"الشيخ مرشد" .. في حضرة غيابه
منى بنت حبراس السليمية
مع نداء الصلاة،، يأتي نبأ موته فجرا على لسان أمي الباكية وقد اختلطت حروفها بفاجعة رحيله، فالموت كائنٌ لا يأبه بالمقدمات التي تتكفل بتخفيف وطأة الألم، يزور دون أن يستأذن القلوب متخطفا من يشعرنا وجودهم بأننا ما نزال على قيد الحياة، هكذا يرحل عنا الشيخ مرشد الخصيبي، ليبقى لساني معلقا ببيتين من شعره قالهما منذ ما يزيد على أربعة أعوام:
هذي ســــمائلُ عاليها ودانيهـــــا ترثـــــــــي أديبًا لها قد كان شاديها
هذي سمائلُ من حزنٍ بها اتشحتْ ثوبَ الســــــــوادِ فسودٌ كلُّ ما فيهـا[1]
عجبا .. كيف أسعفتني أبياته لأنعيه لنفسي فأعزيها، تلك الأبيات التي أحتفظ بها مكتوبة بخطه ومسجلة بصوته، التي كانت لفرط الحزن الذي اختزنتْه لا أستطيع سماعها، ولكني اليوم هرعت إليها بعد أربعة أعوام، فالألم وحده يداوي الألم، وهو المعزَّى فيه والمعزي.
عرفت الشيخ مرشد الخصيبي والدا رحيما، مثلما عرفتُه أديبا محركا لكوامن الشعر فيمن حوله، فلا يبخل على من يتوسم فيهم الموهبة بتشجيعه ونصحه وإرشاده، حريصا على الشعر وأهله، وهو إذ ذاك صاحب إنتاج غزير، وحضور ملازم للمجالس الأدبية بشخصيته الهادئة وتفكيره المتزن، ليرحل مخلفا بَصْمتَه ليس على الصعيد الأدبي وحسب؛ فلمواقفه الإنسانية النبيلة حَفرٌ في عمق النفس لا يزول.
كما للشيخ دور في توثيق قصائد مقروءة بأصوات أصحابها من شعراء سمائل منذ ما يزيد على أربعين عاما، قرأوها بألحان شجية تسيل عذوبة وصفاء، وقد تخطفهم الموت جلُّهم، ليوثق المسموع (النادر) بعدما جمعها في شريط واحد، فيحفظ بذلك تراثا شعريا تجاوز المكتوب إلى حدود المنطوق، ليقول مقدما القصائد المسجلة:
يعيش الصوتُ في التسجيـــل دهرا وصاحبـــُـــه رميــــمٌ في التـــــــراب
وكم كانت سعادته غامرة بتحويل التسجيل الذي قام به من شريطه التقليدي إلى أشرطة (سي دي)، إذ سيتاح له أخيرا أن يستمع إلى ما جمعه منذ عقود بسهولة عبر جهاز سيارته الحديث .. ولكن موته لم يسعفني لأعطيه نسخته منها!
فهل نشيّعك اليوم يا شيخنا؟
إنَّنا نشيع فيك رجلا أحبه الشعرُ قبل أن يحبَّ الشعر، ونشيعك أبا استظل بظل أبوته كلُّ من عرفه، فلا نعزي فيك معاذا؛ فكلنا اليوم معاذ. وعزاؤنا فيك بأن:
لولا التأسي بأن الموت ذا قدر فكل نفس وكأس الموت يسقيها[2]
ولسنا نملك غير أن نختم بما ختمت به، لنردد صداك:
لك العزاء أيا فيحا سمائل في أديبنا إذ توارى عن نواحيهـــــا
والله نسأله رحمى ومغفــــرة لمن غدا اليوم في ترب يواريها
وتلطفنّ به فضلا وتوسعــــه في جنةٍ مقعـــــدا صدقا له فيها
وتختمنَّ لنا يا رب خاتمــــة بالخير أعمارنا إن شئت تطويها
هكذا شئتَ لرثائك أن يكون، ولسنا بعدك سوى بعضِك، فلتصفح إذ لم نجد غير عزائِك عزاءً..
رحمك المولى وغفر لك، ونسأله تعالى أن يمنَّ عليك بفضله ويوسعك في الجنة مقعد صدق لك فيها.
20 من أكتوبر 2012م
ـــــــــــــــــ
[1] قالها رحمه الله ضمن قصيدة في رثاء والدي الشاعر/ حبراس بن شبيط السمائلي الذي وافته المنية في يوم 25 أغسطس 2008م – رحمة الله عليهما.
[2] من قصيدة الرثاء نفسها.