الأربعاء، 22 أبريل 2020

حديث مع روز اليوسف: هل تعيش الرواية العمانية عصر ازدهارها؟

حديث مع روز اليوسف: هل تعيش الرواية العمانية عصر ازدهارها؟ [1]

منى بنت حبراس السليمية

أعتقد – كما يعتقد غيري – أن التأريخ لريادة الرواية في عمان قد حُسم بتغليب المسألة التاريخية على المسألة الفنية، فلا يختلف اليوم اثنان على ريادة عبدالله الطائي الذي نشر أولى رواياته (ملائكة الجبل الأخضر) في عام 1981، وتلاها بروايته (الشراع الكبير) رغم أنهما كتبتا قبل هذا التاريخ بسنوات. ثم تلته أسماء كتبت الرواية في الثمانينيات وحتى نهاية التسعينيات أذكر منهم: سعود المظفر، وسيف السعدي، وحمد الناصري، ومبارك العامري، وعلي المعمري الذي أسس بروايته (همس الجسور) التي صدرت في 2007 لمرحلة جديدة من مسيرة الرواية العمانية كما ذهب لذلك شبّر الموسوي. وقد ناقشت بشيء من التفصيل موضوع التأريخ للرواية العمانية في مقال نشر في مجلة نزوى بعنوان (الأصوات الروائية الجديدة في عمان، العدد 85). ما أود أن أقوله في هذه المسألة: إن الريادة شأن تاريخي محض، وليس للشروط للفنية شأن في البت فيه.

وقد أصابت الكاتبة العمانية بسهم وافر في الكتابة الروائية، وتعود بداية إسهامها إلى عام 1999 عندما أصدرت الروائية بدرية الشحي روايتها (الطواف حيث الجمر) التي كانت علامة فارقة في مسيرة تطور الرواية العمانية بشكل عام. ثم هناك أسماء روائية عمانية مهمة: جوخة الحارثي التي أصدرت روايتها الأولى منامات في 2004، ثم (سيدات القمر) في 2010 التي فازت بعد تسع سنوات بجائزة مان بوكر العالمية 2019، ثم روايتها (نارنجة) التي صدرت في 2016 وفازت بأرفع جائزة محلية وهي جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب. وهناك هدى حمد التي انطلقت في الكتابة الروائية من روايتها (الأشياء ليست في أماكنها) في عام 2009 وفازت بجائزة الشارقة للإبداع العربي. ثم روايتها (التي تعد السلالم) في عام 2013، تلتها روايتها (سندريلات مسقط) في 2016، وأخيرا روايتها (أسامينا) في 2019. وبشرى خلفان بروايتها (الباغ) التي صدرت في 2016 أيضا، وحققت نجاحا واسعا ومقروئية عالية. بالإضافة إلى أسماء روائية أخرى دخلت عالم الكتابة الروائية وتفاوتت مستويات الكتابة الفنية لديها.

وإذا كان هناك ما يميز الرواية في بلد ما عن آخر، فهو الخصوصية المكانية بالدرجة الأولى، فلا يمكن إغفال خصوصية المكان في الرواية العمانية. عمان بلد غير مكتشف، وبقي على الدوام بعيدا عن دائرة الضوء التي غالبا ما تستأثر بها بلدان المركز العربي. وفي تصوري أن الرهان دائما على صدق الاشتغال على المكان ليس بوصفه مكونا فيزيائيا جامدا ويتجلى في النص عبر بوابة الوصف وحدها، وإنما من خلال ما ينطق به هذا المكان من مخزون حكائي يمد الجنس الروائي عموما بطاقة جديدة لم يكتشفها القارئ العربي أو العالمي من قبل. وبالرجوع لمعظم القراءات التي تناولت رواية (سيدات القمر) كانت كلها تجمع على السر المكاني الذي قدمته جوخة الحارثي في روايتها بما يشبه الاكتشاف الجديد. بالطبع هناك ما يمكن أن يميز الرواية العمانية غير المكان، ولكنها تبقى قواسم مشتركة؛ فكلنا نملك حكايات، ولكن المسألة هي كيف نكتبها.

وفي ظني أن أية محاولة لتقييم الرواية العمانية الآن ستتطلب حذرا بالغا، لاسيما بعد فوز جوخة الحارثي بمان بوكر 2019. ما أعتقده - أو ما آمله - أن الحال بعدها لن يكون كما كان قبلها، عربيا وعالميا؛ فالرواية العمانية الآن تمر بمرحلة الاكتشاف (أو الانكشاف) من قبل الآخر غربيا وعربيا، ولا نعرف المدى الذي يمكن أن تتسع له هذه الحالة، وما هي حدود خطها الزمني الذي يمكن أن تمتد إليه. ما نحتاجه هو أن نستثمر هذه الحالة بمزيد من الاشتغال على إلقاء الضوء على الرواية العمانية الجيدة، والدفع بها للقارئ الآخر سواء من خلال تقديم كشف نقدي يفتح آفاقها، أو بالبحث عن مسارات لترجمتها إلى اللغات الأخرى. وكما قلت في مقال بعنوان (عالمية الرواية العمانية؛ سؤال الكتابة والتلقي والزمن)  نشرته جريدة عمان في 24 يوليو 2018: "إننا لا نعرف أية صدفة قد تجمع قارئا من أقاصي الأرض بنص عماني تغير خارطته التاريخية". وبالضبط هذا ما حدث مع النص المترجم لرواية سيدات القمر بعد تسع سنوات من صدورها، فهي اليوم أشهر رواية عمانية بعد هذا الفوز.

​فهل نعيش الآن عهد ازدهار الرواية العمانية؟ أعتقد أن الحديث عن عهد ازدهار أدب ما حديث يقع في خانة المستقبل، إما بالتحقق أو بالتأريخ. ولكننا الآن لا نستطيع الحديث عن فترة ازدهار للرواية العمانية لأن هذا لم يحدث بعد. ولا نعرف إن كان سيحدث أم لا؛ لأن الرواية العمانية - كحال الرواية العربية عموما - تعاني مشاكلها الخاصة والعامة. وصعود أسماء روائية معينة لا يحقق بالضرورة ما يمكن أن نسميه فترة ازدهار. الازدهار لا يعني الكتابة وحدها، ولكنه يعني أيضا سياقات تلقٍٍ سليمة ومناخات حرية تتبنى الإبداع وتأخذ بيده ولا تصادره أو تمنعه. ما أعتقده أننا ما نزال بعيدين عن الفرصة التي يمكن أن تكون فترة ازدهار حقيقية. ولكن الأهم هو أن تستمر الكتابة، وتتوالى الإصدارات الروائية، وأن نبقى ندافع عن الكاتب وحقه في الكتابة، والزمن وحده هو الكفيل بالحكم على كل شيء، وأن يبقى الكاتب العماني، وأي كاتب ومهتم في أي بلد، يحلم بأن يكون أدب بلده مقروئا، وأن يحظى بحقه من الاهتمام والالتفات. 

أما التحديات التي تواجهه فأصنفها إلى نوعين: نوع خاص بالكاتب نفسه، ويتمثل في مدى قدرته على تطوير أدواته ومنجزه. ونوع يتصل بالبيئة التي يكتب فيها وتتلقى كتابته. ففي عمان هناك أزمة أسميها (أزمة تلقٍٍ)، تتمثل في محاولة تلقي الأدب بوصفه خطابا أخلاقيا تربويا، وتتم محاكمته اجتماعيا بحسب ما يدعو إليه من فضيلة أو العكس. في السنوات الأخيرة واجه عدد من الكتاب في عمان تنمرا غير مسبوق من شريحة واسعة ممن يزعمون أنهم قراء بدعوى ما تتضمنه كتاباتهم من إشارات وإيحاءات تخدش حياء المجتمع، ولم تسلم من ذلك رواية جوخة نفسها التي حازت على جائزة عالمية. أما التحدي الثالث فهو تحدي الرقابة التي باتت تمارس منعها المباشر لعدد غير قليل من الإصدارات الأدبية العمانية دون أن تقدم تبريرا لهذا المنع.

وفي ظني أن كل كاتب عربي يحلم بأن يحقق حضورا في مصر (طالما أن السؤال عن حضور الكاتب العماني عند القارئ المصري)، لأنها بلد كبير والانتشار فيها يحقق نصف المسافة بين الكاتب وبين القراء العرب. أما التبادل المفترض فينبغي أن تحققه دور النشر كما أتصور، لأنها المعنية بعملية التوزيع في المقام الأول، فليس من مهام الكاتب (وهذا شيء أصر عليه) أن يوزع كتبه، وإنما هي واحدة من أولى مهام دور النشر التي تذهب بالكتاب إلى القارئ العربي في معارض الكتب كما نتخيل. ولكن دعيني أخبرك بشيء: هناك دور نشر  تنشر لمجموعة كبيرة من العمانيين (على سبيل المثال)، ولكننا في معرض الكتاب بمسقط نكتشف أن معروضها هي الكتب العمانية فقط دورة بعد دورة. وحصل أن سألت في إحدى الدورات عن كتاب لكاتب سعودي فقيل لي إنهم لم يشحنوه لأن كمية الكتب العمانية التي شحنوها كانت مكلفة، وعلى كلٍ هذه هي الكتب المطلوبة في عمان. تلقائيا فكرت أن هذه الدار عندما تذهب إلى السعودية ستشحن كتب السعوديين فقط، وعندما تحل في بلد آخر تشحن كتب ذاك البلد وهكذا. يعني كتبكم بينكم! فكيف يحدث التبادل بين البلدان إذا كانت دور النشر تعرض للمتلقي ما يصدر عن مواطنيه فقط؟ الحديث عن دور النشر يطول كثيرا وذو شجون، ولكن هناك بوارق أمل في دور نشر تعمل بمهنية عالية ونسعد بنشاطها وتسويقها لما يصدر عنها. اليوم أستطيع أن أقول إن دار النشر أصبحت عتبة مهمة من عتبات القراءة: عن أي دار تنشر أقل لك ما كتابتك. هكذا أفهم السوق: من يكرس نشر السيئ لن تتوقع منه جيدا، واجتماع الغث والسمين في جناح واحد ليس في صالح الجيد بطبيعة الحال. وعلى الكتّاب أن يتخيّروا لكتبهم دورا تكمل معهم المشوار الذي بدأوه بألم الكتابة، لأن النشر ألم هو الآخر، ولابد من التصدي له بإخلاص لا يقل عن إخلاص الكتابة.

حسنا، يبدو أنني سأنهي بالسؤال الذي أرجأته طويلا، فأنا نادرا ما أجيد الحديث عن نفسي، ولكني أعتقد أن المشهد الثقافي في عمان عرفني أول مرة في الشارقة. كان ذلك في ملتقى الشارقة للإبداع العربي الثاني في ديسمبر 2011. جرت العادة أن تُرشِح جمعية الكتّاب والأدباء أو الرابطة في كل بلد خليجي كاتبين وناقد واحد في كل دورة، ولكن في السنة التي شاركت فيها طُلب من الجمعية العمانية للكتاب والأدباء أن تُرشح كاتبين فقط؛ لأن الناقد (المفترض) قد تم اختياره وهي منى السليمي. حارت الجمعية وأعضاؤها في منى السليمي هذه التي لم يكن أحد قد سمع بها من قبل، وليست عضوا في الجمعية أساسا. يعود هذا الأمر إلى الروائي السعودي محمد المزيني الذي جمعتني به صداقة خلال مرحلة إعداد الماجستير، وتحمس لمشاركتي في الملتقى الذي كان على وشك التحضير له بصفته عضوا في مجلس أمنائه. كانت ثقة كبيرة منه وأرجو أني لم أخيبها. من هناك كانت أولى بداياتي.
قبلها كانت كتاباتي ومحاولاتي لا تتجاوز سطح مكتب جهازي المحمول، وأحيانا النشر الشحيح في ملحق شرفات الذي كانت تصدره جريدة عمان أسبوعيا. في الواقع نشرت فيه مرة واحدة فقط قبل ذلك التاريخ.
وإذا كان لي أن أتذكر محطات فارقة في حياتي، فأتصور أن كل جهد ننجزه إنما هو محطة، لذا فإن مشاركتي في الشارقة كانت محطة، وقبلها كان حصولي على الماجستير محطة سابقة في غاية الأهمية، لأن ما اكتشفته فيها ما كنت لأكتشفه في مرحلة البكالوريوس ربما. ثم مؤخرا مرحلة الدكتوراه في المملكة المغربية. لا أعني بطبيعة الحال أن الحصول على الشهادة بحد ذاته محطة، ولكن الرحلة نفسها واكتشاف الجديد في كل مرة. ولكني سأبوح لك بسر وهو أنني كائن كسول في العادة وما لم أضع العمل في سياق يُلزمني به فسآخذ وقتا طويلا لحين إتمامه؛ لذا أربط البحث بشرط زمني، وهذا الشرط هو  الشرط الأكاديمي.
وإلى الجانب النقدي، هناك محاولاتي السردية التي أودعها دائما في مدونتي الصغيرة (سماء وإلف). ثمة شغف يلازمني في الجمع بين الاشتغال النقدي والكتابة السردية، ولكني أجد نفسي باحثة أكثر من كوني ساردة، وهذا ليس اختيارا بعد كل شيء، ولو كان باختياري لاخترت أن أكون روائية.

ــــــ
[1] أصل المقال حوار صحفي أجرته معي ماجي حامد ونشر في مجلة روز اليوسف بتاريخ 22 يناير 2020

السبت، 4 أبريل 2020

العالم بعد عام من كورونا

العالم بعد عام من كورونا

منى بنت حبراس السليمية


في 27 يوليو 2018 كتبت منشورا في الفيسبوك قلت فيه: "كانت السنوات في ذاكرتي علامات، فلا يمكن أن تكون ٢٠٠٥ مكان ٢٠٠٦، ولا أن تختلط أحداث سنة ٩٢ بـ ٩٣. كل شيء كان مصفوفا بعناية داخل رأسي قدر ما يستطيع أن يتذكر. ولكن بعد ٢٠١١ اختلطت أوراقي، وما عادت ذاكرتي تحفظ جيدا حدثا إذا ما حدث في ٢٠١٢ أو ٢٠١٣، وفقدت التمييز بين ذكرى محددة أوقعت في ٢٠١٥ أو ٢٠١٦؟
الأغرب من كل هذا أني أشعر أن عام ٢٠٢٠ بات شيئا من الماضي، وأننا نعيش أحداثا عشتها من قبل، وأستغرب كيف أننا ما نزال في ٢٠١٨! لابد أن في الأمر خدعة، وأني ضحيتها".

لا أعرف الباعث الذي دفعني لكتابة هذا الكلام قبل عامين! لعله الاحتياج إلى التنبؤ، إذا أمكن أن يكون التنبؤ بالمستقبل احتياجا. ولا يهم بعد ذلك أصدق ما تنبأنا به أم أخطأ.

ولكن النص أعلاه - مقارنة بما نعيشه حاليا في عام 2020 - يشي بأن الأحداث، على الأقل، ستعود إلى الترتيب والتموضع الصحيح في ذاكرتي بعد خربطة عانتها طوال العقد الأخير (في حال مازلت أثق في سلامة ذاكرتي)؛ فما بعد كورونا لن يكون كما قبلها. عبارة لاقت رواجا واسعا من شرائح مختلفة بسبب التحولات التي حتمتها الأزمة، فما كنا نعتقده صعبا ويستغرق زمنا طويلا أصبح بالإمكان تنفيذه تحت إلحاح الضرورة. ولكن هل سيكون ما بعد كورونا مختلفا حقا عما قبله؟ لا أحد يستطيع الجزم بأن الحال لن يعود سيرته الأولى بعدما يطمئن الإنسان ويركن إلى كسله الفطري وقد زالت الضرورة التي ساقتها الأزمة.

حسنا، سؤال الصديق طالب الرفاعي عن توقعي لما سيكون عليه الحال بعد عام من الآن، سؤال أسهل مما لو كان عن الحال في مستقبل أبعد غير محدد. أما والحال هكذا، فأتوقع أننا سنكون أمام أحد أمرين: أن يكون العالم قد تعافى لتوه من كورونا، أو أنه ما يزال يرزح تحت وطأته إذا ما أخذنا في الحسبان تصريحات جهات عالمية تتوقع بأن أي لقاح لكورونا لن يكون متاحا قبل حلول 2021 (وهي توقعات يجب أخذها على محمل الجد بعد كل شيء).

وفي كلا الحالين (إذا ما بقينا على قيد الحياة بطبيعة الحال) أحسب أن العالم لن يغادر حذره في ممارسة حياته السابقة، إذ لن تعود الحياة سريعا إلى ما كانت عليه وحتى وقت طويل، وإنما سنعمد إلى مزاولة حياتنا عن بعد رغم ما سيؤول إليه كورونا من تلاش وزوال؛ فمن يضمن عدم مباغتتنا من فيروس آخر وقد بدت هشاشة العالم كالحة أكثر من أي وقت مضى؟ لن تعود حياتنا الاجتماعية كما كانت عليه، وسنتجنب التجمعات الكبيرة لوقت بعيد، وسنبتكر طرقنا الجديدة في التواصل والسلام والتحية. وسنعتمد العالم الافتراضي أسلوب حياة، وسنعود لعقد ندواتنا وملتقياتنا ولكن عن بعد، لنكتشف أنه كان بإمكاننا فعل أشياء كثيرة بأقل التكاليف، دون أن نفقد متعتنا بها. على الرغم مما قد يعتقدهالبعض بأننا سنميل إلى التعويض عن مدة التباعد الاجتماعي بالإمعان في التقارب والمصافحة والاحتضان كإعلان انتصار على الزمن الذي تمدد كورونا فيه بيننا.

تُعلمنا  الحياة بأن المستقبل قد يحمل الكثير من أمثال كورونا، وأن العالم معرض لأن يصاب بالشلل الكامل مرات ومرات، وأن المستقبل الحقيقي لمن يتعلم الدرس جيدا ويعمد فورا إلى تقوية مناعته الداخلية، وتعزيز صناعاته المحلية، وتحقيق اكتفائه الذاتي من الغذاء والدواء والمعدات اللازمة في ظروف كهذه، والأهم لمن يعلي من شأن البحث العلمي،  ويرمم قصور أنظمته الصحية والبحثية. فمن يدري لعل كورونا الحالي ليس سوى مقدمة مخففة لحالات أكثر شراسة لا قدر الله.

قبل أسابيع طرحتُ سؤالا على الروائية العمانية بشرى خلفان في البرنامج الإذاعي (المشهد الثقافي) الذي يعده زميلي خلفان الزيدي، قلت لها: هل تتوقعين ظهور ما يعرف بأدب العزلة وصدور أعمال أدبية تتخذ من كورونا مادة على غرار رواية ماركيز (الحب في زمن الكوليرا)؟  اعتقدت بشرى إن هذا غاية في الإسفاف والابتذال لو تحقق، ورجت ألا يتهور الكتاب في هذا الاتجاه.

وفي ظني أن الكتابة لا تحتاج إلى عزلة وزمن متاح وحسب، بل تحتاج لما هو أهم من ذلك كله: إنها تحتاج إلى إحساس الكاتب بطبيعية العالم من حوله؛ لأن الكتابة ترجمة لحالة الاضطراب الداخلي لصاحبها، وحتى تتحقق فإنها تشترط سكون العالم حول فاعلها. ولكن يبقى هناك من يملك القدرة على الكتابة تحت أي ظرف. وحتما بعد عام من الآن سنجد أنفسنا أمام أعمال أدبية تولد من رحم هذه اللحظة، ولكني لن أتحمس لقراءة شيء منها لسببين:
الأول، غياب المسافة الفاصلة بين الحدث ولحظة الكتابة؛ ما يعني غالبا كتابة مستعجلة لم تأخذ فسحتها الكافية لتنضج وتختمر.
- أما السبب الثاني فهو أن ما نشهده في واقعنا الآن إنما هو أغرب من أي عمل تخييلي، وأتصور أننا نعيش رواية لم يكتبها أحد، وإذا ما كتبها أحدهم مستقبلا فلن تكون مدهشة بالقدر الذي عشناه ونعيشه فعلا على أرض الواقع.

ستختلف الكتابة حتما، شروطها، أسلوبها، شكلها. أليست الكتابة هي الإنسان؟ واليوم يخضع هذا الإنسان لتجربة مريرة عامة. يعيشها العماني كما يعيشها الصيني والأمريكي وحتى الإنسان القطبي. ولكن التجربة رغم مرارتها مثيرة، لأنها أدخلت العالم كله في فرن واحد، تصغر أمامها كل التجارب المشتركة السابقة التي مرت على العالم، لأن ما كان ينقصها في ذلك الوقت هو المعايشة الآنية للحدث في عالم مترامي الأطراف بفضل ما وفرته الآلة الإعلامية الهائلة، فنعرف من أصيب بكورونا في أقاصي الأرض في اللحظة نفسها التي تظهر فيها نتيجة الفحص.

يتغير العالم بسرعة مجنونة، ويفرز قواه بشكل بالغ الوضوح، ويختبر قوة علاقاته وتحالفاته وتكتلاته، ويمحص السياسات والسلوكيات، ويعري عيوب كل بلد ونواقصها بموضوعية موجعة. ولكن رغم ذلك كله، ليس على أن الأدب أن يسرع؛ لأن رأس ماله هو فاصل الوقت، لا العزلة ولا الموضوع وحدهما كفيلان بإنتاج أدب يصمد في المستقبل.

3 أبريل 2020

الجمعة، 17 يناير 2020

عمان الأبدية

عمان الأبدية

منى بنت حبراس السليمية

كان يضرب مواعيده في أصقاع الأرض، وينصب خيمة مجلسه في الصحاري والوديان وسفوح الجبال، يلتقي بناسه وأهله، يسمع منهم ويسمعون منه. يجرب الحياة بينهم، ويتقاسم ظروفها معهم. 

وهو حيث حلّ وحيث ارتحل تمتلئ البلاد بأخبار موكبه. يتبعه الناس ينهلون قبسا من عطف أبوته دون حجاب أو حاجز. يوقف موكبه ليستمع إلى شيخ استند بمرفقه إلى نافذة سيارته كمن يسامر رفيق طفولته، ويترجل من سيارته ليسلّم على جمع من النسوة خرجن للسلام عليه. يفعل ذلك باطمئنان المحاط بأهله، وبشغف الساعي إلى إسعاد شعبه. 

عرفه العمانيون عابرا شوارع عمان وطرقاتها، إذ يضبطون معه ساعة اللقاء، ويقفون على الأرصفة يترقبون مروره، وكلُّ أملهم نظرةٌ عجلى لا يستنكفون أن يبذلوا لأجلها ساعات نهار كامل، مرددين هاتفين: بالروح والدم نفديك يا قابوس. 

تلك النظرة القصيرة هي ما يحتفظ بها العماني من لقائه بجلالته خارج أسوار الشاشات، ويسردها لأطفاله كما لو أنها امتدت دهرا.

أحبوه لأنهم رأوه في المفاوز والقفار أكثر مما سكن القصور، وأحبوه لأنه وصل إليهم وإن نأى المكان وعسرت الجغرافيا، فمهّدها لهم، ووصّل عمان بأطرافها، ومدّ بالحركة شرايينها، وقرّب البعيد إلى بعضه حتى تقارب والتأم.

أطلق على السيوح أجمل أسمائها، فكانت الشامخات والطيبات والراسيات والبركات والخيرات والرحمات والعلا واليحمدي والنماء وغيرها من الأراضي الخالية من مظاهر الفخامة التي جمعته بشعبه، ولم يكن لها من شرف إلا أن ضمت قائدا إلى أحضان أمته على بساط من البساطة والتواضع. تواضع السلطان لشعبه، فرفعه شعبه إلى أعلى مقام.

وعندما رأوا موكبه الأخير يسير به من بيت البركة إلى جامع السلطان قابوس الأكبر صبيحة الحادي عشر من يناير 2020، بكوه كما لم يبكوا حبيبا من قبل، وانتحبوا لفقده كمن يودع آخر ما يملك. كان يسير في الطرقات نفسها التي عبرها من قبل، وفي أحداقهم تشتعل جمرة الكلمات التي يودون تكذيبها على الشاشات: "مراسم تشييع جثمان المغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور". ولكن عزاءهم أبدا أنه الحاضر في الحياة، والحاضر في الموت، وفي ضمير أجيال عاشت في عهده من "المهد إلى الخلد".

***

في حياة كل الشعوب تواريخ مميزة كالوشم محفوظة في تلافيف الذاكرة، تضرب مواعيدها التي لا تخلفها السنون المتعاقبة، وكلما عادت عاد الحنين والشوق والوجد. 

منذ الثالث والعشرين من يوليو من عام سبعين، وعلى مدى خمسين عاما تلت، صار هذا التاريخ وشما وذاكرة، يعرفه العمانيون أكثر مما يعرفون تواريخ ميلادهم؛ فلكل منهم حكايته ولكل جيل شواهده.

فهل ستغيب شمس الثالث والعشرين من يوليو بعد اليوم؟ يقول رصيد العقود الخمسة الماضية إن بعض الأحداث علامات، وبعض العلامات منارات ومنازل، يُنزلها أصحابها منزلة قصية في أعماق القلب.

كيف لا تكون كذلك وهي شاهدة على العهد الذي بدأه جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور طيب الله ثراه، ومنه انطلقت حياة جديدة لعمان، ولن تنتهي.

آمن منذ اللحظة الأولى بأن الإنسان بالتعليم.
ولأن درب البناء شاق وطويل، فليس على العماني أن ينتظر أكثر، ومن فوره بدأ نهضته التعليمية من تحت ظلال الشجر، معنيا بالكيف لا بالشكل، بالمضمون لا بالظرف. 

استطاع أن يفعل ذلك - رغم شح الموارد وفقر الإمكانات -بإيمانه الذي شق الصخر طرقا، وبعزيمته التي حولت الصحراء واحة، وبشعبه الذي آمن به فآزره وأيده، وسار معه وبجواره، يبنون عمان شبرا شبرا، فرأوها كما رآها تكبر يوما بعد يوم، وهم يكبرون معه إذ يكبر، حتى مضت به السنون إلى خمسين عاما، يسابق فيها الزمن ليفعل لهم ما بوسعه أن يفعل، حتى شاخ جسده ووهن، ولكن عزمه يرفض أن يشيخ.

وعندما آن له أن يستريح رسم في السر راحة عمان من بعده، حرصا منه على أن تنأى عن أسباب الشقاق والفتن، فاختط لها بيده الكريمة من توسّم فيه أن يكمل البناء من بعده، فسمّى لنا هيثما سلطانا لعمان لما توسمه فيه من صفات تؤهله لحمل الأمانة.

تلك أياديه التي كانت تسيّر الأمور بعد وفاته، وتلك تربيته التي آتت أكلها في لحظة الامتحان الأصعب، ليثبت الجميعُ أنهم تربية قابوسية خالصة، وأن جسده الطاهر وإن غاب، فنهجه باق يقود المشهد، ويحرك القلوب التي أنى اتجه اتجهت.

عمانك يا سيدي هي عمانك، بحضورك وغيابك، لوحتك التي اخترت لها شكلها وألوانها، سَمتها وطابعها، نهجها وسيرتها، فعلها وقولها. خمسينك التي قضيتها بين أجيال عمان ترعاهم ويرعونك جعلت العمانيين قابوسيين في خُلقهم وإخلاصهم، فحق لهم اليوم أن يقولوا بصوت رجل واحد: "نحن قابوس بن سعيد أبناء عمان".

***

"أريد أن أنظر إلى خريطة العالم ولا أجد بلدا لا تقيم علاقات صداقة مع عمان" عبارة لا تزيد عن 15 كلمة، ولكنها رسمت سياسة عمان الخارجية، وتاريخا من العلاقات الدولية تضيق عنه المجلدات.

وقد أثبتت الأيام أنه كان على صواب دائما. الصواب الذي تعجر عن رؤيته البصائر المحدودة، ولكن الزمن كان دائما كفيلا بأن يجلّي مراميه، ويصادق على رأيه وبُعد نظرته.

نأى بالنفس، واعتمد الحرص، وهو يعبر بالبلاد في محيط تمور فيه الصراعات، وتتعالى فيه أصوات الخلافات، وسعى للإصلاح ما أمكنه، وجنب المنطقة شرور الحرب ما استطاع. شق طريقه بثبات، وقال (لا) حيث أراد، وسار مع الجمع متى ما اعتقد أن الخير حيث يسيرون.

اجتمعت في شخصيته صفات العطف واللطف، والشدة والحزم، مقدما الأوليين على الأُخريين متى ما وجد أنهما أقرب للإصلاح. وعمل بمبدأ العفو وهو القادر، ومد يد السلم وهو الغالب. يقرأ محبوه في نظرته الحب والصرامة معا، فمتى ما أحب لا يلين، ومتى ما جدّ لا يغالي.

اسمه قابوس؛ علامة تخصه وحده، ولكنها ارتبطت بعمان: فكان قابوسها، وكانت عمانه. وأبى إلا أن تكون عمان علامة بمواقفها، ومبادئها، ونهجها، وعلاقاتها، وسعيها للسلم داعية إليه. 

قابوس بن سعيد بن تيمور - فقيد الأمة والعالم - رجل أتاح له عهده أن يرسّخ سيرته في الذاكرة، بأنه السلطان الذي لا يظلم عنده أحد، فإليه يحج الفرقاء بثقة واحدة ويقين راسخ بأياديه البيضاء ونواياه الخيّرة.

جمع الماء والنار، واحتكم لحكمته الشرق والغرب، وقرّب بين البعيد والقريب بهدوء الواثقين، وتدبير العارفين. آمن بالسلام مذهبا، فسار في سبله مجنبا عمان الدخول في تحالفات تشعل المنطقة والعالم، حتى رحل عن الدنيا وليس في يده دم بشر.

الخميس، 19 ديسمبر 2019

الصوت الجريح



منى بنت حبراس السليمية

"عبد الكريم يغني لي" لم تكن عبارة فهد وحده في رواية فئران أمي حصة. كانت عبارتي أيضا.

مع عبد الكريم أكتشف أن المواساة ليست في القدرة على التخفيف عن الحزين، وإنما في القدرة على الحزن معه. وعبد الكريم جريح بما يكفي لأن يشاركنا أحزاننا جميعا.

 يستدعي صوت عبد الكريم صورة طفلة تنزل برفقة أخيها من السيارة، وتعبر الشارع إلى الجهة الأخرى لتدخل دكانا تشتري منه شريط كاسيت صدر لتوه، وسرعان ما يلقمانه مسجل سيارة أخيهما الأكبر فيغني عبد الكريم: "بيني وبينك غربة كنها الليل".

كانت الطفلة ابنة تسع سنوات، ولم يكن حزن عبد الكريم ما يشدها لصوته في طفولتها تلك، ولكن شيئا خفيا تحاول اكتشافه في كل مرة تسمع فيها أغانيه.

في طريق عودتها اليومية من العمل بعد غروب الشمس، تدير هاتفها على تطبيق إذاعة أحوال العاشقين وتربطه ببلوتوث السيارة ليصدح عبد الكريم: "غريب .. كيف الزمن يرحل". فيؤنس وحشة الزمن في روحها قبل أن يختصره لها في مشوار العودة إلى البيت.

تعرف أن إذاعة عبد الكريم في هاتفها، ولكنها تأبى النزول من السيارة لمجرد أن أغنية: "رد الزيارة" قد انبثقت للتو بينما تضع جير السيارة على الـ P 

قبل أيام طلبت من صديقتها أن تحمّل تطبيق الإذاعة في هاتفها بينما تدردشان عبر الواتساب. تركتا صوته خلفية لدردشتهما. ماذا لو يعلم عبد الكريم أن أغنية "نعم مشتاق لك وقلبي يبيك" انطلقت ليلتها من ثلاث حناجر في لحظة واحدة من أماكن مختلفة!

إذاعة أحوال العاشقين، هي أعظم اختراع لعشاق عبد الكريم عبد القادر. وقت تشاء انقر على تطبيق الإذاعة في شاشة هاتفك ولن يتأخر عبد الكريم الذي سيبادر رغم ذلك بعتبه "تأخرتي، وهذا الموعد الأول"

لم يكن "الموعد الأول"، ولن يكون "آخر كلام" ولكنه دائما "منى الروح والعين".

الأربعاء، 4 ديسمبر 2019

ضعف

ضعف

منى بنت حبراس السليمية

كنت كلما حاولت أن يصل صوتي حتى آخر طالبة في الفصل أختنق. ما أن أبدأ الحصة حتى أشعر بيد تمسك بحلقي، وتجعل صوتي يخفت ويخفت ولا أنتبه إلا لصوت الطالبات في الخلف: أستاذة ما نسمع!

أحاول مجددا. أعيد ترتيب أنفاسي، وحبالي الصوتية. أعاود بصوت أحاوله أن يكون أعلى، فأدخل في نوبة سعال لا تنقطع.

لا بأس. لن أستسلم. أشرب جرعات من الماء. أعتمد هذه المرة على التحرك داخل مساحات الفصل وأسير مع صوتي طالما عجز عن الذهاب لوحده بدوني حتى آخر طالبة. مشى الحال. 

في بداية فصل جديد، قررت المعلمات ابتداع حصة جماعية، فجمعن طالبات أربعة فصول من الصف السادس في قاعة كبرى متعددة الأغراض، وقسمن الحصة إلى فقرات. كل معلمة تصعد على خشبة القاعة وتعطي فقرة للطالبات المحتشدات.

كان علي أن أبدأ. القاعة أكبر، ولا ممرات أجول بينها لأوزع بريد صوتي بين الطالبات. مع أول جملة بالكاد أنطقها تعالت الأصوات بشكل مضاعف: "أستاذة ما نسمع!"

هذه المدرسة ناقصة، كيف لا توفر "مايكات" داخل الفصول الدراسية! 
حسنا. لن ألتفت إلى الحرج الذي أحسه بوجود باقي المعلمات وقد اكتشفن للتو عطب صوتي. سأعيد ما قلته، فدخلت في نوبة السعال اللعينة. 

تداركت إحدى المعلمات الموقف وصعدت إلى الخشبة بجواري، وقالت: "أستاذة منى مريضة اليوم نخليها ترتاح يا بنات وسأكمل معها الفقرة".

نزلت وفي عيون بنات فصلي جملة معلقة تكاد تنطق: "أستاذة منى صوتها ضعيف ما مريضة".

الأربعاء، 23 أكتوبر 2019

أمي .. مسألة صعبة

أمي .. مسألة صعبة

منى بنت حبراس السليمية

علاقة وحيدة محكومة بالندم كيفما كانت حيثياتها؛ سأندم بعدها على كل تفصيلة لم تكن كما يجب. على كل تقصير غير مقصود. على كل اتصال لم أرد عليه. على حب كان يمكن أن أمنحه بطريقة أفضل. هذه العلاقة ستميتني دائما، ستجعلني بعدها ناقصة إلى الأبد.

تلك هي علاقتي بأمي. مهما فعلت لأتجنب الندم اللاحق لن أستطيع. نحن محكومون بشيء اسمه المستحيل عندما يتعلق الأمر بأمهاتنا، وكل محاولاتنا للتخفيف من قدسية الأم الضاغطة على وجداننا لن نستطيع.

ثمة شيء لا يجعلني أنظر لأبي بالطريقة نفسها. هناك شيء زائد تجاه أمي، يجعلني مذنبة على الدوام، مذنبة حتى لو لم أقترف غير مجيئي إلى الحياة وأنا أدرك أنه بلا قرار مني ولا حول.

أمام أمي لست حرة أبدا. وحتى أنتزع شعور التحرر من هذا الامتنان الأبدي سأحتاج إلى طاقة هائلة أقوى بها على المحو والانسلاخ والتشظي. لا شيء يستطيع جعلي متجردة في نظرتي لأمي ما دام كل شيء يجعلها إلها، ويوجعني أن أكفر به.

أحاول بشكل يائس ترقيع حاضر  يجنبني الندم غدا، ولكن أمي - رغما عنها - لا تجعل ذلك ممكنا. كيف سأعوض طلبها الذهاب إلى السوق ولم أذهب؟ أو رغبتها في استيقاظي باكرا لنفطر معا ولم أستيقظ؟ أو اتصالاتها التي لم أستطع الرد عليها؟ أو انشغالي بهاتفي بينما تجلس بجواري؟ أو أن أقول لها أحبك ولم أفعل؟ أو أن أدس في يدها مصروفا ولم أدس؟ أو أن أشتري لها راشن البيت ولم أشترِ؟

ما أطول القائمة التي لن تجعل غدي أفضل! ستجعلني أمي أندم على كل شيء صائبا كان أو خاطئا. الأمهات لا يربيننا وهن على قيد الحياة، إنهن يبدأن في تربيتنا بعد رحيلهن! وما أكثر ما ستربيني أمي! وما أقسى التربية التي تبدأ بغياب أحد أطرافها.

أين المفر يا أمي؟ لا مهرب منك إلا إليك، وليتني آمن وأصل فلا أندم بعدك أبدا. ستغفرين كل هذا، أعرف، ولكن مغفرتك إثبات إدانة بأني مذنبة أبدا، ولا أملك وسيلة لأكون غير ذلك.

حكايتي مع المعنى

حكايتي مع المعنى

مهرجان رحلة المعنى: مكتبة تكوين/ الكويت (7  14 مارس 2019)

منى بنت حبراس السليمية

قبل شهرين وقعتُ بالصدفة على قصة قصيرة غير منشورة للأديب المغربي أحمد بوزفور بعنوان (أحمر كالدم أبيض كالحليب). شدّني فيها أنها تقدم رؤية جديدة للعلاقة بين المعنى والخيال، وتفرّق بين النص وتأويلِه. ورد في جزئها الأول: 
"كنا على الشاطئ، بالمايوهات. رجل غريب يلبس لباسا كاملا (بذلة وقبعة وحذاء)، ويحمل مظلة، جلس إلى جانبنا. وأخذ ينظر طويلا إلى فيلا بيضاء تبدو على الشاطئ من بعيد، ثم نظر إلينا وقال:
تصوروا أن في تلك الفيلا طفلةً صغيرةً في السابعة من عمرها، تلبس تنورة حمراء وقميصا أخضر، وتلعب بالعرائس. تتخيلها بناتا صغيراتٍ يلعبن بالدمى، وتتخيل لها تلك الدمى. إحدى الدمى تلبس تنورة زرقاء وقميصا أحمر، وتضع في شعرها شريطا أبيض من حرير، وتقفز على الحبل. تصوروا.. سقطت الطفلة ذات التنورة الزرقاء، وجُرحت ركبتاها. تضعها ماماها الدمية على حجرها وتبحث بيدها عن زجاجة الدواء الأحمر. تمد لها الطفلة ذات التنورة الحمراء الزجاجة التي أمدها لها أنا، فأنا أيضا هناك. وأنا أب الطفلة.
وسكت، فانفجرنا فجأة في ضحك جماعي صاخب.
قال له أحدنا: هل فقدت بنتا لك في السابعة من عمرها يا سيدي؟
ما أهمية ذلك؟ المهم أن تتصوروا. أنا رجل عازب لا زوجة لي ولا أولاد.
إذن فقد قتلتَ بنتا في السابعة من عمرها.
نظر الرجل إلينا في دهشة، ونهض وهو يقول: أنا أتصور العالم، وأنتم تتصورون المعنى. ما أهمية المعنى؟ المهم هو العالم"[1]
يفاجئنا هذا النص الغريب بأنه يقيم حاجزا بين الخيال والمعنى، ويخبرنا أن الخيال أهمُ من تفسيره أو تأويله أو حتى محاولة البحث عن معناه، مهما بدا هذا الخيال غيرَ منطقي أو غيرَ معقول. ولا يفوتنا أن ننتبه إلى الفرقِ الذي يقدمه بوزفور بين صانع الخيال وصانع المعنى؛ فهما لا يجتمعان في اللحظة نفسها، فإما أن تصنع الخيال وإما أن تصنع المعنى. يتوقف الشاب - الذي فسر للرجل الغريب تصوراتِه - عن إنتاج المعنى بمجرد أن أصبح هو بدوره صانعا للخيال. يتوقف المعنى في اللحظة التي يعمل فيها الخيال. وأفسر هذا بقول عبد الرحيم جيران: "لا يكون الناقد ناقدا عندما يبدع، لأن الإبداع تجسيمٌ للمجرّد، والنقدَ تجريدٌ للمجسّم". ولكن ذلك لا يمنعنا من الانتباه إلى التراتبية التي يصنف بها بوزفور الخيال والمعنى بقوله "ما أهمية المعنى؟ المهم هو العالم" المُتصوَّر أو المتخيَّل. فهل يضع بوزفور المعنى أدنى مكانا من الخيال؟ وينزل بالنقد مرتبة أخفض من الإبداع؟ أليس الخيال معنى؟ وهل يمكن أن يكون الخيال بلا معنى؟ 
ينفي سعيد بنكراد ومثله علي حرب وجودَ اللا معنى، لأنه يعبر عن (معنى) ما وإن أنكره أصحابُه[2]. ولكن الفصل الذي يحاول أن يقيمه بوزفور بين الخيال والمعنى ليس فصلا ضديا؛ لأن للخيال معناه الداخلي الخاص الذي لا يرتبط بواقع المتخيِّل وحده وإن كان متصلا به؛ كما "لا يمكن التعاملُ مع النص باعتباره كيانا مكتفيا بذاته ومنفصلا عن قصد صاحبه، وعن قصد قارئه. وكذلك اعتبارُ القراءةِ إعادةَ بناءٍ لقصدية أو قصديات النص، وليست التعرفَ على معنى جاهز مودع بشكل نهائي فيه"[3] كما يقول سعيد بنكراد. وبهذا يمكن تأويل قصة بوزفور باعتبارها رفضا للمعنى الذي يفد إلى النص من خارجه لا من داخله.
يُعلمنا النقد الأدبي بأن المعنى يُنتجه الكاتب، ويَصنعه القارئ الفطن، الذي يمارس إعادة خلق معاني النصوص، بتوليد قراءات جديدة؛ وتلك هي وظيفة النقد: البحث عن المعنى مهما كانت مناهجه وأدواته[4]
ولكن أليس في قصة بوزفور نبذا للتأويل مهما حاولتُ تخريجه بما لا يزعج نرجسيتي النقدية؟ ألا تذكركم القصةُ بالعداء القديم الجديد بين الكاتب والناقد؟ نفهم جميعُنا أن الاختلاف بينهما ليس اختلافا حول معنى النص، وليس لأن أحدهما يعيد خلق معانٍ لا يودها منتجُ النص. وإنما اختلافُهما بسبب [غياب المعنى] الذي يزعم الناقد أنه يقدمه، في حين أنه يقدم خطابا نقديا معجِما يصعب فكُشفرته الملغمة. ولكن هل غياب المعنى من شأن الخطاب النقدي وحده؟ أليس في بعض المسمى أدبا [غيابٌ للمعنى] أيضا؟

في البدء كانت السلطة على المعنى:
باكرا جدا في صفوفنا الدنيا راحت المعلمة تشطر السبورة بطبشورتها إلى عمودين. وضعت على رأس العمود الأول كلمة (المفردة)، وعلى رأس العمود الثاني كلمة (معناها). ثم راحت تملأ العمود الأول بكلمات اعتقدتْ أنها جديدةٌ على تلميذات في أعمارنا. كان تحديا جديدا وعلينا معايشته في حصص القراءة مذ ذاك وصاعدا؛ أن نكون مطالبين بملء العمود الثاني بكلمات أخرى قالت المعلمة إنها تشرح تلك المكتوبةَ في العمود الأول وتوضحها.
هكذا، اقترن المعنى باكرا بالبحثأيقنت أن المهمة لن تكون سهلة، وأنها أصعبُ من مهمة المعلمةالتي بدا لي أن أقصى ما تفعله هو رص كلمات العمود الأول بنقلها من الكتاب المدرسي وحسب. بينما علينا نحن التلميذات أن نفتش خارجه حتى نملأ العمود الثاني اللعينمع الوقت أصبح البحث عن المعاني لعبتي التي لم أود كسرها باكرا بداعي الملل.
لوقت طويل اعتقدت أن المعنى كلمةٌ مختبئةٌ في مكان ما، في قاموس أو معجم أو قاع بحر أو قمة جبل أو قلب صحراء. فأكبرت المعاجم والقواميسوالبحار والجبال والصحاري، ومكتبةَ أبي. كانت مكتبة أبي أكبر مني عمرا، وحوت معاجم وقواميس بدءا من المنجد مرورا بلسان العرب والقاموس المحيط ومعجم كتاب العين وانتهاء بتاج العروس. ولكن أبي لم يكن يتيح لنا نحن أبناءه الصغار - أن نستخدم غير (رائد الطلاب). كتاب صغير في حجم ورقه، ولكنه ضخم في عديدها، وقد تهرأ مع الوقت لفرط ما تناقلته أيادينا. كان رائد الطلاب هو سيد المعنى في عمري ذاك. الساحر الذي يمنحني الجواب لكل سؤال. آخذه إلى المدرسة خلسة، وأخبئه في درج طاولتي، وأسترق النظر إلى ما في بطنه كلما وضعت المعلمة كلمة في عمودها الأول.
بمرور السنوات اكتشفت أن (رائد الطلاب) لم يعد وحده كافيا، وأن علي أن أنتقل إلى مستوى أعلى، ولكن كسلي المزمن، والمللَ المتعجل لم يتركافي نفسي رغبة لفتح قواميسَ ومعاجمَ أخرى؛فلجأت لحيلة سهلة: عمدت إلى دفاتر أختي التي تكبرني بعام. أنقل من دفترها الدروسَ التي سبقتني إليها في العام الفائت وأستل منها معاني الكلمات وأشياءَ أخر. في لحظة افتضاح، سألتني المعلمة من أي معجم عثرت على المعنى؟ لم أستطع أن أجمع بينمثلبة الغش وجريمة الكذب في آن معا. اعترفت لها، ولكنها لم توبخني كما توقعت. فهمتُ لحظتها أنها لا تحب البحث في القواميس أيضا. بعد سنوات أدهشتني إجابة الشاعر العماني عبدالله بن علي الخليلي[5] عندما سئل عن الكتب التي يحب قراءتها في السفرقال: "أقرأ لسان العرب. أصطحب معي أجزاء منه، وأجد اللذة نفسها التي أجدها في قراءة الأدب!" قبل أن يضيف خاتما: "وُضعتْ المعاجم كي تُقرأ أيضا".
ولكني كنت بحاجة إلى وسائل أخرى للعثور على المعاني، غير تلك الجاهزة، والموجودة بوفرة فيالقواميس والمعاجم، فلابد أن المعاني تسكن أماكن أخرىجربت الاعتماد على نفسي مرة عندما سألتْالمعلمة عن الفرق بين المِقَص والمَقَص. وجدتْ الأولى تعريفها من إحدى الطالبات، وبقيت الثانية معلقة في لسان المعلمة لا تجد من يمنحها معناها. أذكر أني قفزت فجأة من مقعدي وقلت: (مكانُ القص)باسطة يدي اليسرى وأخط بسبابة يدي اليمنى عليها كمن يحدد مكانا على خريطةهكذا توقعت أن الصدفة يمكن أن تصدقَ دائما، فقط لو أنها ليست صدفة!
ما هو المعنى أصلا حتى تحتكره المعاجم؟ لماذا لا يكون المَقص منطقةً حدوديةً تفصل بين بلدين، ولم لا يكون المِقص محتلا يشطر ضفة عن قطاع؟ وهكذا رحت أضع لكل كلمة معناها الذي لا تقوله المعاجم، ولن تقرّه المعلمة أبداكان علي إذن أن أتجاوز سلطةَالمعجم، وسلطةَ المعلمة معا، ورحت أكتب بعناد معاني تخالف معاني المعلمة، وجاءت عبارة الجاحظلتبارك مشروعي: "المعاني مطروحة على قارعة الطريق". فإذن هي ليست في المعاجم وحسب؛ إنها في الطريق، والشارع، والمزرعة، ودكان موهن المقابل لبيتنا، وفي كل مكان. حتى تملكني شعور بأن المعاني أكثر الأشياء وفرة في الوجود، أكثر من الكلمات التي يمكن أن تعبّر عنها، وكل ما عليّ فعله هو العثور عليها بالطريقة نفسها التي كنا نفتشفيها صغارا عن القطع المعدنية في الرمل. تغيرت طريقة اللعب، وانتقلت من المعاجم إلى الحياة. ولكن ماذا أفعل بالمعاني التي أعثر عليها؟
اقتنيت دفترا (ما زلت أتذكر لونه الأحمر)، ورحت أخط فيه أفكاري عن معاني الصداقة، والمدرسة، والوطن، والمعلمة التي لابد أنها تعرف كلَّ شيء، حتى عندما رحنا ندرس معها قصيدة السياب: 
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر          أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
قالت المعلمةُ إن السياب يتغزل بمحبوبته، فلم نناقشها، حتى اكتشفتُ متأخرة أن لا غزل في قصيدة السياب، وإنما خوف يسكن كلماته وحسب[6]أي غزل في غابة ساعة السحر، أو في شرفتين ينأى عنهما القمر. خائف السياب فظنوهمتغزلا. أفهم الآن أن لبعض الكلمات سلطةً على غيرها إذ تحرف السياقَ العام لصالحها. وتلك كانت سلطة كلمة (عيناك)، بطغيانها على حقيقة الغابة الموحشة، وساعةِ السحر المرعبة، والقمرِ المتنائي تاركا الشرفة مظلمة. أتساءل الآن: هل يمكن ألا تكون (عيناك) غزلا كلما وردت في نص شعري؟ حاول السياب أن يقول شيئا غير مألوف، ولكن سلطة العينين جعلته رهين الفهم المألوف. لم تكن المشكلة هنا سلطةَ سياق، وإنما سلطةَ مفردة.
ورغم ذلك كان الغزل صحيحا وفقا لرؤية المعلمة، والخوف صحيح كذلك وفقا لرؤية أخرى. وحده الأدب يفسح مساحة للتأويل شاسعة تتسع لي وللمعلمة معا، قبل أن تدخل بيننا سلطة أخرى، هي سلطة الدرجات: في دروس النقد الأدبي تخيرنا المعلمة بين تعبير الكاتب في الدرس، وتعبير آخر يتفق معه في المعنى ويختلف عنه في الصياغة. تقول: "في الامتحان: حددن الأفضلية دائما لتعبير الدرس، حتى لا تخسرن الدرجات. أما سؤال التعليل فاكتبن: لأنه الأقوى تأثيرا في المعنى!". مجددا يُقيّد الأدب في مدارسنا  وتُحاكم الذائقة، ويحاصر المعنى في اتجاه واحد باسم الدرجات
سنكبر ونكتشف أن المعلمةَ كانت صورةً مصغرةًعن السلطة بمختلف أشكالها اجتماعية وسياسية وثقافية ودينية، وتتغير الدرجات لتصبح: العيب والحرام والجنة والنار والرقيب .. والمقص!

حرية المعنى:
أيقنت في الجامعة بأن الأدب حقلُ المعاني المتعددة، وأن النقد الأدبي هو أجمل أشكال التعبير عن تعدد المعنى. نظل نبحث عنه في ثنايا النص حتى نجده، ولا تعادل سعادةُ العثور عليه أيةَسعادة أخرى. أليس النقد بعد كل شيء: اكتشاف؟ وما الاكتشاف في حقيقته سوى العثورِ على معنى ما، سواء أكان اكتشافا في النص أو في المجرة. وجدت نفسي في هذه المنطقة التي أسميها معملالا يختلف في شيء عن معامل الكيمياء، حيث تخضع النصوص للكشف والفحص والمساءلة بغية الوصول إلى معانيها الكامنة، دون أن تكون لي علاقةٌ تلزمني بما استقر في بطن الشاعر؛ فللشاعر بطنه وما حوى، ولي رؤيتي التي لا تلزمه. 
هكذا اقترن المعنى بالحريةالحرية التي تمنحك الحق في أن توجد معناك الخاص بك للأشياء. معنى لا يشترط تشابهه مع معاني الآخرين، ويضبطها جميعا أنها مهما تعددت لا يمكن أن تكون غير نهائية وإلا أصبحت ضربا من الفوضى كما يقول ناقد معروف.
وإذا كان النقد لا يزدهر حيث لا تكون الحرية، فإن المرء لن يكون ناقدا ما لم يكن حرا. بيد أن الحرية النقدية لا تعيش منفصلة عن الحرية في سياقاتها السياسية، والثقافية، والاجتماعية، والدينية، إلى ما لا نهاية من سلسلة الحريات المنقوصة في بيئاتنا. فهل يمكننا - والحال هذه - أن نستمر من دون حرية/ من دون معنى؟ أود أن أكون رومانسية وأنجرَّ وراء رغبتي في قول (لا)، ولكن الواقع يقول إننا مازلنا نعيش رغم ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] بعثها لي الناقد المغربي عبداللطيف محفوظ، وناقشناها في إحدى حلقات برنامج (وقال القارئ) الذي أعده وأقدمه في إذاعة سلطنة عمان. شارك في مناقشة هذه القصة إلى جوار عبداللطيف محفوظ القاص العماني مازن حبيب.
[2] راجع:
• البحث عن المعنى، دار الحوار، دمشق، 2017، ص7
• علي حرب: لعبة المعنى، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1991، ص267
[3] البحث عن المعنى، مرجع سابق، ص11
[4] يقول سعيد بنكراد: "السيميائيات بحث عن المعنى"، انظر : البحث عن المعنى، مرجع سابق، ص7
[5] توفي في الثلاثين من يوليو من عام 2000
[6] ألمح إلى هذا المعنى الأستاذ الدكتور أحمد الطريسي في إحدى محاضرات النقد الحديث في مرحلة الماجستير بجامعة السلطان قابوس في عام 2008.

7