السبت، 19 سبتمبر 2015

مزاجية الكتابة

مزاجية الكتابة

منى بنت حبراس السليمية
   
      ما معنى أن تصل إلى اللحظة الأخيرة التي يتحتم عليك أن تسلم فيها مادة عمودك الأسبوعي ولا تجد غير البياض أمامك والتشويش في صفحة ذهنك! تحاول أن تركز تفكيرك في فكرة واحدة فقط تصلح أن تكون مادة مقروءة في عمود سيكون بين يدي القراء بعد ساعات!

       أي ورطة هذه! لم يعد الوقت ممكنا لتعتذر للجريدة عن عمود هذا الأسبوع، وليس في وسعك ارتجال موضوع كيفما اتفق، مستسلما لعداد الكلمات بما يشبه الهذيان، من أجل أن تملأ الفراغ المحدد سلفا في يسار الصفحة الثقافية من جريدة الزمن كل يوم أحد!

     كان مقترحا لهذه التجربة أن تبدأ قبل مدة من الآن، ولكن عدم الثقة في الكتابة ومزاجيتها هي ما دفع لإرجاء خوضها؛ خشية الوقوع في فخ ثرثرة ترضي فراغ الصفحة ولكنها لن ترضي امتلاء القارئ، فلماذا أكتب عمودا أسبوعيا أعرف أن الكتابة لا تصدق فيه مواعيدها كما يريد لها العمود!

     ثمة مواضيع كثيرة كانت تصلح لأن تكون اليوم هنا في هذه المساحة، ولا بأس في أن أسرد بعضها عليكم:
     أولها الذكرى الأولى لوفاة الشاعر أبي سرور التي تصادف غدا الاثنين 21 من سبتمبر، ولكني وجدت أن كل ما كنت أود قوله قد قلته فعلا في مقال قديم كتبته قبل وفاته بثلاث سنوات على الأقل، ومن كتبت عنه حيا لا أحب الكتابة عنه ميتا، لأن الكتابة فعل حياة لا رسالة تأبين.

     الموضوع الآخر المحتمل، إكمال مقال تركته خديجا بعدما أرجأت العمل فيه ريثما أتخلص من لغة الانفعال التي غلبت عليه لحظة كتابته السابقة، ولكن لأن النص (عندي) لا يولد مرتين، قررت وأده إلى الأبد غير آسفة عليه.

     موضوع ثالث: قراءات أخيرة تنتظم موضوعا متقاربا في كتابي أمبرتو إيكو "ست نزهات في غابة السرد" وأورهان باموق "الروائي الساذج والحساس" وقريبا منهما مقدمة سعيد بنكراد للكتاب الأول منهما، وما يصنعه هذا الرجل في مقدمات ترجماته التي تستحق لوحدها وقفة خاصة. وغيرها مواضيع لا حصر لها، منها بأهمية ما وقعتُ عليه مؤخرا من كتابات أبي مما لم يتسن لي أن أدرجه في ديوانه الصادر قبل عامين، وليس انتهاء ببعض الكتب التي يستحق بعضها مساحة كهذه، بل أكثر.

    لا نحتاج غالبا للأفكار وحدها لنكتب، ولكننا نحتاج أكثر للحظة الصدق مع الكتابة، وبدون تلك اللحظة العصية التي لا تأتي وقت نشاء، تظل الكتابة سيدة نفسها، ولأجل لحظتها الصادقة تلك عرفنا من الكتّاب من اتخذ وسائله لمراودتها واستدراجها إلى حظيرة الفعل الكتابي، حتى استحقت من بعضهم أن يفرد لها كتابا كاملا، كما حدث مع جبرا إبراهيم جبرا في كتابه "معايشة النمرة"، وما النمرة التي يعنيها إلا الكتابة بتأبّيها وتمنّعها، التي تحتاج من الكاتب طول مسايسة وصبرا على المداهنة، ووجدنا من يستجلبها إليه بالمشي الطويل، ومنهم من لا تأتيه إلا إذا عمد إلى غمر جسده بالماء مسرحا خياله خارج حدود المكان والزمان، عله يقطف صورة شاردة، أو يرصد جملة نادرة.

    بينما - هنا - ليست المزاجية وحدها المستحكمة في تمنّع فعل الكتابة، ولكن العمود نفسه مما يُشعر بضرورة استعجال الوقت، وسرعة المعالجة واختزالها واختصارها، وهو ما لا يستقيم مع إطالة النظر وقصدية الحفر. لذلك: هل أعتذر لقرائي اليوم بأني لم أكن عند موعد انتظارهم، واخترت أن أتحدث إليهم كما لو كنت أتحدث مع نفسي في ورطتها مع مزاجية الكتابة وعدم انضباط ساعتها الأسبوعية؟

20 من سبتمبر 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق