السبت، 19 سبتمبر 2015

الصورة غير الكاملة

الصورة غير الكاملة

منى بنت حبراس السليمية

لم يكن حبراس شاعرا حكّاءً، ولم يكن من النوع الذي يسرد مواقف حياته كثيرا؛ لذلك - وكما أحسب - بقي كثير من فصول حياته غائبا، ولم نعرف عنه أكثر مما ظهر، ولكنه قد يسرد أحيانا في لحظاته الاستثنائية النادرة حكاية عايشها في طفولته، أو سيرة مكان استوطن ذاكرته بعناد، أو موقفا من شخص مرّ/ ولم يمر.

     وعندما عكف على كتابة سيرته الذاتية، كتبها مليئة بحياة تلك الأماكن وأولئك الشخوص، متحدثا عن حكاياتهم وما عُرفوا به واشتُهر عنهم، في حين بقي هو ثانويا فيها، يطل نادرا بين سطور يفترض أنها سيرته الشخصية، لذلك وجدتني في مرحلة التحضير لطباعة ديوانه أحذف أجزاء كبيرة مما ليس مرتبطا بذاته بنحو مباشر، وعمدت عوضا عن ذلك إلى كتابة سيرة غيرية له أسميتها (أبي كما عرفته).

     بيد أنه حدث أن أودع في بعض قصائده شيئا من دواخله الخاصة، فلحبراس قصيدة غزلية واحدة فقط في ديوانه الذي حوى ما يربو على خمسين قصيدة، حملت عنوان "على ضفاف الغدير"، وكان قد نشرها في العدد الأخير من مجلة "الغدير" قبل أن يتوقف صدورها تماما. وتلك بالنسبة لي من أجمل قصائده التي تكشف جانبا مهما من عاطفته ووجدانه، فهي أصدق قصائده التي ترجمت عواطفه لمرة واحدة ووحيدة، فضلا عن كونها واحدة من أطول قصائد الديوان.

     وبسبب صفته التي تبعده عن فعل الحكي، بقي الجزء المتصل بعلاقاته بغيره من الشعراء مغيبا كذلك إلا ما كان منه ظاهرا وجليا، لاسيما علينا نحن البنات اللائي لا نستطيع حضور مجالس الشعر في سمائل. وعندما طلب إليّ الشاعر سعيد الصقلاوي كتابة شهادة عن علاقة أبي بأمير البيان الشيخ عبدالله بن علي الخليلي ليضمنها كتابا احتفائيا بمناسبة تكريم مؤسسة البابطين الكويتية للشيخ الخليلي، لم أدرِ ما أكتب، ولم أعرف كيف أصوغ علاقة يغلفها نقيضان: العمق من جهة، ونقص التفاصيل من جهة أخرى، ولم يكن ممكنا لعلاقة كهذه أن يتجاوزها كتاب عن الشيخ الخليلي، يضع كل من ربطتهم به علاقة من بعيد أو قريب شهادتهم فيه، ولكن اللحظة جادت ببعض مواقف مما شهدتُه غالبا، وأقله مما سمعته من أبي على ندرته الأشد، ولكنه إجمالا كان أقل بكثير من علاقة غزيرة غابت عمن كان بيدها وحدها أن توثق تلك العلاقة. بيد أنها علاقة وجدت إلى بعض القصائد طريقها للتوثيق الجزئي، ترجمها حبراس في عدد منها، وكان أهمها ما كتبه في رثاء الخليلي بعنوان "فقيد الضاد".

      كما كشفت ليلة تدشين ديوان فيض الإحساس في الـ 23 من يوليو 2013م وجها آخر لحبراس، لاسيما عندما كان معلما بمدرسة مازن بن غضوبة بسمائل في السبعينيات، وما كنا لنعرفه لولا أن أدلى به أحد طلابه في شهادة قدمها في تلك الليلة، وهو الشيخ الراحل خلفان بن سلطان البكري، ولولا تلك السانحة التي تيسرت قبل أن يخطف الموت الشيخ البكري بعد تلك الليلة بعام ونصف، لما أمكنت معرفة هذا الجزء من حياة الرجل/ الرجلين معا.

     حسنا: لماذا أكتب هذا الآن؟ ثمة مقولة قرأتها مؤخرا تقول: إن الموت يعيد رسم الذكريات بنحو أوضح، ولعلنا كنا بحاجة لإعادة تشكيل ذكرياتنا التي ما كان لها أن تكتمل لولا الموت الذي يكثف الذكريات المبعثرة ويجعلها أكثر سطوعا، أو لعله ينبهنا إليها من جديد وإن لم تكن قد حدثت بالدقة نفسها، ولكن الخيال على استعداد دوما لتعويض النقص بشكل أو بآخر تحت وطأة الرغبة الملحة في لملمة أجزاء الصورة المبعثرة: كم اتفق، كم اختلف؟! المهم أننا أصبحنا نعرف أكثر!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق