يعيش الصوت ...
منى بنت حبراس السليمية
جريدة الزمن - 13 من سبتمبر 2015
أُلقم المسجلةَ الشريطَ الكنز، فينبثق الصوت: "يسرنا أن نسجل في هذا الشريط بعض القصائد المختارة، التي قرئت منذ أكثر من ثلاثين عاما، وبعض قائلي هذه القصائد قد توفوا، وبعض قارئيها قد توفوا هم كذلك، وإذا كان قد قيل:
يعيشُ الخطُ في القرطاسِ دهرا
وكاتبـُـه رميـــمٌ في التـــرابِ
فإننا نقول:
يعيشُ الصوتُ في التسجيلِ دهرا
وصاحبـُه رميـــمٌ في التــــرابِ
وأغلب المقرئين لهذه القصائد بأصوات سمائلية. وللعلم فقد تمت إعادة تسجيل هذه القصائد في هذا الشريط في شهر جمادى الأولى من عام 1420 للهجرة، الموافق من شهر أغسطس من عام 1999 ميلادية"
هكذا (بتصرف) يقدّم الشيخُ الراحل أبو معاذ مرشد بن محمد بن راشد بن عزيّز الخصيبي تسجيلا سمعيا جمع قراءاتٍ شعريةً لعدد من شعراء سمائل، ألقوها بأداء لحني مميز منذ ما يزيد عن 46 عاما، وقد رحلوا جميعهم بمن فيهم صاحب التقديم نفسه، الذي وافته المنيّة في نوفمبر من عام 2012م.
وليس هذا الشريط السمعي وحيدا مما احتفظ بأصوات رجالات الشعر في سمائل منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي؛ فما يزال عدد من الأشخاص في سمائل - وغيرها - يحتفظون بتسجيلاتٍ غيرِه سجُلت في فترات زمنية مختلفة، وهي ليست لدى أحد غيرهم، وإذا كان هذا الشريط قد تكفّل الصديق والشاعر "هلال الشيادي" بنسخه مني وتوثيقه في هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، فإن غيره وسائط أخرى لا تزال فرادى موزعة هنا وهناك حيث ندري ولا ندري.
وكلما ألقمتُ المسجلة هذا الشريط السمعي، انسابت الأصوات الشجية تنحت في الروح حنينا لزمن مضى، كانت فيه مثل هذه القراءات اللحنية للشعر حاضرةً في المجالس الأدبية بسمائل، ويندر أن يتلى الشعر بدونها، وقد ميزت هذه الطريقة شعراء تلك المرحلة، فأكسبت كل واحد منهم طريقته المميزة في التلاوة تكاد تخصه وحده، فيسهل أن يتعرف المستمع على صاحب الصوت قبل أن يُذكر اسمه.
فنسمع أمير البيان الشيخ عبدالله بن علي الخليلي يترنم بقصيدته "مسرحية الهوى"، فيوصل روحَ صوته بروحِ قوافيه إلى الأسماع نبضا آخر، وينشد الشيخ محمد بن راشد بن عزيّز الخصيبي - صاحب كتاب طبقات الشعراء المسمى "شقائق النعمان" وكتاب "الزمرد الفائق في الأدب الرائق" - ينشد قصيدة وجهها مهنئا أبا الفضل شاعر الشرق/ أحمد بن عبدالله الحارثي - والملقب كذلك بشاعر الخيل - ويعقبها بقصيدة شاكرة من الأخير له على قصيدته الأولى.
وفي موضع آخر من الشريط يصدح صنّاجة سمائل الشيخ علي بن منصور الشامسي متغنيا بقصائد لأبي الصوفي الشاعر سعيد بن مسلم المجيزي بصوت أخّاذ مطرب، ومثله حبراس يترنم بقصيدة للشيخ عبدالله بن علي الخليلي، وبقصيدة "في وصف سمائل" للشيخ محمد بن راشد الخصيبي، وقصيدة للشيخ علي بن جبر بن سعود الجبري، وقصيدة قرضها معلم الأجيال الشيخ موسى بن عيسى البكري - صاحب "السموط الذهبية" و"رائد الأدب" - لكتاب الشيخ الجبري المسمى بـ "الهمم العلية". فضلا عن قصائد أخرى قرأها أصحابُها أو مقرؤون آخرون منهم الشيخ مرشد الخصيبي وحمد بن خلفان بن حمد الرواحي.
يُدهش السامع لاهتمام هؤلاء بتسجيل قراءاتهم الشعرية في وسائط سمعية في ذلك الوقت المبكر نسبيا من مطلع السبعينيات، في وقت قلما وجدت هذه الآلة طريقها إلى كثير من البيوت في سمائل، فلهم يعود الفضل في حفظ هذا الكنز السمعي الذي قل لونه وتضاءل في ساحات الشعر العماني، ولكنه كنز بقي محدود التداول، ومحصور الملكية في أيدي قلة من مهتمين وورثة، ولم يصل جلّه بعد إلى الحفظ الرسمي الذي يجنب تلك الوسائط التلف والضياع.
مشهد من الذاكرة:
يحمل جهاز التسجيل الكبير ذاهبا به إلى مجلسه في أقصى زاوية في الشمال الشرقي من البيت، بعد أن يوجه تحذيرا لأهل بيته وأطفاله الصغار من الاقتراب من معتزَله ذاك، ولكننا سهوا وجهلا في غمرة لعب "الغمّيضة" و"المداسّوه" نقتحم عزلته التي يسبقها صوته العالي منشدا قصائد قرأناها لاحقا في قراطيسه وأخرى غيرها لم نقرأها، ولكن صوته المتسرب يعجز في الوقت الضائع عن صد اندفاعة الجري المنطلقة كرصاصة، فيغضب ويهيج. وبصبر غريب يضغط زر إعادة التسجيل ويشرع في تكرار ما قرأه من جديد.
كانت الأشرطة تتزايد في دُرجِه أسفل طاولة التلفاز، ويكتب على بعضها عناوين القصائد التي تحويها، ولكنه يذهب ببعض تلك الأشرطة حيث مجالس الشعراء فلا تعود، وبعضها الآخر بقي هناك في مكانه حتى غادر، ولأن الموت يجعلنا ننتبه للأشياء بعد فوات الأوان، انتبهنا لصوت أبي المحفوظ في وسائطه المتبقية في الدرج، أما ما خرج منه فقد ضلّ طريق العودة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق