؛ فهما لا يجتمعان في اللحظة نفسها، فإما أن تصنع الخيال وإما أن تصنع المعنى. يتوقف الشاب - الذي فسر للرجل الغريب تصوراتِه - عن إنتاج المعنى بمجرد أن أصبح هو بدوره صانعا للخيال. يتوقف المعنى في اللحظة التي يعمل فيها الخيال. وأفسر هذا بقول عبد الرحيم جيران: "لا يكون الناقد ناقدا عندما يبدع، لأن الإبداع تجسيمٌ للمجرّد، والنقدَ تجريدٌ للمجسّم". ولكن ذلك لا يمنعنا من الانتباه إلى التراتبية التي يصنف بها بوزفور الخيال والمعنى بقوله "ما أهمية المعنى؟ المهم هو العالم" المُتصوَّر أو المتخيَّل. فهل يضع بوزفور المعنى أدنى مكانا من الخيال؟ وينزل بالنقد مرتبة أخفض من الإبداع؟ أليس الخيال معنى؟ وهل يمكن أن يكون الخيال بلا معنى؟ 
ينفي سعيد بنكراد ومثله علي حرب وجودَ اللا معنى، لأنه يعبر عن (معنى) ما وإن أنكره أصحابُه[2]. ولكن الفصل الذي يحاول أن يقيمه بوزفور بين الخيال والمعنى ليس فصلا ضديا؛ لأن للخيال معناه الداخلي الخاص الذي لا يرتبط بواقع المتخيِّل وحده وإن كان متصلا به؛ كما "لا يمكن التعاملُ مع النص باعتباره كيانا مكتفيا بذاته ومنفصلا عن قصد صاحبه، وعن قصد قارئه. وكذلك اعتبارُ القراءةِ إعادةَ بناءٍ لقصدية أو قصديات النص، وليست التعرفَ على معنى جاهز مودع بشكل نهائي فيه"[3] كما يقول سعيد بنكراد. وبهذا يمكن تأويل قصة بوزفور باعتبارها رفضا للمعنى الذي يفد إلى النص من خارجه لا من داخله.
يُعلمنا النقد الأدبي بأن المعنى يُنتجه الكاتب، ويَصنعه القارئ الفطن، الذي يمارس إعادة خلق معاني النصوص، بتوليد قراءات جديدة؛ وتلك هي وظيفة النقد: البحث عن المعنى مهما كانت مناهجه وأدواته[4]
ولكن أليس في قصة بوزفور نبذا للتأويل مهما حاولتُ تخريجه بما لا يزعج نرجسيتي النقدية؟ ألا تذكركم القصةُ بالعداء القديم الجديد بين الكاتب والناقد؟ نفهم جميعُنا أن الاختلاف بينهما ليس اختلافا حول معنى النص، وليس لأن أحدهما يعيد خلق معانٍ لا يودها منتجُ النص. وإنما اختلافُهما بسبب [غياب المعنى] الذي يزعم الناقد أنه يقدمه، في حين أنه يقدم خطابا نقديا معجِما يصعب فكُشفرته الملغمة. ولكن هل غياب المعنى من شأن الخطاب النقدي وحده؟ أليس في بعض المسمى أدبا [غيابٌ للمعنى] أيضا؟

في البدء كانت السلطة على المعنى:
باكرا جدا في صفوفنا الدنيا راحت المعلمة تشطر السبورة بطبشورتها إلى عمودين. وضعت على رأس العمود الأول كلمة (المفردة)، وعلى رأس العمود الثاني كلمة (معناها). ثم راحت تملأ العمود الأول بكلمات اعتقدتْ أنها جديدةٌ على تلميذات في أعمارنا. كان تحديا جديدا وعلينا معايشته في حصص القراءة مذ ذاك وصاعدا؛ أن نكون مطالبين بملء العمود الثاني بكلمات أخرى قالت المعلمة إنها تشرح تلك المكتوبةَ في العمود الأول وتوضحها.
هكذا، اقترن المعنى باكرا بالبحثأيقنت أن المهمة لن تكون سهلة، وأنها أصعبُ من مهمة المعلمةالتي بدا لي أن أقصى ما تفعله هو رص كلمات العمود الأول بنقلها من الكتاب المدرسي وحسب. بينما علينا نحن التلميذات أن نفتش خارجه حتى نملأ العمود الثاني اللعينمع الوقت أصبح البحث عن المعاني لعبتي التي لم أود كسرها باكرا بداعي الملل.
لوقت طويل اعتقدت أن المعنى كلمةٌ مختبئةٌ في مكان ما، في قاموس أو معجم أو قاع بحر أو قمة جبل أو قلب صحراء. فأكبرت المعاجم والقواميسوالبحار والجبال والصحاري، ومكتبةَ أبي. كانت مكتبة أبي أكبر مني عمرا، وحوت معاجم وقواميس بدءا من المنجد مرورا بلسان العرب والقاموس المحيط ومعجم كتاب العين وانتهاء بتاج العروس. ولكن أبي لم يكن يتيح لنا نحن أبناءه الصغار - أن نستخدم غير (رائد الطلاب). كتاب صغير في حجم ورقه، ولكنه ضخم في عديدها، وقد تهرأ مع الوقت لفرط ما تناقلته أيادينا. كان رائد الطلاب هو سيد المعنى في عمري ذاك. الساحر الذي يمنحني الجواب لكل سؤال. آخذه إلى المدرسة خلسة، وأخبئه في درج طاولتي، وأسترق النظر إلى ما في بطنه كلما وضعت المعلمة كلمة في عمودها الأول.
بمرور السنوات اكتشفت أن (رائد الطلاب) لم يعد وحده كافيا، وأن علي أن أنتقل إلى مستوى أعلى، ولكن كسلي المزمن، والمللَ المتعجل لم يتركافي نفسي رغبة لفتح قواميسَ ومعاجمَ أخرى؛فلجأت لحيلة سهلة: عمدت إلى دفاتر أختي التي تكبرني بعام. أنقل من دفترها الدروسَ التي سبقتني إليها في العام الفائت وأستل منها معاني الكلمات وأشياءَ أخر. في لحظة افتضاح، سألتني المعلمة من أي معجم عثرت على المعنى؟ لم أستطع أن أجمع بينمثلبة الغش وجريمة الكذب في آن معا. اعترفت لها، ولكنها لم توبخني كما توقعت. فهمتُ لحظتها أنها لا تحب البحث في القواميس أيضا. بعد سنوات أدهشتني إجابة الشاعر العماني عبدالله بن علي الخليلي[5] عندما سئل عن الكتب التي يحب قراءتها في السفرقال: "أقرأ لسان العرب. أصطحب معي أجزاء منه، وأجد اللذة نفسها التي أجدها في قراءة الأدب!" قبل أن يضيف خاتما: "وُضعتْ المعاجم كي تُقرأ أيضا".
ولكني كنت بحاجة إلى وسائل أخرى للعثور على المعاني، غير تلك الجاهزة، والموجودة بوفرة فيالقواميس والمعاجم، فلابد أن المعاني تسكن أماكن أخرىجربت الاعتماد على نفسي مرة عندما سألتْالمعلمة عن الفرق بين المِقَص والمَقَص. وجدتْ الأولى تعريفها من إحدى الطالبات، وبقيت الثانية معلقة في لسان المعلمة لا تجد من يمنحها معناها. أذكر أني قفزت فجأة من مقعدي وقلت: (مكانُ القص)باسطة يدي اليسرى وأخط بسبابة يدي اليمنى عليها كمن يحدد مكانا على خريطةهكذا توقعت أن الصدفة يمكن أن تصدقَ دائما، فقط لو أنها ليست صدفة!
ما هو المعنى أصلا حتى تحتكره المعاجم؟ لماذا لا يكون المَقص منطقةً حدوديةً تفصل بين بلدين، ولم لا يكون المِقص محتلا يشطر ضفة عن قطاع؟ وهكذا رحت أضع لكل كلمة معناها الذي لا تقوله المعاجم، ولن تقرّه المعلمة أبداكان علي إذن أن أتجاوز سلطةَالمعجم، وسلطةَ المعلمة معا، ورحت أكتب بعناد معاني تخالف معاني المعلمة، وجاءت عبارة الجاحظلتبارك مشروعي: "المعاني مطروحة على قارعة الطريق". فإذن هي ليست في المعاجم وحسب؛ إنها في الطريق، والشارع، والمزرعة، ودكان موهن المقابل لبيتنا، وفي كل مكان. حتى تملكني شعور بأن المعاني أكثر الأشياء وفرة في الوجود، أكثر من الكلمات التي يمكن أن تعبّر عنها، وكل ما عليّ فعله هو العثور عليها بالطريقة نفسها التي كنا نفتشفيها صغارا عن القطع المعدنية في الرمل. تغيرت طريقة اللعب، وانتقلت من المعاجم إلى الحياة. ولكن ماذا أفعل بالمعاني التي أعثر عليها؟
اقتنيت دفترا (ما زلت أتذكر لونه الأحمر)، ورحت أخط فيه أفكاري عن معاني الصداقة، والمدرسة، والوطن، والمعلمة التي لابد أنها تعرف كلَّ شيء، حتى عندما رحنا ندرس معها قصيدة السياب: 
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر          أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
قالت المعلمةُ إن السياب يتغزل بمحبوبته، فلم نناقشها، حتى اكتشفتُ متأخرة أن لا غزل في قصيدة السياب، وإنما خوف يسكن كلماته وحسب[6]أي غزل في غابة ساعة السحر، أو في شرفتين ينأى عنهما القمر. خائف السياب فظنوهمتغزلا. أفهم الآن أن لبعض الكلمات سلطةً على غيرها إذ تحرف السياقَ العام لصالحها. وتلك كانت سلطة كلمة (عيناك)، بطغيانها على حقيقة الغابة الموحشة، وساعةِ السحر المرعبة، والقمرِ المتنائي تاركا الشرفة مظلمة. أتساءل الآن: هل يمكن ألا تكون (عيناك) غزلا كلما وردت في نص شعري؟ حاول السياب أن يقول شيئا غير مألوف، ولكن سلطة العينين جعلته رهين الفهم المألوف. لم تكن المشكلة هنا سلطةَ سياق، وإنما سلطةَ مفردة.
ورغم ذلك كان الغزل صحيحا وفقا لرؤية المعلمة، والخوف صحيح كذلك وفقا لرؤية أخرى. وحده الأدب يفسح مساحة للتأويل شاسعة تتسع لي وللمعلمة معا، قبل أن تدخل بيننا سلطة أخرى، هي سلطة الدرجات: في دروس النقد الأدبي تخيرنا المعلمة بين تعبير الكاتب في الدرس، وتعبير آخر يتفق معه في المعنى ويختلف عنه في الصياغة. تقول: "في الامتحان: حددن الأفضلية دائما لتعبير الدرس، حتى لا تخسرن الدرجات. أما سؤال التعليل فاكتبن: لأنه الأقوى تأثيرا في المعنى!". مجددا يُقيّد الأدب في مدارسنا  وتُحاكم الذائقة، ويحاصر المعنى في اتجاه واحد باسم الدرجات
سنكبر ونكتشف أن المعلمةَ كانت صورةً مصغرةًعن السلطة بمختلف أشكالها اجتماعية وسياسية وثقافية ودينية، وتتغير الدرجات لتصبح: العيب والحرام والجنة والنار والرقيب .. والمقص!

حرية المعنى:
أيقنت في الجامعة بأن الأدب حقلُ المعاني المتعددة، وأن النقد الأدبي هو أجمل أشكال التعبير عن تعدد المعنى. نظل نبحث عنه في ثنايا النص حتى نجده، ولا تعادل سعادةُ العثور عليه أيةَسعادة أخرى. أليس النقد بعد كل شيء: اكتشاف؟ وما الاكتشاف في حقيقته سوى العثورِ على معنى ما، سواء أكان اكتشافا في النص أو في المجرة. وجدت نفسي في هذه المنطقة التي أسميها معملالا يختلف في شيء عن معامل الكيمياء، حيث تخضع النصوص للكشف والفحص والمساءلة بغية الوصول إلى معانيها الكامنة، دون أن تكون لي علاقةٌ تلزمني بما استقر في بطن الشاعر؛ فللشاعر بطنه وما حوى، ولي رؤيتي التي لا تلزمه. 
هكذا اقترن المعنى بالحريةالحرية التي تمنحك الحق في أن توجد معناك الخاص بك للأشياء. معنى لا يشترط تشابهه مع معاني الآخرين، ويضبطها جميعا أنها مهما تعددت لا يمكن أن تكون غير نهائية وإلا أصبحت ضربا من الفوضى كما يقول ناقد معروف.
وإذا كان النقد لا يزدهر حيث لا تكون الحرية، فإن المرء لن يكون ناقدا ما لم يكن حرا. بيد أن الحرية النقدية لا تعيش منفصلة عن الحرية في سياقاتها السياسية، والثقافية، والاجتماعية، والدينية، إلى ما لا نهاية من سلسلة الحريات المنقوصة في بيئاتنا. فهل يمكننا - والحال هذه - أن نستمر من دون حرية/ من دون معنى؟ أود أن أكون رومانسية وأنجرَّ وراء رغبتي في قول (لا)، ولكن الواقع يقول إننا مازلنا نعيش رغم ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] بعثها لي الناقد المغربي عبداللطيف محفوظ، وناقشناها في إحدى حلقات برنامج (وقال القارئ) الذي أعده وأقدمه في إذاعة سلطنة عمان. شارك في مناقشة هذه القصة إلى جوار عبداللطيف محفوظ القاص العماني مازن حبيب.
[2] راجع:
• البحث عن المعنى، دار الحوار، دمشق، 2017، ص7
• علي حرب: لعبة المعنى، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1991، ص267
[3] البحث عن المعنى، مرجع سابق، ص11
[4] يقول سعيد بنكراد: "السيميائيات بحث عن المعنى"، انظر : البحث عن المعنى، مرجع سابق، ص7
[5] توفي في الثلاثين من يوليو من عام 2000
[6] ألمح إلى هذا المعنى الأستاذ الدكتور أحمد الطريسي في إحدى محاضرات النقد الحديث في مرحلة الماجستير بجامعة السلطان قابوس في عام 2008.

7