السبت، 10 مايو 2014

ألف باء تاء الشفافية

ألف باء تاء الشفافية
من وحي فبراير 2011م

لـ منى بنت حبراس السليمية

 

     يخطئ تماما من يظن أن الشفافية هي أن يراك الآخرون بكل ما فيك، كزجاجة تشف ما بداخلها، ومتى ما واريت شيئا عن الآخرين سلبوك هذه الميزة، تماما مثلما أن حرية التعبير ليست أن تقول كل ما تريد، وإنما أن تريد كل ما تقول، وقد لا تبدو لفظة (تريد) في سياقها الصحيح هنا، فلأستبدلها بشيء آخر.. فلأقل (مثلا) تؤمن!

     ولكني قررت أن أكتب هذه السطور ليس لأني (أومن)، بل لأني (أريد)؛ وعجبا من هذه المفارقة الصارخة حد التناقض. كان بإمكاني أن أدلس على القارئ وأنجر وراء شعاراتي بأني أومن بما سأقوله هنا، ولكني - ولأني شفافة تماما كالهواء - لابد أن أعترف بأني أريد. فما الذي أريده؟

     في الحق أن الأزمة الحالية التي تلهب المنطقة كلها هي أزمة (أريد)، وأحسب أنه لابد لمجامع اللغة العربية أن تضع في حسبانها المحمولات الجديدة التي يشحنها الشارع في هذه الكلمة من وحي اضطراباته، فقد عرفنا من قبل أن القول (أريد كذا) يعني – بعيدا عن دقة قواميس اللغة – : (أسعى إلى، وأطمح لـ)، مع الانتباه إلى البعد الزمني الذي يستغرقه تنفيذ هذا المسعى وذاك المطمح، بيد أننا الآن في إطار لفظة تحاول كسر المدى الزمني للمفهوم القديم - أو الذي غدا قديما - فأصبح الفعل أريد بمعنى (أعطني فورا)! وهنا يتكشف بعد آخر، وهو أنها لم تعد متعلقة بصاحبها فقط، فيفعل ما يريد، وإنما متعلقة بالآخر الذي يعطي، ومتى ما لم يعط، فإن صاحبها (يريد ....)، على غرار (الشعب يريد....)!

     ولكن الطريف في كل ذلك، أننا دخلنا سباقات من نوع (أريد) ونحن لا ندري، نعيها فقط بمدى تحقق نتيجتها، ومن لم يكن في أجندته إرادات معينة قبل انطلاق هذا الماراثون، راح يفتش عنها حتى لا يفوته السباق، ومع ذلك هل نقول إنه سباق غير محمود؟

     إنه السباق الجميل بعد كل شيء، فهل تخيل أحد يوما أن يتاح له أن يعرض قائمة من نوع (أريد) ويجد من يستمع إليه؟ إنه وعي التعبير ووعي الإنصات في آن معا، فإذا كنا نُكبِرُ حرية التعبير في مكان ما، فعلينا أن نقدس ثقافة الإنصات في المكان نفسه؛ لأن التعبير لا يستلزم شططا ولا يكبد صاحبه عناء ولا يستلزم تحملا، وإنما هو عملية تفريغية موجهة يطلبها الجميع، أشبه بممارسة حقه في الأكل والشرب، بيد أن الإنصات شأن آخر، يحمل معاني الصبر، وطول البال، وسعة الصدر، والحلم، و، و، و، مما لا قبل لكل ذي أذنين به.

فمن السهل أن نكون كلنا معبرين، ولكننا لن نكون منصتين تماما؛ فألف ألف تحية لمن قرأ، ولمن أنصت، ليس لهذه السطور وحسب، ولكن لموجة (أريد) التي تجتاح الشارع!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق