بهدوء .. كأنه لا يفعل شيئا
منى بنت حبراس السليمية
في يونيو من عام 2014 كان صالح العامري في استقبالي بمطار نيوكاسل؛ فبمجرد ما حطت الطائرة على المدرج وفتحت هاتفي البلاك بيري الأسود حتى وردتني رسالة نصية لطيفة من رقم غير معرّف، تدعوني للمشاركة في برنامج (ضفاف) بنصِي (الكتابة الحلم). وقد ذُيلت الرسالة باسم: صالح العامري.
تفاءلت كثيرا برسالة صالح وأنا أطأ المملكة المتحدة لأول مرة للسياحة برفقة العائلة. وسرعان ما أجبته بأنني أحط اللحظة بمطار نيوكاسل وسأحتاج أسبوعين على الأقل لتلبية دعوته.
ثم تكررت مشاركاتي مع صالح في برنامجه (ضفاف)، ثم (في هواء الكتابة). فهو قناص يجيد اختيار النصوص من صفحات أصحابها في (الفيسبوك)، في الوقت الذي تظن أنه غائب عنه، لأنه صديق غير نشط على منصات التواصل الاجتماعي على الإطلاق، ولكنه أصبح منذ ذلك الوقت أحد أهم قراء ما أكتب من نصوص بين حين وآخر. أبعث له نصوصي على الواتساب ليخبرني رأيه فيها. يجيب أحيانا بأنه نص جميل، وتارة أخرى يطلب تسجيله في برنامجه. في الحالة الأولى أفهم أنه (جميل)، وفي الحالة الثانية أدرك أنه (أجمل).
يربكني صالح العامري بطلب تسجيل نص من نصوصي؛ إذ لم يُفِد التعوّد ولا التكرار في منع الشعور بتجمّد أطرافي وتلبّك معدتي في كل مرة يراد لي فيها دخول الإذاعة أو التلفزيون. وتفاديا لهذه النتيجة أعمد أحيانا، قبل إطلاعه على أي نص، إلى الاشتراط عليه بأن النص للقراءة فقط وغير مسموح له التفكير في شيء آخر. يوافق صالح باستسلام، ولكنه لا يتردد بعد القراءة في إرسال كلمة: "سنسجله"! ضاربا بالشرط المسبق عرض الحائط. وبقدر ما يغيظني بحركته هذه إلا أنه يسعدني؛ لأنني لحظتها فقط أفهم أن النص كان (أجمل). على الرغم من التلبك المعوي الذي تسببه لي فكرة التسجيل.
أعتقد دائما أن لاختيارات صالح للنصوص التي تسجّل في برنامجه قيمة فنية؛ وأن اختياره لنص بعينه يشي بأنه نص جيّد بشكل أو بآخر؛ فهو رجل ذو ثقافة عالية واطلاع واسع. يتحدث عن ذكرى رحيل فلان، وعن نص لفلان، ويحدث أن تكون كلها أسماء لم أسمع بها من قبل، بينما يتكلم عنها صالح وكأنه شرب القهوة برفقتها، أو تناول معها فطور صباحات عديدة في أزمنة لا تلتقي بزمنه أحيانا. وبسبب هذا أعتقد أن ذائقته نوعية، وأنها ليست من نوع الذائقة التي يمكن أن ترضى بالعادي، أو أن تتنازل عن المستوى الذي راكمته اطلاعاته. ولعل هذا ما يجعل الكلمات التي يكتبها ويقرؤها قبل بث نص من نصوصي، أو بعده، تشكل أهمية بالغة عندي. يهمني أن أعرف ماذا سيقول صالح قبل فقرتي، وبماذا سيختم بعدي. تلك الكلمات القليلة تحدد موقع نصوصي من ذائقته، وأكون على ثقة بأنه لا يبالغ، فيحدث أن يقول كلاما جميلا يصنع يومي، ونصوصي القادمة معا.
يفعل صالح أشياء كثيرة بهدوء يوشك أن يجعلك تعتقد أنه لا يفعل شيئا، أو في أبسط الأحوال لا يبذل جهدا بينما يقوم بها. وكأنما يصنع الأشياء فقط لأنها نضجت معه، وحان أوان تقديمها للآخرين. وهذا الاعتقاد أقيسه بالوقت الطويل الذي قضاه وهو يعبئ نفسه وذاكرته بقراءات شتى.
في كل المرات التي سجّلت فيها مع صالح لم يتسن لي أن ألتقيه غير مرتين: في المرة الأولى كان حضوره مربكا داخل الاستوديو. ودفعا مني لهذا الشعور وظّفته على الفور مدققا لما أقرأ من خلف المذياع. قلت له: "تتبع ما أقرأ وأوقفني فورا إذا لحنتُ، فأنا لا أجيد الاستماع لما أقرأ فتخرج الأشياء أحيانا على خلاف ما ينبغي أن تكون عليه". وافقني على طلبي بيد أنه لم يوقفني أبدا. وفي المرة الثانية كان سليمان المعمري ثالثنا. سجلت يومها مقال (عالمية الرواية العمانية .. سؤال الكتابة والزمن والتلقي). أوقفني سليمان في ذلك اليوم ما لا يقل عن خمس مرات!
خارج استوديوهات برنامجيه (ضفاف) و(في هواء الكتابة)، التقيت بصالح مرتين أيضا: مرة أمام مبنى دائرة الآداب وكانت الأولى، ومرة ثانية جمعتنا فعالية لمختبر السرديات العماني في النادي الثقافي.
لا أزعم أن معرفتي بصالح قديمة، فقد عرفته حديثا كعلاقتي الحديثة بالإذاعة في الإجمال؛ فلم يشكل الراديو شيئا مهما في بيتنا بقدر ما كان الفيديو سيدا منذ طفولتنا المبكرة. وعلى الرغم من مشاويرنا الطويلة في طول البلاد وعرضها، لم يكن الراديو رفيقا نحتفظ له بذاكرة خاصة، على عكس أشرطة الكاسيت التي يتناوب عليها أبو بكر سالم ونبيل شعيل وعبد الكريم عبد القادر غالبا. مؤخرا فقط بدأت علاقتي بالإذاعة، تحديدا منذ عام 2008، عندما أصبحت لي سيارتي الخاصة التي صرت أتصرف بتفاصيلها وحدي، وأتقاسم معها عزلتي داخل كابينتها الصغيرة. مع سيارتي السوزوكي النحاسية نشأت علاقتي مع الإذاعة، ومعها بدأت أبجديات معرفتي بالأصوات؛ فتعرفت على صوت صالح العامري.
لا يتهيب صالح من فتح دفاتره للأصدقاء الجدد، فقد أخبرني مرة عن فكرة برنامج يَشتغل عليه، يقوم على المزاوجة بين قالبين فنيين يحملان مضمونا مشتركا. اقترحت عليه وقتها مواضيع مختلفة بعناوين كتب وأفلام وأغان، فطلب استعارة كتب من مكتبتي تتصل بها، ولكني قابلت عدم تهيبه، بعدم تهيب مماثل: لقد رفضت إعارته!
ليس علينا أن نخجل من الأصدقاء، والصديق الذي نخجل منه، علينا أن نعيد تعريف الصداقة معه. لذلك سأقول لصالح بأني لم أحب كتابه "سلالم صوب الولع". كنت على وشك أن أكتب عن نصه "دراجتي النارية" مقالا نقديا. أنجزت نصفه بالفعل، فقد بدا لي أنه – ونص "البريد" – من أجمل نصوص الكتاب، ولكني أحجمت عن إكماله في اللحظة الأخيرة. وأعرف أن عدم محبتي لكتابه لا تنقص (إنْشًا) واحدا من محبتي له صديقا عتيدا .. ومهمًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق