لحظة جاء "باكر"
منى بنت حبراس السليمية
خاطر مفاجئ دفعنا أخواتي وأنا أن نتوجه إلى المزرعة. كنا نود أن نُري صديقتينا العراقيتين "شذا" و"هدى" مكانا شهد طفولتنا وتربينا فيه حتى 2010. متناسيات عمدا أنها بيعت منذ سبع سنوات، وأننا طوال السنوات السبع لم نسلك طريق المزرعة ولو عن طريق الخطأ.
ولكننا اليوم سلكنا الطريق الطويل كأول عهدنا منذ اشترى أبي مزرعته في "السّحمية" في سنة 89، ولم نسلك طريق العوينة - الدسر (الأقصر) التي شُقت تاليا؛ على أمل أن ترى "شذا" و"هدى" في الطريق ما يسرهما مرورا بـ"الهصّاص" و"لزغ" قبل أن ننعطف يمينا عند تقاطع "لزغ" في اتجاه الشرق. ولكن الشوارع تغيرت، ولم نجد أنفسنا بعد حين إلا أمام شارع ينفرع إلى تحويلة ترابية بدت هينة وقصيرة بادئ الأمر. قدتُ فيها بصبر بالغ، وشوقٍ استيقظ فجأة لمكان ظننتني لن أعود إليه مجددا.
يطول الطريق، ويزيد إلحاح أختيّ بشاير وميمونة بضرورة العودة، عوضا عن الوصول إلى انسداد يضطرنا إليها بعد اجتياز مسافة يمكن تجنبها سلفا، ولكني مضيت بهن غير آبهة بنتيجة محتملة غير سارة، ولكن توجسي كان من احتمال آخر: أن نصل ونجد المزرعة مغلقة. أعلنت توجسي، ثم استدركت مطمئِنة بأنني لو وجدتها كذلك فسأتصل بيوسف الندابي – الذي اشترى قريبُه المزرعة – ليتصرف فندخل لمرة واحدة.
وبعد سير طويل أكل وقتا حسبناه لن ينتهي على الطريق الترابي، بلغنا تقاطع السحمية - نداب الذي تحفظه ذاكرتنا جيدا، في اتجاه سجن سمائل المركزي، الذي تقع المزرعة مقابله تماما. وصلنا، وكانت المزرعة مغلقة كما توقعنا، ولكن الذي لم نتوقعه أن تكون الشبكة معدومة هناك تماما!
أكل الإحباط قلبي؛ وضاع الأمل في واسطات يوسف - كما كنت أمني النفس - بعد كل هذا الصبر، ولا فرصة لاستراق نظر أكثر من رؤوس الأشجار من فوق السور.
سُوّرت المزرعة، ولم يبق أثر للسور الشبكي الذي كان في عهد أبي. حجب السور الجديد بداخله كل مشاهد الطفولة وذكرياتها.
إحباطي لم يكن أهون من إحباط "شذا" و"هدى"، الذي أخمّن أنه لسبب آخر؛ فقد صبرتا على طريق ترابي طويل من أجل غاية لا يعرفنها، وليس مهما ربما الوصول إليها.
وقبل أن أستدير سالكة طريق العودة أجر خيبتي، وأمنية طارئة لم تكتمل، غنمت صورة تخفي أكثر مما تكشف. داخل هذا السور كنا نقضي العيد:
- بعيدة المزرعة باه. ما كان أحسن لو مشتريين مزرعة قريبة من المدرة؟
- انتوا ما تحبوا المزرعة وتتحججوا.
- نحبها باه بس بعيدة!
- بتصبروا على بُعدها باكر!
جاء باكر وصبرنا على طريقها الطويل، طريقها المُلبس تحت الصيانة (أو الإنشاء ربما)، تحويلتها الترابية. صبرنا برغبة تختلف عن كل ما سبقها، ولكن بعدما أوصدت في وجوهنا أبوابها وما عاد إليها من سبيل.
٤ سبتمبر ٢٠١٧
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق