قلم أحمر
منى بنت حبراس السليمية
عندما دخلت المدرسة في الصف الأول الابتدائي، علمت أن الكتابة بالقلم الأحمر مما ليس مسموحا لنا به نحن التلميذات، وأن هذا اللون من شأن المعلمة وحدها، تستخدمه في التصحيح ووضع الملحوظات ورصد العلامات. لم يثر القلم الأحمر فيّ فضولا أو رغبة في استخدام الممنوع كما جرت العادة، بل سبّب نفورا حادا عندما رأيت كعكات زميلتي الحمراء على شهادتها في نهاية العام!
تجاوزت سنوات دراستي وأنا أتحاشى شراء اللون الأحمر بين أقلامي، وبذلت جهدا بالغا كي تكون أوراقي القادمة من تصحيح المعلمة بأقل قدر منه. وعندما أصبحتُ معلمة من بعد، لم يستطع ترف اللون الأحمر - الذي أصبح أهم ما يجب أن تقتنيه المعلمة التي صرتُها - أن يغيّر من نظرتي النافرة من القلم الأحمر، بل كرهت عملية التصحيح برمتها، ولم يجدِ غير استبداله بلون آخر، فعمدت إلى تصحيح دفاتر الطالبات بلون أحبه. لم يكن الأزرق ولا الأسود أو الأخضر، وإنما اخترت اللون البنفسجي!
ثم حدث أن سبّب لي اللون الأحمر أزمة نفسية لم أستطع نسيانها، عندما رأيت قارئا يضع خطوطه وملاحظاته على سطور كتابي "الطبيعة في الرواية العمانية" بالقلم الأحمر المائي، حتى صارت كل صفحة تشف الملاحظات التي كتبها في الصفحة التي تحتها بسبب كثافة المداد. كان ذلك في "المصنعة" عندما عقدت الشبكة الثقافية هناك أمسية ضمن فعاليتها "أريج القراطيس" لمناقشة كتاب الطبيعة. فاجأني اللون الأحمر بين سطور الكتاب عندما قدمه لي صاحب النسخة للتوقيع على الغلاف!
وَضعُ الخطوط والملاحظات بأي قلم كان على كتاب - أي كتاب - كان شيئا غير مفكر فيه، وغير وارد بتاتا بالنسبة لي، فلست ممن ترتبط القراءة أو المذاكرة عندهم بخطوط يضعونها تحت السطور أو التدوين على الهوامش، وقد حرصت على إبعاد حتى القلم الرصاص عن أي كتاب أقرؤه، بل أحارب كل من يخطط على كتاب أعيره إياه. ولكني في حركة ممعنة في الألم، أمسكت القلم الأحمر دون سواه، ورحت أخط تحت كلمات بعينها مع كتابين لا ثالث لهما: مرة عندما صدر ديوان أبي يرحمه الله "فيض الإحساس"، ومرة بعدما صدرت مجموعة هدى حمد القصصية "الإشارة برتقالية الآن"، ولم أفعلها في غيرهما من قبل أو من بعد.
فعلتها في "فيض الإحساس" تعبيرا عن ألمي لوجود بعض الأخطاء المطبعية التي وجدت طريقها إلى الكتاب، بعدما أودعتُ تعديلاتها لدى محرر دار النشر في نسخة ورقية قبل أن تأخذ طريقها إلى المطبعة أخيرا، ولكن الأخطاء نالت خلودها في الكتاب بعد صدوره، وبحركة غير مفهومة تناولت القلم الأحمر ورحت أخط تحت الأخطاء أينما وُجدت في نسختي من الديوان.
المرة الثانية كانت مع مجموعة هدى حمد، لأنني كنتُ من تكفل بتدقيقها لغويا، ولست أدري حتى الساعة كيف تسللت الأخطاء اللغوية والإملائية إلى المجموعة، رغم مراجعتي لها ووضع الملاحظات على نسخة ورقية (أيضا) رافقتني خلال مهمة عمل إلى مصر والسودان في نوفمبر من عام 2012م.
في الحالتين لم أجد تفسيرا لاستخدامي الأحمر في تحديد الأخطاء غير تلك الرغبة الممعنة في جلد الذات على أخطاء ما كان لها أن تمر. مرّت ولا أنسب من استيقاظ قلم المعلمة الذي رفضتُه وتحاشيته طوال سنوات، ليقوّم ما أصبح تقويمه أخيرا خارج الإمكان!