الاثنين، 28 سبتمبر 2015

قلم أحمر

قلم أحمر

منى بنت حبراس السليمية

      عندما دخلت المدرسة في الصف الأول الابتدائي، علمت أن الكتابة بالقلم الأحمر مما ليس مسموحا لنا به نحن التلميذات، وأن هذا اللون من شأن المعلمة وحدها، تستخدمه في التصحيح ووضع الملحوظات ورصد العلامات. لم يثر القلم الأحمر فيّ فضولا أو رغبة في استخدام الممنوع كما جرت العادة، بل سبّب نفورا حادا عندما رأيت كعكات زميلتي الحمراء على شهادتها في نهاية العام!

      تجاوزت سنوات دراستي وأنا أتحاشى شراء اللون الأحمر بين أقلامي، وبذلت جهدا بالغا كي تكون أوراقي القادمة من تصحيح المعلمة بأقل قدر منه. وعندما أصبحتُ معلمة من بعد، لم يستطع ترف اللون الأحمر - الذي أصبح أهم ما يجب أن تقتنيه المعلمة التي صرتُها - أن يغيّر من نظرتي النافرة من القلم الأحمر، بل كرهت عملية التصحيح برمتها، ولم يجدِ غير استبداله بلون آخر، فعمدت إلى تصحيح دفاتر الطالبات بلون أحبه. لم يكن الأزرق ولا الأسود أو الأخضر، وإنما اخترت اللون البنفسجي!

      ثم حدث أن سبّب لي اللون الأحمر أزمة نفسية لم أستطع نسيانها، عندما رأيت قارئا يضع خطوطه وملاحظاته على سطور كتابي "الطبيعة في الرواية العمانية" بالقلم الأحمر المائي، حتى صارت كل صفحة تشف الملاحظات التي كتبها في الصفحة التي تحتها بسبب كثافة المداد. كان ذلك في "المصنعة" عندما عقدت الشبكة الثقافية هناك أمسية ضمن فعاليتها "أريج القراطيس" لمناقشة كتاب الطبيعة. فاجأني اللون الأحمر بين سطور الكتاب عندما قدمه لي صاحب النسخة للتوقيع على الغلاف!

     وَضعُ الخطوط والملاحظات بأي قلم كان على كتاب - أي كتاب - كان شيئا غير مفكر فيه، وغير وارد بتاتا بالنسبة لي، فلست ممن ترتبط القراءة أو المذاكرة عندهم بخطوط يضعونها تحت السطور أو التدوين على الهوامش، وقد حرصت على إبعاد حتى القلم الرصاص عن أي كتاب أقرؤه، بل أحارب كل من يخطط على كتاب أعيره إياه. ولكني في حركة ممعنة في الألم، أمسكت القلم الأحمر دون سواه، ورحت أخط تحت كلمات بعينها مع كتابين لا ثالث لهما: مرة عندما صدر ديوان أبي يرحمه الله "فيض الإحساس"، ومرة بعدما صدرت مجموعة هدى حمد القصصية "الإشارة برتقالية الآن"، ولم أفعلها في غيرهما من قبل أو من بعد.

    فعلتها في "فيض الإحساس" تعبيرا عن ألمي لوجود بعض الأخطاء المطبعية التي وجدت طريقها إلى الكتاب، بعدما أودعتُ تعديلاتها لدى محرر دار النشر في نسخة ورقية قبل أن تأخذ طريقها إلى المطبعة أخيرا، ولكن الأخطاء نالت خلودها في الكتاب بعد صدوره، وبحركة غير مفهومة تناولت القلم الأحمر ورحت أخط تحت الأخطاء أينما وُجدت في نسختي من الديوان.

    المرة الثانية كانت مع مجموعة هدى حمد، لأنني كنتُ من تكفل بتدقيقها لغويا، ولست أدري حتى الساعة كيف تسللت الأخطاء اللغوية والإملائية إلى المجموعة، رغم مراجعتي لها ووضع الملاحظات على نسخة ورقية (أيضا) رافقتني خلال مهمة عمل إلى مصر والسودان في نوفمبر من عام 2012م.

     في الحالتين لم أجد تفسيرا لاستخدامي الأحمر في تحديد الأخطاء غير تلك الرغبة الممعنة في جلد الذات على أخطاء ما كان لها أن تمر. مرّت ولا أنسب من استيقاظ قلم المعلمة الذي رفضتُه وتحاشيته طوال سنوات، ليقوّم ما أصبح تقويمه أخيرا خارج الإمكان!

السبت، 19 سبتمبر 2015

الصورة غير الكاملة

الصورة غير الكاملة

منى بنت حبراس السليمية

لم يكن حبراس شاعرا حكّاءً، ولم يكن من النوع الذي يسرد مواقف حياته كثيرا؛ لذلك - وكما أحسب - بقي كثير من فصول حياته غائبا، ولم نعرف عنه أكثر مما ظهر، ولكنه قد يسرد أحيانا في لحظاته الاستثنائية النادرة حكاية عايشها في طفولته، أو سيرة مكان استوطن ذاكرته بعناد، أو موقفا من شخص مرّ/ ولم يمر.

     وعندما عكف على كتابة سيرته الذاتية، كتبها مليئة بحياة تلك الأماكن وأولئك الشخوص، متحدثا عن حكاياتهم وما عُرفوا به واشتُهر عنهم، في حين بقي هو ثانويا فيها، يطل نادرا بين سطور يفترض أنها سيرته الشخصية، لذلك وجدتني في مرحلة التحضير لطباعة ديوانه أحذف أجزاء كبيرة مما ليس مرتبطا بذاته بنحو مباشر، وعمدت عوضا عن ذلك إلى كتابة سيرة غيرية له أسميتها (أبي كما عرفته).

     بيد أنه حدث أن أودع في بعض قصائده شيئا من دواخله الخاصة، فلحبراس قصيدة غزلية واحدة فقط في ديوانه الذي حوى ما يربو على خمسين قصيدة، حملت عنوان "على ضفاف الغدير"، وكان قد نشرها في العدد الأخير من مجلة "الغدير" قبل أن يتوقف صدورها تماما. وتلك بالنسبة لي من أجمل قصائده التي تكشف جانبا مهما من عاطفته ووجدانه، فهي أصدق قصائده التي ترجمت عواطفه لمرة واحدة ووحيدة، فضلا عن كونها واحدة من أطول قصائد الديوان.

     وبسبب صفته التي تبعده عن فعل الحكي، بقي الجزء المتصل بعلاقاته بغيره من الشعراء مغيبا كذلك إلا ما كان منه ظاهرا وجليا، لاسيما علينا نحن البنات اللائي لا نستطيع حضور مجالس الشعر في سمائل. وعندما طلب إليّ الشاعر سعيد الصقلاوي كتابة شهادة عن علاقة أبي بأمير البيان الشيخ عبدالله بن علي الخليلي ليضمنها كتابا احتفائيا بمناسبة تكريم مؤسسة البابطين الكويتية للشيخ الخليلي، لم أدرِ ما أكتب، ولم أعرف كيف أصوغ علاقة يغلفها نقيضان: العمق من جهة، ونقص التفاصيل من جهة أخرى، ولم يكن ممكنا لعلاقة كهذه أن يتجاوزها كتاب عن الشيخ الخليلي، يضع كل من ربطتهم به علاقة من بعيد أو قريب شهادتهم فيه، ولكن اللحظة جادت ببعض مواقف مما شهدتُه غالبا، وأقله مما سمعته من أبي على ندرته الأشد، ولكنه إجمالا كان أقل بكثير من علاقة غزيرة غابت عمن كان بيدها وحدها أن توثق تلك العلاقة. بيد أنها علاقة وجدت إلى بعض القصائد طريقها للتوثيق الجزئي، ترجمها حبراس في عدد منها، وكان أهمها ما كتبه في رثاء الخليلي بعنوان "فقيد الضاد".

      كما كشفت ليلة تدشين ديوان فيض الإحساس في الـ 23 من يوليو 2013م وجها آخر لحبراس، لاسيما عندما كان معلما بمدرسة مازن بن غضوبة بسمائل في السبعينيات، وما كنا لنعرفه لولا أن أدلى به أحد طلابه في شهادة قدمها في تلك الليلة، وهو الشيخ الراحل خلفان بن سلطان البكري، ولولا تلك السانحة التي تيسرت قبل أن يخطف الموت الشيخ البكري بعد تلك الليلة بعام ونصف، لما أمكنت معرفة هذا الجزء من حياة الرجل/ الرجلين معا.

     حسنا: لماذا أكتب هذا الآن؟ ثمة مقولة قرأتها مؤخرا تقول: إن الموت يعيد رسم الذكريات بنحو أوضح، ولعلنا كنا بحاجة لإعادة تشكيل ذكرياتنا التي ما كان لها أن تكتمل لولا الموت الذي يكثف الذكريات المبعثرة ويجعلها أكثر سطوعا، أو لعله ينبهنا إليها من جديد وإن لم تكن قد حدثت بالدقة نفسها، ولكن الخيال على استعداد دوما لتعويض النقص بشكل أو بآخر تحت وطأة الرغبة الملحة في لملمة أجزاء الصورة المبعثرة: كم اتفق، كم اختلف؟! المهم أننا أصبحنا نعرف أكثر!

مزاجية الكتابة

مزاجية الكتابة

منى بنت حبراس السليمية
   
      ما معنى أن تصل إلى اللحظة الأخيرة التي يتحتم عليك أن تسلم فيها مادة عمودك الأسبوعي ولا تجد غير البياض أمامك والتشويش في صفحة ذهنك! تحاول أن تركز تفكيرك في فكرة واحدة فقط تصلح أن تكون مادة مقروءة في عمود سيكون بين يدي القراء بعد ساعات!

       أي ورطة هذه! لم يعد الوقت ممكنا لتعتذر للجريدة عن عمود هذا الأسبوع، وليس في وسعك ارتجال موضوع كيفما اتفق، مستسلما لعداد الكلمات بما يشبه الهذيان، من أجل أن تملأ الفراغ المحدد سلفا في يسار الصفحة الثقافية من جريدة الزمن كل يوم أحد!

     كان مقترحا لهذه التجربة أن تبدأ قبل مدة من الآن، ولكن عدم الثقة في الكتابة ومزاجيتها هي ما دفع لإرجاء خوضها؛ خشية الوقوع في فخ ثرثرة ترضي فراغ الصفحة ولكنها لن ترضي امتلاء القارئ، فلماذا أكتب عمودا أسبوعيا أعرف أن الكتابة لا تصدق فيه مواعيدها كما يريد لها العمود!

     ثمة مواضيع كثيرة كانت تصلح لأن تكون اليوم هنا في هذه المساحة، ولا بأس في أن أسرد بعضها عليكم:
     أولها الذكرى الأولى لوفاة الشاعر أبي سرور التي تصادف غدا الاثنين 21 من سبتمبر، ولكني وجدت أن كل ما كنت أود قوله قد قلته فعلا في مقال قديم كتبته قبل وفاته بثلاث سنوات على الأقل، ومن كتبت عنه حيا لا أحب الكتابة عنه ميتا، لأن الكتابة فعل حياة لا رسالة تأبين.

     الموضوع الآخر المحتمل، إكمال مقال تركته خديجا بعدما أرجأت العمل فيه ريثما أتخلص من لغة الانفعال التي غلبت عليه لحظة كتابته السابقة، ولكن لأن النص (عندي) لا يولد مرتين، قررت وأده إلى الأبد غير آسفة عليه.

     موضوع ثالث: قراءات أخيرة تنتظم موضوعا متقاربا في كتابي أمبرتو إيكو "ست نزهات في غابة السرد" وأورهان باموق "الروائي الساذج والحساس" وقريبا منهما مقدمة سعيد بنكراد للكتاب الأول منهما، وما يصنعه هذا الرجل في مقدمات ترجماته التي تستحق لوحدها وقفة خاصة. وغيرها مواضيع لا حصر لها، منها بأهمية ما وقعتُ عليه مؤخرا من كتابات أبي مما لم يتسن لي أن أدرجه في ديوانه الصادر قبل عامين، وليس انتهاء ببعض الكتب التي يستحق بعضها مساحة كهذه، بل أكثر.

    لا نحتاج غالبا للأفكار وحدها لنكتب، ولكننا نحتاج أكثر للحظة الصدق مع الكتابة، وبدون تلك اللحظة العصية التي لا تأتي وقت نشاء، تظل الكتابة سيدة نفسها، ولأجل لحظتها الصادقة تلك عرفنا من الكتّاب من اتخذ وسائله لمراودتها واستدراجها إلى حظيرة الفعل الكتابي، حتى استحقت من بعضهم أن يفرد لها كتابا كاملا، كما حدث مع جبرا إبراهيم جبرا في كتابه "معايشة النمرة"، وما النمرة التي يعنيها إلا الكتابة بتأبّيها وتمنّعها، التي تحتاج من الكاتب طول مسايسة وصبرا على المداهنة، ووجدنا من يستجلبها إليه بالمشي الطويل، ومنهم من لا تأتيه إلا إذا عمد إلى غمر جسده بالماء مسرحا خياله خارج حدود المكان والزمان، عله يقطف صورة شاردة، أو يرصد جملة نادرة.

    بينما - هنا - ليست المزاجية وحدها المستحكمة في تمنّع فعل الكتابة، ولكن العمود نفسه مما يُشعر بضرورة استعجال الوقت، وسرعة المعالجة واختزالها واختصارها، وهو ما لا يستقيم مع إطالة النظر وقصدية الحفر. لذلك: هل أعتذر لقرائي اليوم بأني لم أكن عند موعد انتظارهم، واخترت أن أتحدث إليهم كما لو كنت أتحدث مع نفسي في ورطتها مع مزاجية الكتابة وعدم انضباط ساعتها الأسبوعية؟

20 من سبتمبر 2015

الجمعة، 18 سبتمبر 2015

صدق

صدق

منى بنت حبراس السليمية

سألتْه: كم مرة كذبت عليّ؟
قال: كثيرا، ولكني أكون صادقا حتى وأنا أكذب.

السبت، 12 سبتمبر 2015

يعيش الصوت ...

يعيش الصوت ...

منى بنت حبراس السليمية

جريدة الزمن - 13 من سبتمبر 2015

     أُلقم المسجلةَ الشريطَ الكنز، فينبثق الصوت: "يسرنا أن نسجل في هذا الشريط بعض القصائد المختارة، التي قرئت منذ أكثر من ثلاثين عاما، وبعض قائلي هذه القصائد قد توفوا، وبعض قارئيها قد توفوا هم كذلك، وإذا كان قد قيل:
يعيشُ الخطُ في القرطاسِ دهرا  
وكاتبـُـه رميـــمٌ في التـــرابِ
فإننا نقول:
يعيشُ الصوتُ في التسجيلِ دهرا  
وصاحبـُه رميـــمٌ في التــــرابِ
     وأغلب المقرئين لهذه القصائد بأصوات سمائلية. وللعلم فقد تمت إعادة تسجيل هذه القصائد في هذا الشريط في شهر جمادى الأولى من عام 1420 للهجرة، الموافق من شهر أغسطس من عام 1999 ميلادية"

     هكذا (بتصرف) يقدّم الشيخُ الراحل أبو معاذ مرشد بن محمد بن راشد بن عزيّز الخصيبي تسجيلا سمعيا جمع قراءاتٍ شعريةً لعدد من شعراء سمائل، ألقوها بأداء لحني مميز منذ ما يزيد عن 46 عاما، وقد رحلوا جميعهم بمن فيهم صاحب التقديم نفسه، الذي وافته المنيّة في نوفمبر من عام 2012م.

    وليس هذا الشريط السمعي وحيدا مما احتفظ بأصوات رجالات الشعر في سمائل منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي؛ فما يزال عدد من الأشخاص في سمائل - وغيرها - يحتفظون بتسجيلاتٍ غيرِه سجُلت في فترات زمنية مختلفة، وهي ليست لدى أحد غيرهم، وإذا كان هذا الشريط قد تكفّل الصديق والشاعر "هلال الشيادي" بنسخه مني وتوثيقه في هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، فإن غيره وسائط أخرى لا تزال فرادى موزعة هنا وهناك حيث ندري ولا ندري.

    وكلما ألقمتُ المسجلة هذا الشريط السمعي، انسابت الأصوات الشجية تنحت في الروح حنينا لزمن مضى، كانت فيه مثل هذه القراءات اللحنية للشعر حاضرةً في المجالس الأدبية بسمائل، ويندر أن يتلى الشعر بدونها، وقد ميزت هذه الطريقة شعراء تلك المرحلة، فأكسبت كل واحد منهم طريقته المميزة في التلاوة تكاد تخصه وحده، فيسهل أن يتعرف المستمع على صاحب الصوت قبل أن يُذكر اسمه.

    فنسمع أمير البيان الشيخ عبدالله بن علي الخليلي يترنم بقصيدته "مسرحية الهوى"، فيوصل روحَ صوته بروحِ قوافيه إلى الأسماع نبضا آخر، وينشد الشيخ محمد بن راشد بن عزيّز الخصيبي - صاحب كتاب طبقات الشعراء المسمى "شقائق النعمان" وكتاب "الزمرد الفائق في الأدب الرائق" - ينشد قصيدة وجهها مهنئا أبا الفضل شاعر الشرق/ أحمد بن عبدالله الحارثي - والملقب كذلك بشاعر الخيل - ويعقبها بقصيدة شاكرة من الأخير له على قصيدته الأولى.

    وفي موضع آخر من الشريط يصدح صنّاجة سمائل الشيخ علي بن منصور الشامسي متغنيا بقصائد لأبي الصوفي الشاعر سعيد بن مسلم المجيزي بصوت أخّاذ مطرب، ومثله حبراس يترنم بقصيدة للشيخ عبدالله بن علي الخليلي، وبقصيدة "في وصف سمائل" للشيخ محمد بن راشد الخصيبي، وقصيدة للشيخ علي بن جبر بن سعود الجبري، وقصيدة قرضها معلم الأجيال الشيخ موسى بن عيسى البكري - صاحب "السموط الذهبية" و"رائد الأدب" - لكتاب الشيخ الجبري المسمى بـ "الهمم العلية". فضلا عن قصائد أخرى قرأها أصحابُها أو مقرؤون آخرون منهم الشيخ مرشد الخصيبي وحمد بن خلفان بن حمد الرواحي.

    يُدهش السامع لاهتمام هؤلاء بتسجيل قراءاتهم الشعرية في وسائط سمعية في ذلك الوقت المبكر نسبيا من مطلع السبعينيات، في وقت قلما وجدت هذه الآلة طريقها إلى كثير من البيوت في سمائل، فلهم يعود الفضل في حفظ هذا الكنز السمعي الذي قل لونه وتضاءل في ساحات الشعر العماني، ولكنه كنز بقي محدود التداول، ومحصور الملكية في أيدي قلة من مهتمين وورثة، ولم يصل جلّه بعد إلى الحفظ الرسمي الذي يجنب تلك الوسائط التلف والضياع.

مشهد من الذاكرة:
   يحمل جهاز التسجيل الكبير ذاهبا به إلى مجلسه في أقصى زاوية في الشمال الشرقي من البيت، بعد أن يوجه تحذيرا لأهل بيته وأطفاله الصغار من الاقتراب من معتزَله ذاك، ولكننا سهوا وجهلا في غمرة لعب "الغمّيضة" و"المداسّوه" نقتحم عزلته التي يسبقها صوته العالي منشدا قصائد قرأناها لاحقا في قراطيسه وأخرى غيرها لم نقرأها، ولكن صوته المتسرب يعجز في الوقت الضائع عن صد اندفاعة الجري المنطلقة كرصاصة، فيغضب ويهيج. وبصبر غريب يضغط زر إعادة التسجيل ويشرع في تكرار ما قرأه من جديد.

    كانت الأشرطة تتزايد في دُرجِه أسفل طاولة التلفاز، ويكتب على بعضها عناوين القصائد التي تحويها، ولكنه يذهب ببعض تلك الأشرطة حيث مجالس الشعراء فلا تعود، وبعضها الآخر بقي هناك في مكانه حتى غادر، ولأن الموت يجعلنا ننتبه للأشياء بعد فوات الأوان، انتبهنا لصوت أبي المحفوظ في وسائطه المتبقية في الدرج، أما ما خرج منه فقد ضلّ طريق العودة.

الجمعة، 4 سبتمبر 2015

كيف أعيش الآن؟

كيف أعيش الآن؟

منى بنت حبراس السليمية

جريدة الزمن - 6 من سبتمبر 2015

     كان أحمد أمين منهمكا بالقراءة - كعادته التي لا يعرف غيرها - فإذا به يرى نقطة سوداء تشوّش عليه القراءة، فخلع نظارته السميكة. نظفها وأعادها ثانية إلى عينيه، ولكن النقطة كانت ما تزال هناك، فنظف النظارة ثانية وثالثة، بعد الثالثة اكتشف أن النقطة في عينه وليست في النظارة، وإذا به قد أصيب بانفصال الشبكية!! يقول: "ندمت لأني ما عوّدت نفسي قبل العمى على شيء غير القراءة، فكيف أعيش الآن؟!"

   ومثله كان نجيب محفوظ قارئا نهما، حتى أن أكثر ما آلمه حين ضعف بصره هو عدم قدرته على القراءة، فقد كانت القراءة عنده أهم متع الدنيا. لماذا أستحضر هذا الآن؟

     منذ مدة ليست بالقصيرة ورعب فقدان القدرة على القراءة يطاردني كشبح، وكلما تقدمت السنون وتكاثرت نظاراتي واحدة بعد أخرى - بإعلان عجز نظارة سابقة وخلافة أخرى جديدة - أستحضر كل أولئك الذين وجدوا أنفسهم فجأة غير قادرين على مزاولة متعتهم الأثيرة .. القراءة.

      قد تكون هناك متع أخرى في الحياة أهم من القراءة يفقدها من يخسر نظره فجأة، ولكني لن أخسر شيئا أهم من الوقت المتاح الآن لأقرأ مئات الكتب التي لم أقرأها بعد، فما الذي سيعوضني عن كل هذا فيما لو تحقق الرعب فجأة؟

    أعرف أن فألا كهذا سيصيب القارئ بالصدمة، وربما الاستنكار، ولكني - في ظل عدم قدرتي على الاستغناء عن نظارتي التي يتزايد سمكها مرة بعد أخرى - لا أريد أن أطرح على نفسي السؤال ذاته الذي طرحه أحمد أمين على نفسه: "كيف أعيش الآن؟"

     لم أعهد أن أحدا فقد بصره واهتم بسؤال "كيف أكتب؟"، في حين أن الخسارة الكبيرة تتأتى من السؤال: كيف أقرأ؟ كما أنه قلما يسأل أولئك المهووسون بالقراءة أنفسهم: كيف سأستمتع بمباهج الحياة وألوانها؟ لأن القراءة عندهم عالم من الألوان وتركيبةٌ من كل شيء، ومن عرف العيش فيها، سيفقد الحياة برمتها لو حُرِم من متعتها.

     ترى لو أنه أتيح لأحمد أمين أن يعوّد نفسه على شيء آخر غير القراءة قبل أن يصاب بالعمى، فعلى أي شيء كان سيعوّدها؟ هل ثمة ما يعادل متعة القراءة لمن عرفها؟ حاولت - كإجابة عملية عن هذا السؤال - أن ألتفت لمتع أخرى حولي، فدخلت مع عالم الطفولة في جراند مول حيث ركن (هابي لاند) ولعقت البوظة كطفلة مرحة تجيد الالتفات لأشياء بسيطة وجميلة، لأعوّض نفسي شيئا من طفولتها التي تصر على الطفو حينا بعد آخر، ولكن الروح بقيت تهفو إلى مكتبة بوردرز في الجوار!

    منذ بدأ هاجس ضعف البصر يطاردني لدرجة الرعب، وأنا أحاول أن أعيش مع الكتب أكثر الأوقات الممكنة، لأعب من هذا السحر الذي بت أخشى أن يتلاشى فجأة، ولكني فكرت أخيرا أن كتابة الهواجس المرعبة قد يسهم في الشفاء منها، فهأنا أكشف لكم واحدا من أكثر هواجسي رعبا، وسأصدقكم: كلما انطفأت الكهرباء في بيتنا ليلا، فإن أول ما أحرص على التأكد منه هو أنها الكهرباء التي انطفأت وليست عيناي اللتين انطفأتا!

     سيشور عليّ الأشخاص العمليون - والمستعدون دائما لوضع الحلول الجذرية لكل مشكلة - بإجراء عملية ليزر في أقرب مركز عيون وتنتهي المشكلة برمتها ومعها هواجسها، بل قد يعطون ما يقطع بأنه لا حاجة لكتابة مثل هذا الكلام من الأساس، وإذ أقدّر لهم حرصهم، وأغبط تبنيهم نهج الحياة الأقل قدرا من الشكوى وتضخيم المشكلات، فإني دأبت على إعطاء المشاعر التي منشؤها الهواجس فرصة أن تفصح عن ذاتها، لأتأملها وأمحّصها، وأفسح لخيالاتها مساحة من أرض الواقع لأفهم ما كان، وما يمكن أن يكون، لأفهم هذه النفس كيف تعمل مع رغباتها ومخاوفها، فأركلها من بعد في خانة ما من تلك الحلول التقنية التي لا أكثر منها في عالمنا، ولكن هناك من سبق وكتب عن معاناته مع فقد بصره، وتعلمنا منهم أن الحياة لا تستشيرنا أبدا مهما وضعنا الحلول، وأن معاناتهم - المكتوبة - تستحق أن نسجل حيالها مشاعرنا الحقيقة أو المفترضة فيما لو كنا في مواقعهم.

     أنا لا أخاف من الموت، ولكني أخاف من العمى يا أصدقاء، أخاف من الفراغ الذي لا يكفيه شيء آخر ليملأ حفرته المهولة. أعرف أن الحديث عن القراءة والكتب يأخذ عادة طابعا استعراضيا- لاسيما عند القراء الفيسبوكيين - فيصيب بعضهم بالامتعاض، ولكني أكتبه مدفوعة بهاجس الرعب، الذي أود أن أخرجه من منطقة ما في الأعماق المطمورة ليصبح خفيفا كبالونة تطير في الفضاء فلا تعود إلى الأعماق نفسها مجددا، وتأخذ معها كل ما يجعل من رؤية الكتب الكثيرة - غير المقروءة بعد - مزيجا من الخوف والرغبة معا.

ما تبقى من اللون

ما تبقّى من اللون

منى بنت حبراس السليمية

شرفات - 8 من سبتمبر 2015

     أعتذر سلفا من الشاعرة شميسة النعمانية لاضطراري استعارة عنوان مجموعتها الشعرية ليكون عنوانا لمقالي هذا، فلبقية اللون أسئلة حائرة تفرض نفسها كقصيدة لا تكتمل بغير ألوانها الخاصة، ولكن الحياة قصيدة أخرى تسائلنا عن ألوانها المستلبة، فهل سأل أحدنا نفسه مرة عن عدد الألوان التي يشاهدها في اليوم والليلة؟ وهل حاول على سبيل التأمل - أو الرياضة إن شئتم - عدّ الألوان التي تمر عليه في يومه منذ استيقاظه وحتى أوبته إلى فراشه ليلا؟ كم لونا يا ترى يلوّن أبصارنا خلال أربع وعشرين ساعة؟ أو فلأحاول إعادة السؤال بصيغة أخرى: ما أكثر الألوان تكرارا في يومياتنا؟

   أأصفر شمس الصيف المهيمن على كل شيء حولنا في وقت ينحسر فيه اللون الأخضر عن شوارعنا ومدننا، أم أبيض وأسود الرجال والنساء كعالمين متناقضين نادرا ما يشذان عن قانون اللون وإن فعلا فعلى استحياء، أم تُرابي الجبال ورملي الأراضي الفضاء المترامية، أم ألوان المباني التي تحرص ألا ترتكب حماقة لون شاذ عن قاعدة المساواة اللونية خارجيا، وتتفق كقدر في بياضها داخليا؟

     فلنحاول أن نتذكر: أين رأينا الأحمر في محيطنا آخر مرة؟ سنقول في دماء الأبرياء في هذا العالم! هل علينا أن نستحضر أحمر الدم كلما تاقت النفس لأحمر الورد الذي بات شحيحا في حدائقنا (النادرة) وعلى أرصفة شوارعنا؟ ترى أين يمكن أن نرى البنفسجي والأخضر والزهري في بيئتنا؟

      لا أظننا أمام خيارات لونية متنوعة، بل إننا أمام ألوان تعد بالأصابع تتكرر يوميا، لا يكسرها إلا ألوان السيارات في الشوارع، التي سرعان ما تتلاشى هي الأخرى في ضيق زحمة المرور وضجر المسافات الطويلة التي يقطعها بعضنا أوبة وذهابا بين عمله وسكنه، مسافات قلما تحتفل بلون غير لون التراب. فما معنى أن نعيش حياة بلا ألوان كافية للتجدد؟

    ثمة ما يجعلنا حذرين مع الألوان، نتعامل معها وفق قوانين ضمنية لا علاقة لها بنواميس الحياة، ولأسباب غير واضحة تفرض السواد كتقليد أو عرف، وتربطه أحيانا بالدين، أو تفرض نقيضه لأسباب مماثلة، ونحرص في مبانينا على ألوان تخشى مفارقة لون الأرض؛ خشية أن تشذ عن قانون يمنع ألوانا تفسد الذوق العام وإن كانت أكثر بهجة، فهل كانت البهجة يوما مفهوما مناقضا للذوق؟ وإلى متى سيبقى شارع حيوي ومهم
كشارع مسقط السريع - مثلا - خاليا من اللون الأخضر يكسر شيئا من حدة لون الصحراء الصخرية المتشكلة في جبال صارمة صرامة الدهر الذي رسمها بمزاج حاد؟

    من شأن الألوان أن تشيع راحة نفسية، وتخلق بهجة تكسر حدة الشمس وغضب الصيف اللذين يحكمان على المحيط الخارجي بالاصفرار والغبار، ولكننا لا نفعل شيئا إزاءهما غير التمترس بداخل علبة إسمنت مكيفة أو علبة صفيح سيّارة، لنصبح في صيفنا كائنات معلبة تعلن القطيعة مع بيئتها الخارجية.

     ورغم اتصالنا بالأجناس الأخرى ومعايشتهم، لم نستطع التعلم من الهنود (مثلا) قدرتهم على صناعة الفرح، فيكفي أن نطالع لقطة واحدة من أفلام بوليوود لنرى كمّ الألوان التي تحتشد في مشهد دفعة واحدة، فضلا عن أنهم يحتفلون بيوم يسمونه (عيد الألوان)، ينتصرون فيه على منغصات الحياة ومآسيها التي يكابدها الإنسان البسيط بمساحيق من كل الألوان.

      ونحن إذ ندرك تأثير تعدد الألوان عندما نحرص في أعيادنا على اقتناء الملون من الثياب، ونبتعد عن ألوان سبق أن جربناها في عيد سابق، إلا أن علاقتنا بتلك الألوان علاقة شخصية جدا، ونمارس فرحنا بها كشأن خاص لا ينبغي الإعلان عنه، لأننا متى ما خرجنا خارج أسوارنا الشخصية يفرض السواد والبياض سطوتهما كقانون اجتماعي اكتسب مع الوقت مسحة دينية!

     وأحسب أننا – في ظل شح الألوان في يومياتنا – بحاجة إلى الدفاع عما بقي لنا منها، ونستميت في التمسك بحقنا بها قبل اغتيالها بشعارات تسيء للألوان وبهجتها، وتسلب منا حقنا في الفرح بها، فلو أننا فعلنا ذلك هل كان سيأتي من يعلن ملكية ألوان قوس قزح للشواذّ من البشر؟!

     وكما استعرتُ العنوان، سأستعير لمسقط ما قالته شميسة في قصيدة ملونة من ديوانها:

ومسقطُ خارجَ تصنيف لون الرماد
فإن قيل "مسقطُ" طارت فراشات بيضاء ..
حمراء .. خضراء
حتى النجوم اقتفتها لتحطب من لونها الكبرياء
مساءٌ لمسقط يغسلني من طوابير حزني
يحرضني نحو عش السماء ..
ويصنع قهوتنا من فرح
مساءٌ لمسقط يهمز أرواحنا كجواد
لمجدٍ جمح