السبت، 10 مايو 2014

"مجازة"

"مجازة"[1]

لـ منى بنت حبراس السليمية

لم يرها..
ولكن أذنه لم تخطئ قط صوت جسدها المطرطش بالماء فجرا، كلما مر بمحاذاة "المجازة" في طريقه إلى المسجد!

ــــــــــــــ
[1] المجازة: غرفة إسمنتية عامة تبنى فوق مجرى الفلج تستخدمها النساء للاستحمام، وهي معروفة في القرى العمانية وما تزال قائمة في معظمها.

أحمر شفاه

أحمر شفاه
لـ منى بنت حبراس السليمية

في مرات كثيرة كانت تتجشم خطورة عبور الشارع من أجل أن تصل إلى الدكان
وفي كل مرة لا تشتري شيئا.. تطيل النظر في الألوان المصفوفة خلف الزجاج وتخرج.
صاحب الدكان يغمز لها سائلا: أترغبين في شراء أحدها؟
لا تجيبه، فيردف:
- ولكنك صغيرة على مثل هذه الألوان!!

تسمع صديقتها سارة في المدرسة وهي تخبرها عن أمها التي تضع اللون الأحمر
فتشتاق لألوانها المصفوفة خلف الزجاج. تعود مسرعة إلى البيت لتزور الدكان.

في عصر اليوم التالي، أخذت نقودها بيد مرتعشة وقالت لصاحب المحل: أريد واحدا.
سألها بخبث:
- لمن؟
ردت مرتبكة:
- لصديقتي.
- وصديقتك كم عمرها؟
غضبت منه وغالبت خجلها بعصبية طالبة منه عدم التدخل.

أخذ النقود، وناولها اللون العنابي.
أصبحت لها مواعيدها الخاصة مع اللون العنابي في دورة المياه. تضعه على شفاهها كامرأة راشدة. تتأمل المرآة. تطيل المكوث وتسأل: ماذا لو خرجت به؟
تطرد الفكرة وتغسل فمها وتعيد أحمر الشفاه إلى جيبها ومنه إلى جيب حقيبتها المدرسية.

في أيام الامتحانات نسيت أمره ومكانه من حقيبة المدرسة. باغتتها جماعة النظافة لتفتيش الحقائب، فأطل اللون صارخا أمام الطالبات!!
- ما هذا؟
ردت بشيء من الصدمة: هذا.. هذا لـ سارة!

ومنذ ذلك اليوم لم تر قلم أحمر الشفاه.. ولم ترَ سارة

رسائل.. إلى مبارك بن لندن

رسائل .. إلى مبارك بن لندن

لـ منى بنت حبراس السليمية

رسالة (1)

       إلى تلك المساحة من البياض.. افترشت على امتداد المكان تعانق الأفق طولا وعرضا باسم الرمال العربية..

لكِ الشكر إذ حطت بكِ الأقدار في الجوار.. فلابد للريح أن تحمل إلينا بعضا من رقتك [قسوتك] في طريق عودة وذهاب.. في موسم خريف [صيف].. تحن فيه القلوب إلى مساحة من الاخضرار.

      عبرتُ يوما بالقرب.. وتمنيتُ إغفاءة تنتهي بانتهائك.. ولكن رحّالتك البريطاني علمني كيف أعض على أصابع الندم لإغفاءة استدعيتها قسرا في سبيل وصول سريع إلى [صلالة].

 

رسالة (2)

       إلى تلك الصفحات المرصعة بالحكايات الأبدية.. تنثرها الريح حبات تفصح عن عالم سخر القدر منا يوم طواها قبل أن تفتح عيوننا عليه.. صفحات أخذت كل الحق في أن تُقرأ بالقلب.. بالدمع.. بالعيون التي أعمتها ذرات الرمال مع هبوب الرياح تارة.. وبانفعالات الذاهب إلى المنفى رحيلا عن مساحة من الأرض ما تمنى أن يكون خارجها تارة أخرى.

 

رسالة (3)

        إليك مبارك.. بروح البدوي القادم من الغرب.. مضرجا بصخب الحياة.. ليغسل عن مهجته مدنيتها.. ويعيش بنقاء الرمال وصفاء الصحراء.. حيث للعزلة جمال آخر لا يعرفه إلا الهاربون من فوضى الحياة.

        علمتني بأي ميزان تقيس الإنجاز! عندما نتجرد من كل هياكل المادة.. وعلمتني كيف تصبح الرمال ملاذا.. وطنا.. عالما تشكل بألوان الكثبان.. والتلال.. ونبات القصيص والأوكاسيا.. حلما لا ينتهي إلا بمدنية تتسلل إليه لتغتاله باسم النفط..

 
         نعم.. نحن كما قلت: شديدو الحساسية للغتنا، ولكننا لا نرى الطبيعة حولنا!

ولكننا الأقدر على فهمها! فليس الإحساس غير حقيقة التجاوب مع ظروف الحياة.. وهل مثلنا من استطاع ذلك؟

بشهادتك!

مدارسنا.. هندسة لطبيعة ناعمة

مدارسنا .. هندسة لطبيعة ناعمة

لـ منى بنت حبراس السليمية

 

      عندما أثير السؤال عن الأسباب التي أدت إلى أن تكون إجازة الصيف لطلبة المدارس أطول مما يجب، وعندما ارتفع معه صخب تذمر المعلمين من دسامة المناهج الدراسية التي تتأبى على لملمة دروسها حتى الرمق الأخير من العام الدراسي وبالكاد تنتهي، وعندما استاء أولياء الأمور – وما يزالون – من الفراغ الذي يتمرغ فيه أبناؤهم مما مجموعه أربعة أشهر ونصف هي مجموع أيام الإجازة الصيفية وإجازة منتصف العام، زد عليها إجازات الأعياد والإجازات الرسمية، وأيام أخرى قبلها وأيام بعدها بموجب قرار يتخذه الطالب بنفسه بتواطؤ مع المعلم والبيت .. أقول عندما انتفشت كل هذه التساؤلات وغيرها، لم يدر بخلد أحد أن التصميم الهندسي لمدارسنا - الذي لا يصلح إلا لأجواء ربيعية نسمع عنها ولا نعيشها أو نعرفها - هو السبب الرئيس لأكثر من ثلث عام دراسي يضيع هدرا!

     فقد جرت عادة هندسة بناء المدارس في السلطنة أن تتخذ فصولها شكل (U) بدور واحد أو دورين، وتقع إدارة المدرسة في الموضع الذي يسد فتحة الحرف الإنجليزي، ومنه تكون بوابة الدخول إلى المدرسة، كما تكون مداخل الفصول كلها في مقابل الانحناءة التي يرسمها الحرف إياه غير المسقوف في مواجهة الهواء الطلق، ليبقى الفصل رغم جدرانه الأربعة مشرعا أمام الطبيعة القاسية لبلد تموضع غير بعيد عن خط الاستواء، زد عليه ما يستوجب على الطالب من وقوف حتمي في طابور صباح لا يقي رأسه من حرارة الشمس سوى خرقة خضراء، أو – في أحسن الأحوال – سقف من الألمنيوم قد تجود عليه بعض المدارس بمراوح تدور في بعض زواياه.

     وفي الفسحة يصبح التعرض للشمس خيارا أوحد تتعذر معه البدائل الأخرى، حيث لا خيار آخر سواه. ولست أدري لماذا تلح علي الآن مقاطع من خاطرة مطلعها: "نحن أبناء الشمس" لطالما ألقيتها في طابور الصباح عندما كنت في الإعدادية!! أتراني كنت أعزي الصامدات أمثالي تحت شمس الظهيرة عندما كنا ندرس في الفترة المسائية وطابورنا فيها يضرب نوبته عند الواحدة ظهرا!!

     والمقصف منعزل في فناء المدرسة عن البناء الصفي ذي الحرف الإنجليزي، ويتطلب حتى يتناول الطالب وجبته المدرسية أن يقف طابورا يمتد أمتارا من الأجساد الصغيرة تحت الشمس حتى يصل لمن يناوله خبزة وجبنة وعصيرا معلبا، ليتنعم بالكاد ببعض نفحات باردة تعبر إليه من نافذة الشراء بغرفة المقصف.

    ولا أظنني بحاجة إلى مزيد حديث عن حصص الرياضة.. !!!

    نقول كل ذلك على افتراض أن أجهزة التكييف داخل الفصول الدراسية قائمة بدورها بفعالية مثالية، وهو قلما يحصل، إذ كثيرا ما تكون مكيفات الفصول الدراسية أشبه بجعجعة دون طحين. ومازلت أستغرب من معلمة عندما كنا ما نزال طالبات صغارا تردد – بعد تشكّينا من الحر وعدم جدوى مكيفات الفصل – تقول: نار جهنم أشد حرا!!

    فهل مطلوب من فتيات صغار أوجدهن القدر وإجبارية التعليم في ظرف كهذا أن يتمرنَّ لحر جهنم؟!

    من يستطيع بعد هذا، والحرارة تقفز في مطلع شهر مايو إلى حدود الـ 44 درجة سيليزية، أن يطالب بتمديد العام الدراسي؟

    ليست هذه السطور من أجل الحديث عن قسوة الصيف وصعوبته في هذه الجغرافيا، ولكنها من أجل محاولة إعادة النظر في هندسة مدارسنا التي تصلح لبيئة لا تظلها إلا غيوم ربيعية على مدار العام، التي متى ما أطل الطالب من باب فصولها واجهته المروج الخضراء، ومتى ما وقف في طابور المقصف آنسته نسائم الحقول الغناء، ومتى ما وقف في طابور الصباح داعبته روائح الزهور في البساتين المجاورة، دون أن يعدم رشات من رذاذ لا يفتر، وشمس حانية لا تلهب رأسه فتقعِد عزمه عن التفكير بمستقبل لا يقوم إلا بالدراسة.

    ألسنا بحاجة إلى مدارس بمبانٍ مغلقة، تعزل الطالب عن قسوة الطبيعة داخل صفه وخارجه .. في مقصفه وملعبه .. كحال كثير من المؤسسات التي تحفظ منتسبيها من التعرض للصيف وقسوته؟ حينها فقط تكون المطالبة بتقليص الإجازات الطويلة - لا سيما في الصيف - مشروعة، متى ما أمن الطالب من إغماءة قد تصيبه جراء ضربة شمس على غفلة، ومن رعاف يشخب من أنفه ورأسه بسبب ارتفاع حرارة مايو المفاجئة.

    أقول ذلك على أمل أن تصبح جميع مشاريع مدارسنا الجديدة في أجندة وزارة التربية والتعليم المقبلة مختلفة، وأن تؤهل مدارسنا الحالية لتتناسب مع التغيرات المناخية، ومع حرارة شمسنا الأزلية، فقد أصبحت على يقين بأن البيئة التعليمية هي أولا، وهي ثانيا، وهي ثالثا، ليتسنى لنا أن نقول بعدها .. الطالب أولا!

جنون

جنون

لـ منى بنت حبراس السليمية
 

      أحتشد كلي أمام لوحة المفاتيح محاولة كتابة نص لم أكتبه فيما سبق لي من عمر، هكذا تصب فيَِّ الأحاسيس كلمات تتوه عن النظام الذي ألفته جميع النصوص في الوجود. في تلك الليلة كنت أترقبك غواية تهوي على أرضي دون استدعاء، فيتلبسني الخوف من احتمال مفتوح على المدى، وغاية وكدي أن أخرج من حربك الضروس بأقل الخسارات، رغم أني لم أومن قط بأن ثمة خسارات صغيرة، فإما أن أكون رابحة معك، وإما أن أكون رابحة معك، هكذا رسمت النهاية بيننا بمنطق ساذج.

    بيد أن صوتك المجنون زلزل ذاتي، عذبا كان، وظلمتك الشفيفة تجيد رسم عبثية الأشياء من حولي ومن حولك، وكأن الطقوس تصنعها وحدك على مقاسك مفترضا أنها على مقاس غيرك أيضا دون أن تكلف نفسك عناء استشارته.

    هكذا قررت، وهكذا كان، وعجبي .. أني توقعت جنونك الكاسح ولم أتجنبه. ولم أهرب منه. وتقول لي "أتتركيني؟"

     كيف لا أتركك وأنت تسن سكاكين ساديتك لتقتات ليلتك علي؟ صيرتني فجأة مائدة جنون تستحضر عليها كل مؤجلاتك ولا تستثني منها شيئا. هذا ما لم أتخيله قط: أن أكون مائدة لجنونك، فكان كافيا لهذا الخاطر أن يفتت أسطورة ذاتي، ويدحرجني على أقسى الصخور الناتئة في جبال الحجر الشرقي من عُمان.

    كيف تعرضت لك بأكبر مساحاتي التي أعرفها دون أن أحس بنذر الفاجعة؟ وكيف لساديتك المغرورة أن تعربد في نفسي بأكبر ممكنات السخاء؟ وكأنك لفرط ما أدمنت الجنون لا تمنح الجديد شيئا من قداسة؟ رويدك سيدي، كفاك عبثا، فلابد لدروسي أن تبلغ هدفك، ولابد لمعزوفتي أن تلامس شغافك، وهاك أول ممكنات بوحي:

    عندما استقبلتْ مسامات روحي ألحان شجنك، تغلغلتَ في أعمق نقطة عرفها الوجدان، ورحتَ تنحت عمرا جديدا من ركام السنين الحبلى بأهوال الانتظار، وترتق ثغرات الغياب بنبل حضورك الطافح في الضمير، فبعثت الأنثى الشائخة صبية في منتصف العشرين. هكذا قررت دون أن تستأذنني أيضا: أن تجعل من الستة والعشرين خريفا، ستة وعشرين جناحا على ظهر فراشة، هكذا الأنثى عندما تفتح بوابات الفرح على عالمها الصغير لا تصير إلا فراشة، ملّكتها واحدا، وأمسكت بالخمسة والعشرين جناحا الأخرى خيولا تركض على وقع يديك شدا وإرخاء. يا لساديتك العذبة.

    وتسألني: أليست سادية لذيذة؟ لذيذة يا سيدي متى ما كانت الروح معراجها، دون أن ترتطم بالجسد يبعثرها في شتات الدركات الأرضية، لذيذة بتعاطيها مع المطلق، ومتعالية على فنائية الجسد. 

وبعد حين..
     ستتراقص السنونوات جذلى على سحر طلتك،، جنة أخرى تشرع الأبواب إليك، فتهدي القلب فرحا بكائن جميل لا يتكرر،، يجيد كل شيء ولا يعجزه شيء،، قاس بصخب طلته التي لا تخطئها الحواس،، يتحسس بكلماته كل الاتجاهات، ولا يعبأ بكل الموجود، ليقينه بقدرته على إعادة صنع الحياة حسب مواصفات جنونه.

    آه سيدي، من أي الأبواب ولجت؟ ولا أحسبك طرقت بابا، هكذا تدخل وكأنك مالك المكان والزمان. قف وتريث، وترفق بقارورة عطر ترعبها الأيادي النزقة، ولا تأخذنَّك السادية مأخذا يجعلك لا تفكر إلا بالعطر الذي أراك تخطو حثيثا لتضوع به الأنحاء، فتنسى رقة القارورة، فما العطر دون قارورته؟ وما الشذى دون زهرته؟

     فلنبق أجنحة الأرواح منشورة في الأفق، تلتقي بتوائمها متى شاءت، ولننس أن على الأرض أقداما تدب، وأنفاسا تلهث. وأعدني إليّ، فأخيرا ذقت طعم فجيعة ألا أكون ذاتي، وألا أكون شيئا آخر.

     وبعد، فقد أيقنت أن الكتابة هي المستحيل الممكن، تنطلق متى شئت، وأمنعك عنها متى شئت، فقد لا تقرأ هذا، ولا أتمنى أن تقرأه، وإن سألتني ماذا سأفعل به إذن؟ سأقول: أشتهي أن أقرأه وأنت أمامي، تسمعني وتراني. ولا أظن أن شيئا كهذا سيحدث، فإلى الأقبية الرطبة في أدراج النسيان، والعنوان "نص كتب ليموت قبل أن يولد".

ألف باء تاء الشفافية

ألف باء تاء الشفافية
من وحي فبراير 2011م

لـ منى بنت حبراس السليمية

 

     يخطئ تماما من يظن أن الشفافية هي أن يراك الآخرون بكل ما فيك، كزجاجة تشف ما بداخلها، ومتى ما واريت شيئا عن الآخرين سلبوك هذه الميزة، تماما مثلما أن حرية التعبير ليست أن تقول كل ما تريد، وإنما أن تريد كل ما تقول، وقد لا تبدو لفظة (تريد) في سياقها الصحيح هنا، فلأستبدلها بشيء آخر.. فلأقل (مثلا) تؤمن!

     ولكني قررت أن أكتب هذه السطور ليس لأني (أومن)، بل لأني (أريد)؛ وعجبا من هذه المفارقة الصارخة حد التناقض. كان بإمكاني أن أدلس على القارئ وأنجر وراء شعاراتي بأني أومن بما سأقوله هنا، ولكني - ولأني شفافة تماما كالهواء - لابد أن أعترف بأني أريد. فما الذي أريده؟

     في الحق أن الأزمة الحالية التي تلهب المنطقة كلها هي أزمة (أريد)، وأحسب أنه لابد لمجامع اللغة العربية أن تضع في حسبانها المحمولات الجديدة التي يشحنها الشارع في هذه الكلمة من وحي اضطراباته، فقد عرفنا من قبل أن القول (أريد كذا) يعني – بعيدا عن دقة قواميس اللغة – : (أسعى إلى، وأطمح لـ)، مع الانتباه إلى البعد الزمني الذي يستغرقه تنفيذ هذا المسعى وذاك المطمح، بيد أننا الآن في إطار لفظة تحاول كسر المدى الزمني للمفهوم القديم - أو الذي غدا قديما - فأصبح الفعل أريد بمعنى (أعطني فورا)! وهنا يتكشف بعد آخر، وهو أنها لم تعد متعلقة بصاحبها فقط، فيفعل ما يريد، وإنما متعلقة بالآخر الذي يعطي، ومتى ما لم يعط، فإن صاحبها (يريد ....)، على غرار (الشعب يريد....)!

     ولكن الطريف في كل ذلك، أننا دخلنا سباقات من نوع (أريد) ونحن لا ندري، نعيها فقط بمدى تحقق نتيجتها، ومن لم يكن في أجندته إرادات معينة قبل انطلاق هذا الماراثون، راح يفتش عنها حتى لا يفوته السباق، ومع ذلك هل نقول إنه سباق غير محمود؟

     إنه السباق الجميل بعد كل شيء، فهل تخيل أحد يوما أن يتاح له أن يعرض قائمة من نوع (أريد) ويجد من يستمع إليه؟ إنه وعي التعبير ووعي الإنصات في آن معا، فإذا كنا نُكبِرُ حرية التعبير في مكان ما، فعلينا أن نقدس ثقافة الإنصات في المكان نفسه؛ لأن التعبير لا يستلزم شططا ولا يكبد صاحبه عناء ولا يستلزم تحملا، وإنما هو عملية تفريغية موجهة يطلبها الجميع، أشبه بممارسة حقه في الأكل والشرب، بيد أن الإنصات شأن آخر، يحمل معاني الصبر، وطول البال، وسعة الصدر، والحلم، و، و، و، مما لا قبل لكل ذي أذنين به.

فمن السهل أن نكون كلنا معبرين، ولكننا لن نكون منصتين تماما؛ فألف ألف تحية لمن قرأ، ولمن أنصت، ليس لهذه السطور وحسب، ولكن لموجة (أريد) التي تجتاح الشارع!

"الشيخ مرشد".. في حضرة غيابه

"الشيخ مرشد" .. في حضرة غيابه

منى بنت حبراس السليمية

 

     مع نداء الصلاة،، يأتي نبأ موته فجرا على لسان أمي الباكية وقد اختلطت حروفها بفاجعة رحيله، فالموت كائنٌ لا يأبه بالمقدمات التي تتكفل بتخفيف وطأة الألم، يزور دون أن يستأذن القلوب متخطفا من يشعرنا وجودهم بأننا ما نزال على قيد الحياة، هكذا يرحل عنا الشيخ مرشد الخصيبي، ليبقى لساني معلقا ببيتين من شعره قالهما منذ ما يزيد على أربعة أعوام:

هذي ســــمائلُ عاليها ودانيهـــــا       ترثـــــــــي أديبًا لها قد كان شاديها

هذي سمائلُ من حزنٍ بها اتشحتْ      ثوبَ الســــــــوادِ فسودٌ كلُّ ما فيهـا[1]

     عجبا .. كيف أسعفتني أبياته لأنعيه لنفسي فأعزيها، تلك الأبيات التي أحتفظ بها مكتوبة بخطه ومسجلة بصوته، التي كانت لفرط الحزن الذي اختزنتْه لا أستطيع سماعها، ولكني اليوم هرعت إليها بعد أربعة أعوام، فالألم وحده يداوي الألم، وهو المعزَّى فيه والمعزي.

     عرفت الشيخ مرشد الخصيبي والدا رحيما، مثلما عرفتُه أديبا محركا لكوامن الشعر فيمن حوله، فلا يبخل على من يتوسم فيهم الموهبة بتشجيعه ونصحه وإرشاده، حريصا على الشعر وأهله، وهو إذ ذاك صاحب إنتاج غزير، وحضور ملازم للمجالس الأدبية بشخصيته الهادئة وتفكيره المتزن، ليرحل مخلفا بَصْمتَه ليس على الصعيد الأدبي وحسب؛ فلمواقفه الإنسانية النبيلة حَفرٌ في عمق النفس لا يزول.

    كما للشيخ دور في توثيق قصائد مقروءة بأصوات أصحابها من شعراء سمائل منذ ما يزيد على أربعين عاما، قرأوها بألحان شجية تسيل عذوبة وصفاء، وقد تخطفهم الموت جلُّهم، ليوثق المسموع (النادر) بعدما جمعها في شريط واحد، فيحفظ بذلك تراثا شعريا تجاوز المكتوب إلى حدود المنطوق، ليقول مقدما القصائد المسجلة:

يعيش الصوتُ في التسجيـــل دهرا        وصاحبـــُـــه رميــــمٌ في التـــــــراب

      وكم كانت سعادته غامرة بتحويل التسجيل الذي قام به من شريطه التقليدي إلى أشرطة (سي دي)، إذ سيتاح له أخيرا أن يستمع إلى ما جمعه منذ عقود بسهولة عبر جهاز سيارته الحديث .. ولكن موته لم يسعفني لأعطيه نسخته منها!

    فهل نشيّعك اليوم يا شيخنا؟

    إنَّنا نشيع فيك رجلا أحبه الشعرُ قبل أن يحبَّ الشعر، ونشيعك أبا استظل بظل أبوته كلُّ من عرفه، فلا نعزي فيك معاذا؛ فكلنا اليوم معاذ. وعزاؤنا فيك بأن:

لولا التأسي بأن الموت ذا قدر         فكل نفس وكأس الموت يسقيها[2]

     ولسنا نملك غير أن نختم بما ختمت به، لنردد صداك:

لك العزاء أيا فيحا سمائل في         أديبنا إذ توارى عن نواحيهـــــا

والله نسأله رحمى ومغفــــرة         لمن غدا اليوم في ترب يواريها

وتلطفنّ به فضلا وتوسعــــه         في جنةٍ مقعـــــدا صدقا له فيها

وتختمنَّ لنا يا رب خاتمــــة         بالخير أعمارنا إن شئت تطويها

     هكذا شئتَ لرثائك أن يكون، ولسنا بعدك سوى بعضِك، فلتصفح إذ لم نجد غير عزائِك عزاءً..

    رحمك المولى وغفر لك، ونسأله تعالى أن يمنَّ عليك بفضله ويوسعك في الجنة مقعد صدق لك فيها.

20 من أكتوبر 2012م
ـــــــــــــــــ
[1] قالها رحمه الله ضمن قصيدة في رثاء والدي الشاعر/ حبراس بن شبيط السمائلي الذي وافته المنية في يوم 25 أغسطس 2008م – رحمة الله عليهما.

[2] من قصيدة الرثاء نفسها.

للانتقال حكايات مضيئة

للانتقال حكايات مضيئة

لـ منى بنت حبراس السليمية

 

 كنت دائما أتخيل الإحساس الذي يشعر به المرء حال انتقاله للسكنى في بيت جديد، ولأنني مذ ولدت وفتحت عيني في هذه الحياة لم نستبدل ببيتنا بيتا آخر، فقد كانت الرغبة ملحة في تجربة الإحساس الذي طالما تخيلته ممتعا ولذيذا، وتخيلتني أبقى شهرا كاملا أحوم بين مرافق البيت الجديد جيئة وذهابا، لأصدق بأنني أعيش الواقع لا الحلم.

ولأن شيئا من ذلك لم يحدث، ولا أظن أنه سيحدث في يوم ما، فقد كنت أسألهم - ولمَّا أزل في عمري الطفولي - لمَ لا ننتقل إلى بيت جديد كما يفعل جيراننا، وصديقاتي اللائي لم تصمت ألسنتهن عن سرد حكايات البيت الجديد وأثاثه ومقتنياته، وسرعان ما يُردُّ عليّ بأن بيتنا جديد أيضا، وأننا انتقلنا للسكن فيه مذ كان عمري سبعة أشهر فقط!

فيا للحدث الجديد الذي فاتني بغتة إذن، رغم أن جهاز البصمة أكد وجود إبهامي الصغير في ذلك اليوم المشهود الذي لم أشهده! وليس بالمقدور إعادته ولا محاولة عيشه من جديد، ولكن عشرين عاما أخرى أهدتني الإحساس الذي تمنيت، فها هي وزارة التعليم العالي تنتقل إلى مبناها بمرتفعات المطار لتهديني الفرح الذي تمنيته عمرا، فأحسست بالطفولة المفقودة تتلبسني فجأة، فرُحت أقول للموظفات معي إن هذه أجمل أيام العمر في هذه الوزارة! ولحظتُ استغراب بعضهن من انفعالي المبالغ فيه، ولكن ذلك لم يكن ليثنيني عن التعبير عن تلك السعادة، التي لم أتورع معها عن التجوال حيث المكاتب التي ليست لي، ولا ينبغي لغير حاملي بطاقات الدخول إليها الوجود هناك! فللطفلة داخلي حقٌ ولابد أن أؤديه!

     ولكن بدا أيضا أن الانتقال يكشف عن بعض الهدايا غير المقصودة، ففي اليوم الأخير في مبنى الوزارة بروي، وجدت على طاولة مكتبي كتابا عنوانه "السكون المتحرك" في الجزء الأول منه، فهرعت أقلب صفحاته فوجدته كتابا نقديا في الشعر البحريني، يا للهدية الساحرة التي كادت تختطفني لتسلمني للصفحات التي لا تنفك تثير فيَّ تلك الرغبة المجنونة في اعتزال العالم في حضرة الكتاب! ولكن من هذا الذي وضع الكتاب هنا، فمن المؤكد أنه يقصد تماما وضعه فوق طاولتي؛ فقد علم بعلاقتي بالنقد الأدبي حتما، ولكن أين إهداؤه؟ وأين اسمه؟ قلبت الصفحات مجددا علِّي أعثر على قصاصة صغيرة بقلبه أو - إن بالغت في التفاؤل الرومانسي – وردة حمراء مدعوسة بين صفحات الكتاب الضخم!

     ولكني لم أعثر على شيء من ذلك، فقد بدا أنها هدية غير مقصودة، تسبب فيها الانتقال لمبنى الوزارة الجديد الذي جعل الموظفين "يرقطون" حاجياتهم الخاصة وعزلها عن تلك التي لها صلة بالعمل، فوجد أحدهم الكتاب فائضا عن حاجته، فآثر أن يضعه على طاولتي، فعلى الأقل سيضمن قارئا لكتاب كان محتملا أن يؤول إلى سلة المهملات كمعظم الكتب في عالمنا الجميل، فألف شكر لواضعه بعد كل شيء!

     وبعد أن ارتحت لهذا الخاطر الذي فسر لي وجود "السكون المتحرك"، وجدتني أتفاءل بعام جديد بدت ملامحه أكثر جمالا بمقدمات سعيدة، ليس الانتقال إلى المبنى الجديد أوحدها، وليس كتاب "السكون المتحرك" ثانيها، بل لأن العام 2011م غادرنا بإنجازات جميلة، ولأن خطط العام القادم مازالت تحتفي بجديدها الذي ورثته من سلفه، ليمتد الفرح باتجاه المستقبل أياما أخرى على الأقل، ففي الأيام القادمة أشياء مازالت لم تبح بها غيمات السماء التي أراها متمسكة بصفحة الأفق.

يناير 2012