الخميس، 21 ديسمبر 2017

سخرية

كنت دائما قريبة من الموت. قريبة بما يكفي لأن أتيقن من أن الحياة ليست في يدنا، ليست بمستطاعنا، ليست من حقنا.

الحياة التي يطل من عيونها الموت ساخرا لا تستحق أن تعاش. فليكن الموت المباشر، السريع والمباغت، لأنني لا أحتمل هذه السخرية الفجة، حتى أني سألت الله بخشوع أن أموت موتا سريعا؛ لأن الموت البطيء ليس في قدرتي. تكفيني أقساط الحياة، ولا أريد أن أدفع للموت أقساطا أخرى.

فكرت بالموت لدرجة أنني فكرت فيمن سيرث بيتي، أرضي، سيارتي، صالتي، غرفتي في البيت العود، مكتبتي، موقف سيارتي. فكرت في كل التفاصيل. ذهبت بعيدا وتألمت لأنني قد أموت قبل أن أنهي دراستي، قبل أن أنجز مشروعي الخاص، قبل أن أصبح أما. هذه الأخيرة جعلتني أنتشي، لأنني لن أكون سببا في ميلاد روح ينتظرها الموت.

تلعب الحياة والموت معنا لعبة الغميضة، يبحثان عنا معصوبَي العينين، وكلاهما ليس جديرا بنا، كلاهما منزوع الأهلية والإدراك، ووحدنا نعرف أنهما يعبثان معنا، ورغم ذلك نجدنا مرغمين على الاختباء والهرب ليس بداعي مشاركتهما اللعب، ولكن لأن المخرج منهما مفقود، ولا خيار ثالث يمكن أن ينهي لعبتهما السادية بخسارتهما معا.

منى بنت حبراس السليمية

الفتاة التي عشقت كرة القدم

الفتاة التي عشقت كرة القدم

                                                                                                                        الانحياز إلى الشغف بطولة

تنتعل حذاءها كل عصر، وتمضي بخطواتها الصغيرة المتحفزة تجاه الساحة المشتركة خلف بيت الجيران. مع الوقت ما عاد الفتية يستغربون حضورها وحيدة كل يوم، وربما اقتنعوا أنهم بحاجة إلى جمهور حتى وإن كان مجرد طفلة صغيرة وحيدة. يرتب لها ابن الجيران (طابوقة) لتجلس عليها قبل بدء المباراة، ثم أصبح يأتمنها على دشداشته و(كمته) بعد أن يخلعهما مبقيا على قميصه وشورته القصير.

تحرص على الحضور يوميا باستثناء أيام قلائل ثقيلة يقرر فيها الفتية تبديل اللعب، والاستعاضة عنه بالركض لكيلومترات خارج الحي. يقتلها هذا الانحراف وخيانة المستطيل الأغبر، الذي يضطرها لترك طابوقتها.

كبرت، وتجرأت بعد أعوام على الوقوف أمام مرمى يحدُّه (قوطِيّا نيدو)، عارضة على اللاعبين فكرة أن تكون حارسا لشوط واحد فقط، بعد أن عقدت طرف دشداشتها في وسطها كاشفة عن سروالها (التيدي) العريض. تعرف الآن أن ثمة ما كان يربي لديهم الإحساس بعدم غرابة طلبها. حضورها اليومي وصرخاتها المشجّعة جعلهم يوافقون على طلبها مكافأةً على لعبها دور الجمهور الوحيد على الدوام. وافقوا دون أن يتوقعوا الكثير بعد جدال استغرق وقتا يرميها كل فريق لتلعب في فريق خصمه. كانت ترضية وردا للجميل وحسب، ولكن لا يجب أن تكون نظير خسارة يتكبدها أحد الفريقين دون الآخر.

اخترقت كرات الخصم مرماها أكثر من مرة. لا شيء سيجعل منها حارس مرمى في فرصة طارئة ووحيدة. كانت تدرك أن الحدث لن يتكرر مجددا، ولكن تسديدة قذف بها أحدهم في زاوية ليست بعيدة عن امتداد يدها صدفة أكثر منها قصدا، أوجدت لها فرصة في الشوط الثاني.

في الأيام التالية رضيت بأن تكون حارس احتياط، فعلى الأقل أصبحت لاعبا معترفا به، وضمن دائرة الطلب وإن في ساعة الضرورة وحسب.

كبرت الفتاة، وصار خروجها مع الأولاد عصر كل يوم عيبا لا تطيقه أمها، فلم تحتج جهدا لتقنعها بأن هذا (عيب) حتى امتنعت. وصارت تعوّض اشتياقها للمستطيل الأغبر بمتابعة الكابتن ماجد ومباريات يحدث أن يقطع تلفزيون عمان بثه من أجلها.

مع الوقت تحوّل شغفها من المستطيل إلى (فكرة) المستطيل، والفاعلين فيه، وعلى محيطه، وزواياه، ومدرجاته الملتهبة والفارغة، والراوي الذي يسرد كل ما يحدث طوال 90 دقيقة أو أكثر. ومع انتعاش القنوات الرياضية، اكتشفت في العام 2004 تحديدا (إبان بطولة كأس آسيا في الصين) دهشة ما يسبق المباراة وما بعدها. تابعت بحرص تحليل كل مباراة، حتى شغفت بهذا العالم الذي يبدأ ولا ينتهي بإطلاق صافرة الحكم معلنا النهاية.

تستطيع الآن أن تلخص رؤيتها كالآتي: ليست المباراة سوى نص تدور أحداثه في مستطيل أخضر لمدة 90 دقيقة أو يزيد، يتقاسم بطولته 22 لاعبا من فريقين، ويروي أحداثه معلق رياضي يتفاوت مستوى سرده: بضمير المتكلم إذا كان أحدُ الفريقين منتخبَ بلاده، وبلغة أقرب إلى الراوي العليم عندما يكون معلقا محايدا. ويتلقى النص مستويان من الجمهور: داخلي عبر مدرجات، وخارجي يستقبله عبر قنوات يحدث أن تكون مشفرة غالبا. أما أحداثه فتأخذ خطين: خط عام يحدده شوطان تتوسطهما استراحة، أما الخط الأهم فهو خط التفاصيل: خطة اللعب، والتكتيك، والبدلاء، والأهداف، والبطاقات الحمراء والصفراء، وركلات الجزاء، وأحيانا الشجار داخل المستطيل أو خارجه.

في متابعة المباراة/ الرواية، تجد الفتاة متعة بالغة لا تضاهيها إلا متعة قراءة رواية جميلة، تتسرب نشوتها أو حسرتها أو رتابتها إلى روحها كما تفعل الروايات.

طوال سني حياتها، أخلصت للّعب وحده. لم تكن تعنيها الفرق كثيرا، فلم تستطع أن تعشق ناديا أو فريقا وتتعصب له، كل ما استطاعته أن تخلص لروح كرة القدم التي عشقتها مذ كانت تتسلل بحذائها الصغير إلى الساحة الخلفية لبيت الجيران لتتابع مباراة حية على مستطيل أغبر بين أخوتها وأولاد الجيران.

آمنت بأن عشق كرة القدم حق مشترك للجنسين، مشترك إلى الدرجة التي تغيظها فيها شوفينية الذكور في استنكارهم لاهتمام الفتيات بهذا العالم المجنون. قبل أيام كانت تتساءل في تويتر: لماذا تهمل قناة عمان الرياضية بيانات التوقيت والأهداف وتاريخ المباراة عندما يحدث أن تعيد مباراة قديمة؟ (كانت القناة وقتها تعيد مباراة من خليجي 17 بين منتخبي عمان والإمارات). تتذكر هذه المباراة جيدا، وتحفظ تفاصيلها رغم أنها حدثت قبل 13 عاما في قطر. يرد أحدهم ضاحكا وربما ساخرا: "شكلك أول مرة تتابعي مباراة" (خاتما رسالته بوجه ضاحك تطفر دموعه من محجريهما)!!

لم تكن تخبئ أحلاما كبيرة داخل تجويف المستديرة المطاطية بعد كل شيء. ولكن حبها بقي منقوصا على الدوام. ولم يستطع حوش بيتهم الكبير – الذي ركضت فيه عمرا خلف الكرة التي اشترتها منذ سنوات ولا تزال صالحة حتى الآن – ولا شاشات القنوات الرياضية بمبارياتها المتاحة والمشفرة أن يعوضا غياب الفريق الذي لا تكتمل الرواية إلا به.

ستتعلم لاحقا كيف تربي حلم شراء قطعة أرض مستطيلة تزرعها بالأخضر، وترسم فيها خطوط ملعبها بدقة، وتنصب على ضلعيه الأبعدين شباكين حقيقيين لا علاقة لهما بقوطيي النيدو في الساحة الخلفية لبيت الجيران. ولا تنسى أن تسيّج ملعبها بسور إسمنتي يحفظه من عيون الفضوليين. ستلتقي فيه مع فريق فتيات يحملن شغفها يوما ما بعيدا عن الإعلام والمتلصصين. فقد علمت أن لا شيء في مجتمعنا يُجهض الأحلام في مهدها كانتشار خبرها، وليس فريق الدراجات النسائي بسمائل عن ذاكرتها ببعيد!

منى بنت حبراس السليمية

الأحد، 29 أكتوبر 2017

ظل على الجدار

ظل على الجدار

منى بنت حبراس السليمية

كانت تظن أن الجمال شيء واحد. يكفي أن تلبس هي وأختها ثيابا جديدة لتكونا جميلتين. يكفي أن تسرّح لهما عمتهما شعرهما بشرائط بيضاء تطير في الهواء لتغدوا حمامتين.

لم يدر في خلدها أن تشابههما في اللباس وتسريحة الشعر يجعلهما اثنتين لا واحدة. فضلا عن طولهما المتقارب وبنيتهما الجسمانية المتماثلة التي أذابت أحد عشر شهرا فصلت بين ولادتيهما.

تذكر جيدا يوم جلست في عرس ابنة خالتها في القرية إلى جوار أختها في حوش بيت جدها القديم، وكشّاف الإنارة الوحيد يرسم أشكال الحضور مهتزة على السور المحيط بالحوش. كانتا تلبسان ثيابهما العمانية من الكتان الأخضر، وشرائط شعرهما خضراء هذه المرة على خلاف شرائط المدرسة البيضاء على الدوام. لا شيء مختلف بينهما. كانتا جميلتين؛ فقد ارتدتا أجمل ما في خزانتهما المشتركة، ولبستا خاتميهما اللذين يحملان اللؤلؤة الزجاجية نفسها، وانتعلتا الأحذية المتشابهة التي اشتراها لهما أبوهما من مسقط. كانتا متشابهتين تماما؛ حتى جاء الصوت هامسا خلفهما:

-         ثيابهما جميلة.
-         وربطات شعرهما أيضا. كأنهما توأم.
-         صحيح، ولكن تلك التي بقرب الجدار أجمل!

أرادت أن تلتفت إلى أختها التي انعكس ظل شريطتها على الجدار؛ لتتأكد من أنها سمعت ما سمعته، ولكن أختها بدت لها لأول مرة شخصا آخر غيرها، وقد زادهما اللباس الواحد والشرائط المتشابهة اختلافا وغربة.

غالبت كرة كبيرة من الدمع أفسدت عليها الرؤية، ولكن دبوسا مغروسا في طرف البساط التمع فجأة فأطلق لها حرية البكاء. جرحت به يدها فسال الدم، والدمع، وأشياء أخر ...

لحظة جاء "باكر"

لحظة جاء "باكر"

منى بنت حبراس السليمية

خاطر مفاجئ دفعنا أخواتي وأنا أن نتوجه إلى المزرعة. كنا نود أن نُري صديقتينا العراقيتين "شذا" و"هدى" مكانا شهد طفولتنا وتربينا فيه حتى 2010. متناسيات عمدا أنها بيعت منذ سبع سنوات، وأننا طوال السنوات السبع لم نسلك طريق المزرعة ولو عن طريق الخطأ.

ولكننا اليوم سلكنا الطريق الطويل كأول عهدنا منذ اشترى أبي مزرعته في "السّحمية" في سنة 89، ولم نسلك طريق العوينة - الدسر (الأقصر) التي شُقت تاليا؛ على أمل أن ترى "شذا" و"هدى" في الطريق ما يسرهما مرورا بـ"الهصّاص" و"لزغ" قبل أن ننعطف يمينا عند تقاطع "لزغ" في اتجاه الشرق. ولكن الشوارع تغيرت، ولم نجد أنفسنا بعد حين إلا أمام شارع ينفرع إلى تحويلة ترابية بدت هينة وقصيرة بادئ الأمر. قدتُ فيها بصبر بالغ، وشوقٍ استيقظ فجأة لمكان ظننتني لن أعود إليه مجددا.

يطول الطريق، ويزيد إلحاح أختيّ بشاير وميمونة بضرورة العودة، عوضا عن الوصول إلى انسداد يضطرنا إليها بعد اجتياز مسافة يمكن تجنبها سلفا، ولكني مضيت بهن غير آبهة بنتيجة محتملة غير سارة، ولكن توجسي كان من احتمال آخر: أن نصل ونجد المزرعة مغلقة. أعلنت توجسي، ثم استدركت مطمئِنة بأنني لو وجدتها كذلك فسأتصل بيوسف الندابي – الذي اشترى قريبُه المزرعة – ليتصرف فندخل لمرة واحدة.

وبعد سير طويل أكل وقتا حسبناه لن ينتهي على الطريق الترابي، بلغنا تقاطع السحمية - نداب الذي تحفظه ذاكرتنا جيدا، في اتجاه سجن سمائل المركزي، الذي تقع المزرعة مقابله تماما. وصلنا، وكانت المزرعة مغلقة كما توقعنا، ولكن الذي لم نتوقعه أن تكون الشبكة معدومة هناك تماما!

أكل الإحباط قلبي؛ وضاع الأمل في واسطات يوسف - كما كنت أمني النفس - بعد كل هذا الصبر، ولا فرصة لاستراق نظر أكثر من رؤوس الأشجار من فوق السور.

سُوّرت المزرعة، ولم يبق أثر للسور الشبكي الذي كان في عهد أبي. حجب السور الجديد بداخله كل مشاهد الطفولة وذكرياتها.

إحباطي لم يكن أهون من إحباط "شذا" و"هدى"، الذي أخمّن أنه لسبب آخر؛ فقد صبرتا على طريق ترابي طويل من أجل غاية لا يعرفنها، وليس مهما ربما الوصول إليها.

وقبل أن أستدير سالكة طريق العودة أجر خيبتي، وأمنية طارئة لم تكتمل، غنمت صورة تخفي أكثر مما تكشف. داخل هذا السور كنا نقضي العيد:
-         بعيدة المزرعة باه. ما كان أحسن لو مشتريين مزرعة قريبة من المدرة؟
-         انتوا ما تحبوا المزرعة وتتحججوا.
-         نحبها باه بس بعيدة!
-         بتصبروا على بُعدها باكر!

جاء باكر وصبرنا على طريقها الطويل، طريقها المُلبس تحت الصيانة (أو الإنشاء ربما)، تحويلتها الترابية. صبرنا برغبة تختلف عن كل ما سبقها، ولكن بعدما أوصدت في وجوهنا أبوابها وما عاد إليها من سبيل.

٤ سبتمبر ٢٠١٧

صلالة ليست للأطفال دون الثامنة

"صلالة ليست للأطفال دون الثامنة"

منى بنت حبراس السليمية

عبارة يفهمها أولئك الذين ذهبوا إلى صلالة وبرفقتهم طفل أو أكثر دون الثامنة؛ لأن طفلا بهذا العمر قلما يعرف الطبيعة وفروقاتها، ويصعب أن تلفته خضرة الجبال وشلالات الوديان وعيون الماء ما لم تكن مصاحبة لما يشبه طفولته لهوا ولعبا. أما الطبيعة وحدها فلا تشكل له ضرورة ولا هاجسا، ويصبح سفره مع الكبار عذابا له ولهم.

مدينة يفترض أنها سياحية بلا خدمات ولا دورات مياه كما يليق تسعفه وتسعف أهله متى ما حانت حاجته الفسيولوجية لها، وإذا ما توفرت فهي أدني من أن يقال عنها دورات مياه (دورات مياه منتزه ضلكوت نموذجا).

لا شيء في صلالة لسياحة الأطفال، باستثناء ألعاب مركز البلدية الترفيهي أو إتين لاند الحديث، وفي مجملها ألعاب مكررة بلا اختلاف مدهش ولا جدة مميزة.

وإذا نظرنا خارج ذينك المكانين - إذا ما استثنينا مولات مدينة صلالة - فليس سوى الأكشاك التي تبيع ألعابا قديمة الفكرة. ورغم ذلك علينا ألا نستغرب تهافت الصغار عليها، فقط لأنها المتوفر الوحيد.

الخدمات في ظفار على البركة، بلا تنظيم ولا تنسيق. ومن يقدر من مواطنين ووافدين فبيدهم الخير. عشر سنوات مذ واظبت على زيارة صلالة سنويا. عشر مرات ولم يتغير شيء. الوضع كما هو: بائس ومتعب. ولا مواسٍ لكل هذا إلا الطبيعة وحدها.

في ظفار لا فضل لأحد إلا للطبيعة، ولولا كرمها لما عرفنا ظفار ولا عرفنا فقر خدماتها. ولا أعرف أية أولوية لدى وزارة السياحة إذا لم تكن محافظةً تستقطب مئات الآلاف في فصل الخريف!

حاولت جَهدي أن أوجد العذر لمستثمر لا يجد الأمر مجديا في بذل نقوده من أجل أشهر ثلاثة فقط من العام، ولكني لا أجده لوزارة لم توفر خدمات تحفظ كرامة الإنسان في قضاء حاجته.

صلالة 14 أغسطس 2017

لهاث

لهاث

منى بنت حبراس السليمية

ارتكبت في حياتي حماقات كثيرة، كلما فكرت فيها الآن أتساءل كيف تمت؟ وكيف طقت عليها صبرا! أولاها في ربيع ٢٠٠٧ عندما كنت أدرس دبلوم التأهيل التربوي (مرغمة) في جامعة السلطان قابوس. كان الأمر أشبه بتزجية وقت في انتظار أحد الحسنيين: التوظيف، أو قبولي في برنامج الماجستير في العام الذي يليه. ولكن الحياة تلعب معي لعبة ملء الفراغ بقسوة كلما فكرت أني أقوم بشيء لتزجية الوقت!
ففي الفصل نفسه قُبلت للعمل (بالقطعة) محاضرا زائرا لمادة الاتصال في اللغة العربية بالكلية التقنية بنزوى في فترة الظهر مرتين في الأسبوع. لا أعرف كيف ضبطت بهذه الطريقة: أنطلق باكرا من البيت إلى مدرسة مارية القبطية بسمائل لإعطاء دروس التربية العملية، ثم أنطلق بعدها مباشرة إلى نزوى لإلقاء محاضرة لطلاب من عمر ومرحلة مختلفين.
أهرول بعد المحاضرة مباشرة من نزوى إلى الخوض للحاق بمحاضرة القياس التربوي في الجامعة.
متى كنت آكل؟ في المسافة بين مسقط ونزوى في السيارة؛ فلا مجال للوقوف للغداء.
كل هذا ليس غريبا بعد على مجنونة مثلي، الغريب أن كل هذا يحدث وأنا لم أحصل على رخصة السياقة بعد؟
كيف وافق أخوتي وأبي (يرحمه الله) على مجاراة هذا الجنون وقطع المسافات المكوكية على ذلك النحو غير القابل للتكرار!

ولكن الغريبة الثانية أن الأمر تكرر فعلا:
في خريف ٢٠١٢ تحديدا، وافقت أن أكون استشاريا زائرا (هكذا يسمون المحاضر بالقطعة في البطاقة المؤقتة التي تمنح من الجامعة لأمثالنا) في الفترة المسائية أيضا في جامعة السلطان قابوس، في الوقت الذي وافقت فيه الوزارة على انخراطي في دورة لغة إنجليزية مكثفة في الكلية الحديثة. حدث الأمر كالتالي:

أخرج من العمل في روي (قبل أن تنتقل الوزارة إلى مبناها الجديد في مرتفعات المطار) هرولة إلى الخوض للحاق بمحاضرة الساعة الثانية ظهرا، ثم أخرج من هناك في الثالثة وخمس وثلاثين لألتحق بدروس اللغة في بوشر في الرابعة عصرا وحتى الثامنة مساء قبل أن أقفل عائدة إلى سمائل!

ما الذي كنت أريده من كل ذلك؟ ما عدت أدري. كنت مدفوعة برغبة في فعل كل شيء، والقبض على كل الفرص المؤقتة منها قبل الدائمة.

الآن، صرت أُرجع حالات الكسل الطويل التي تمر بي وغياب الرغبة في فعل شيء إلى تلك الفترة الصاخبة من حياتي. يحتاج المرء إلى عدم فعل شيء. للجلوس في مكان واحد، للصمت، للاشيء!

الخميس، 27 يوليو 2017

دكان

دكان
 
منى بنت حبراس السليمية
 
عندما كنت صغيرة أردت أن أفتح مشروعا يدر لي نقودا، فقررت أن أفتح دكان حلويات. كان رأس المال لا يتجاوز أربعة ريالات فقط. أذكرها جيدا. كانت كثيرة جدا. اشتريت بها كرتونا كاملا من حلوى "تولا"، وكرتون "بوب" ملوّن، وكرتون "شاكليت بو بقرة" وكيسة بطاطس عمان، وكرتون حلوى مصاصة.
اكتملت البضاعة، وبقي تحديد الموقع، فلم أجد مكانا أنسب من غرفة برج البيت. هناك هيأت المكان وصففت كراتيني وأحضرت صندوق مانجو للزوم الجلوس.
أصبح الدكان جاهزا ببضاعة لأول مرة بتلك الكمية. والآن جاء دور التسويق للمشروع وجلب الزبائن.
همستُ لأخوتي وأخواتي بأن دكانا صغيرا في بيتنا سيوفر عليهم عناء عبور الشارع؛ فقد أحضرتُ لهم بغيتهم إلى داخل البيت بكميات هائلة كما بدت في ذلك الوقت.
كان اليوم الأول مبهجا، ولكنه بقي خارج دائرة علم أمي حتى تلك اللحظة، إلى أن طار رضا الزبائن عن دكاني إلى بيت الجيران، فتقاطر الصغار إلى بيتنا بنقودهم البُنيّة المجعلكة.
في تلك اللحظة تنبهت أمي لخطر لم أعرف كنهه البتة. صعدتْ إليّ في دكاني الوليد في غرفة البرج حاملة "مْجَمْعة" في يدها، وهوت بها عليّ دون هوادة، وهي تردد: "تبيعي هاه؟! تبيعي؟!"
لا أعرف ما معنى سؤالها، ولكن عاصفة مْجَمْعتها على جسدي لم تهدأ إلا عندما رأتني أغرق في رعاف هو الأشد في حياتي كلها. رعاف لم يوقفه إلا ذهابها بي إلى المستشفى وسط صمت مطبق قام بيننا.
انقطع الرعاف، ولكن سياط سؤالها لم تنقطع حتى اللحظة: "تبيعي هاه؟! تبيعي؟"