اعتدَلَتْ
منى بنت حبراس السليمية
كنا في جناح مسعى بمعرض الكويت للكتاب في عام 2015 عندما ناولني نسخة موقّعة من روايته (سماء مقلوبة). قلّبتها سريعا وبادرته بالسؤال:
- تعمدت تخلّيها مقلوبة؟
- عنوانها (سماء مقلوبة).
- أدري بس الرواية مقلوبة.
- حياتي هي المقلوبة.
- ناصر، الرواية مقلوبة، شوف صفحاتها عكس غلافها.
- هاتي يمعودة، هذي نسخة مضروبة مو مقلوبة!
فانفجرنا في ضحك صاخب، قبل أن أبتدره:
- طيب كنت خلّيني فاهمة إن كل النسخ مقلوبة عن قصد.
- وشيصير بعدين؟
- ولا شي، بس أكتب قراءة نقدية عن دلالة الصفحات المقلوبة، وعن ذكاء المؤلف الذي لاءم بين العنوان وطريقة إخراج الكتاب.
نظر إليّ كمن فوّت فرصة، قبل أن يقول:
- سأنتظر ما ستكتبين عن رواياتي.
بعد ثلاث سنوات كتبت عن رواية الصهد، الجزء الأول من ثلاثية الجهراء،مقالا عنوانه "ذاكرة الهامش في صهد ناصر الظفيري" تضمّنه كتاب "ناصر الظفيري رواية الوطن والغربة" الذي كان هدية احتفاء الأصدقاء والمحبين به أثناء زيارته للكويت في أبريل من عام 2018م. خفت أن أكون قسوتُ عليه، أن أكون غردت خارج السرب. خفت أن يزعل مني ناصر. قذفت بقراءتي في بريد الشاعرة الصديقة سعدية مفرح وأغمضت عيني لا أنتظر شيئا.
بعد أسبوع من أمسية الاحتفاء، بعث لي ناصر رسالة يخبرني فيها أنه أحب ما كتبت عنه. يا إلهي! لقد أحب! وأنا أحببت رأسه الذي ينصت ويستمع ويتقبل ويحب. كانت هذه الإشارة مهمة جدا في مشوار معرفتي بناصر الصديق؛ لأنها فاصلة في تحديد درجة الصدق بيننا. عرفت أننا نستطيع أن نقول كل شيء وأي شيء دون أن نضطر للالتفات لهواجس الحذر أو التردد.
من يعرف ناصر الظفيري عبر حسابات التواصل الاجتماعي فقط، فهو لم يعرفه البتة؛ فقد اعتقدت لوقت طويل أنه كما هو دائما في منشوراته الفيسبوكية، ولكن لقاء أول امتد لأكثر من ساعة في معرض الكتاب في الكويت، أبدل صورة ناصر بصورة أخرى مغايرة.
آخر لقاء جمعني به، سيكون هو الأبقى في ذاكرتي على الإطلاق: زار ناصر الكويت في معرض الكتاب في نوفمبر 2018. وكنت عائدة للتو من الرباط سعيدة بتسليم أطروحتي وإيداعها في الجامعة أخيرا. قررنا أختي بشاير وأنا أن نزور ناصر في رحلة سريعة إلى الكويت تستغرق يومي عطلة نهاية الأسبوع. كانت سعادتي بتلك الرحلة، وأنني سألتقيه مجددا، سببا في تهوري بإرسال صورة تذكرتي له وكنت قد قطعتها للتو.
كان يوم الخميس 29 نوفمبر 2018 الساعة 8:30 مساء عندما حطت الطائرة في مطار الكويت. بالكاد أفتح هاتفي ونحن ننتظر تسلّم حقائبنا عند (السير). رسالة من ناصر: "ناطرك في بوابة القادمين". كانت صدمتي لا تُفسّر! الرجل الذي لم يستطع مغادرة بيته طوال مدة وجوده في الكويت ها هو يترك فراشه وينتظرني في بوابة القادمين. تجمدت ملامحي وأنا أقول لبشاير: ناصر في المطار!
من فوري رحت أتخيل صورته وقد هدّه المرض كما سمعت وقرأت من منشورات الأصدقاء مؤخرا. توقعت أن لقائي به لن يكون قبل الغد مثلا. فرصة كي أرتب نفسيتي للوقوف على وضع صحي أتوقعه بالغ السوء، ولكن أن تأتي المواجهة مع ناصر الجديد هكذا بغتة، فهو ما لم أحسب حسابه ولم أتهيأ له نفسيا بعد.
أجر خطواتي حذرة من هيئة أتوقعه عليها وأحاول ردها عن ذهني.أتصفح الوجوه التي تنتظر أحبتها ولا أرى ناصر وأنا أدفع عربة حقائبنا أمامي، حتى أخذنا الدرب خارجا. أقول لعله ينتظرنا في الخارج، ولكن لا ناصر هناك. أفتح هاتفي وأتصل به. أصف له أين أقف خارجا، ويصف لي أين يقف داخلا، ويظن كلانا أننا في المكان نفسه، وكلانا يدير رأسه يمنة ويسرة كما أتخيلنا الآن.
بادرت بشاير بأن دخلت إلى داخل المطار مجددا بينما أعالج الوصف مع ناصر. دقائق ويخرجان معا بشاير وناصر وقد هدّه التعب. هزل جسده كثيرا عما كان عليه في حفل التكريم. يتوكأ على عصاه ويكاد يستند على المارين عن يمينه وشماله. يا إلهي هذا ناصر إذن. ناصر الصديق. الوفي. الفدائي الذي قرر أن يترك مرضه في الفراش ويأتي إلى المطار لاستقبالي.
كان عبد الوهاب سليمان ينتظرنا بسيارته، ولم يتركانا حتى اطمأنا إلى أننا أخذنا غرفنا في الفندق وغادرا على أمل لقاء يتجدد في الصباح، ولكنتعب البارحة أقعده عن ذلك في الصباح، فكان ذاك لقائي الأخير بناصر.
لم يكن سهلا أن أستعيد المشهد الأخير مع ناصر مستقبِلا في المطار، وما كنت لأفعل لولا قناعتي بأنه يستحق أن نمسح دموعنا قليلا ونفرح باستقراره النهائي في وطنه الثالث والأبدي، وقد اعتدلت حياته المقلوبة أخيرا. ناصر الذي يصرّ على أن يجعل من الهجرة حلا لشخوص رواياته في أزمتهمالوجودية مع الهوية والوطن، يقطع تذكرة الصعود إلى وجهته الأخيرة من بوابة المغادرين، ويلوّح للحياة المضروبة مودّعا في يوم الأربعاء 20 من مارس 2019م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق