جنون
لـ منى بنت حبراس السليمية
أحتشد كلي أمام لوحة المفاتيح محاولة كتابة نص لم أكتبه فيما سبق لي من عمر، هكذا تصب فيَِّ الأحاسيس كلمات تتوه عن النظام الذي ألفته جميع النصوص في الوجود. في تلك الليلة كنت أترقبك غواية تهوي على أرضي دون استدعاء، فيتلبسني الخوف من احتمال مفتوح على المدى، وغاية وكدي أن أخرج من حربك الضروس بأقل الخسارات، رغم أني لم أومن قط بأن ثمة خسارات صغيرة، فإما أن أكون رابحة معك، وإما أن أكون رابحة معك، هكذا رسمت النهاية بيننا بمنطق ساذج.
بيد أن صوتك المجنون زلزل ذاتي، عذبا كان، وظلمتك الشفيفة تجيد رسم عبثية الأشياء من حولي ومن حولك، وكأن الطقوس تصنعها وحدك على مقاسك مفترضا أنها على مقاس غيرك أيضا دون أن تكلف نفسك عناء استشارته.
هكذا قررت، وهكذا كان، وعجبي .. أني توقعت جنونك الكاسح ولم أتجنبه. ولم أهرب منه. وتقول لي "أتتركيني؟"
كيف لا أتركك وأنت تسن سكاكين ساديتك لتقتات ليلتك علي؟ صيرتني فجأة مائدة جنون تستحضر عليها كل مؤجلاتك ولا تستثني منها شيئا. هذا ما لم أتخيله قط: أن أكون مائدة لجنونك، فكان كافيا لهذا الخاطر أن يفتت أسطورة ذاتي، ويدحرجني على أقسى الصخور الناتئة في جبال الحجر الشرقي من عُمان.
كيف تعرضت لك بأكبر مساحاتي التي أعرفها دون أن أحس بنذر الفاجعة؟ وكيف لساديتك المغرورة أن تعربد في نفسي بأكبر ممكنات السخاء؟ وكأنك لفرط ما أدمنت الجنون لا تمنح الجديد شيئا من قداسة؟ رويدك سيدي، كفاك عبثا، فلابد لدروسي أن تبلغ هدفك، ولابد لمعزوفتي أن تلامس شغافك، وهاك أول ممكنات بوحي:
عندما استقبلتْ مسامات روحي ألحان شجنك، تغلغلتَ في أعمق نقطة عرفها الوجدان، ورحتَ تنحت عمرا جديدا من ركام السنين الحبلى بأهوال الانتظار، وترتق ثغرات الغياب بنبل حضورك الطافح في الضمير، فبعثت الأنثى الشائخة صبية في منتصف العشرين. هكذا قررت دون أن تستأذنني أيضا: أن تجعل من الستة والعشرين خريفا، ستة وعشرين جناحا على ظهر فراشة، هكذا الأنثى عندما تفتح بوابات الفرح على عالمها الصغير لا تصير إلا فراشة، ملّكتها واحدا، وأمسكت بالخمسة والعشرين جناحا الأخرى خيولا تركض على وقع يديك شدا وإرخاء. يا لساديتك العذبة.
وتسألني: أليست سادية لذيذة؟ لذيذة يا سيدي متى ما كانت الروح معراجها، دون أن ترتطم بالجسد يبعثرها في شتات الدركات الأرضية، لذيذة بتعاطيها مع المطلق، ومتعالية على فنائية الجسد.
وبعد حين..
ستتراقص السنونوات جذلى على سحر طلتك،، جنة أخرى تشرع الأبواب إليك، فتهدي القلب فرحا بكائن جميل لا يتكرر،، يجيد كل شيء ولا يعجزه شيء،، قاس بصخب طلته التي لا تخطئها الحواس،، يتحسس بكلماته كل الاتجاهات، ولا يعبأ بكل الموجود، ليقينه بقدرته على إعادة صنع الحياة حسب مواصفات جنونه.
آه سيدي، من أي الأبواب ولجت؟ ولا أحسبك طرقت بابا، هكذا تدخل وكأنك مالك المكان والزمان. قف وتريث، وترفق بقارورة عطر ترعبها الأيادي النزقة، ولا تأخذنَّك السادية مأخذا يجعلك لا تفكر إلا بالعطر الذي أراك تخطو حثيثا لتضوع به الأنحاء، فتنسى رقة القارورة، فما العطر دون قارورته؟ وما الشذى دون زهرته؟
فلنبق أجنحة الأرواح منشورة في الأفق، تلتقي بتوائمها متى شاءت، ولننس أن على الأرض أقداما تدب، وأنفاسا تلهث. وأعدني إليّ، فأخيرا ذقت طعم فجيعة ألا أكون ذاتي، وألا أكون شيئا آخر.
وبعد، فقد أيقنت أن الكتابة هي المستحيل الممكن، تنطلق متى شئت، وأمنعك عنها متى شئت، فقد لا تقرأ هذا، ولا أتمنى أن تقرأه، وإن سألتني ماذا سأفعل به إذن؟ سأقول: أشتهي أن أقرأه وأنت أمامي، تسمعني وتراني. ولا أظن أن شيئا كهذا سيحدث، فإلى الأقبية الرطبة في أدراج النسيان، والعنوان "نص كتب ليموت قبل أن يولد".
لم أفهم، والآن أفهم. كأنك أنا في ماض ومستقبل.
ردحذفآلمتني هذه الكلمات سامحك الله. سنحاسب يوماً على ما اقترفناه أو سمحنا به ونحن نعلم قدرتنا على تجنبه أو تجنيبه للآخرين.
ردحذفظلّي بخير يا منى. ما نحن الا بشر.