الجمعة، 10 أغسطس 2018

دخان الكويت

دخان الكويت

منى بنت حبراس السليمية

كنت طفلة في السادسة من عمري، أترقب دخول المدرسة في صفي الأول، عندما حل الثاني من أغسطس من عام 1990م. في ذلك الوقت لم نكن نعرف من الأخبار غير ما تبثه نشرات أخبار تلفزيون سلطنة عمان؛ إذ لم تكن اللاقطات الهوائية قد عرفت طريقها إلى سطح منزلنا بعد، ولكني عشت الحدث كما ينبغي لطفلة ولدت في عائلة تولي متابعة الشأن السياسي اهتماما بالغا.

فهمت أن صدام غزا الكويت، وتابعت الأخبار مع عائلتي قسرا دون أن أفهم جل ما يدور أو يقال. ولكني أذكر أن نوعا من الأقمشة وجد طريقه إلى الأسواق من رحم الحدث. أخذ القماش اسم "دخان الكويت"، وما يزال شكله وألوانه وملمسه مدموغا بذاكرتي؛ كان مزيجا من المخمل والقطن، وألوانه لا تبرح الرمادي والأسود، وإن غادرتْهما فإلى تدرجات أخرى لا تفارق الدكنة. كانت المرة الأولى التي حفظتُ فيها ارتباط الموضة بالسياسة.

نجحت الموضة في إدخال اسم الكويت إلى معظم البيوت في عمان مطلع التسعينيات، حتى تلك البيوت التي لا تولي كبير اهتمام بالأحداث خارج حدود أسوارها، فسرى الاتفاق غير المعلن بجعل الكويت مادة تداول بصيغة تختلف عما تقدمه نشرات الأخبار في تلك المرحلة من تاريخ الخليج.

ولكن حرب الكويت لم تمر على عائلتنا مرورا عابرا، أو مجرد موضة زائلة؛ فقد أربك اسم أخي "صدام" ابن العامين حسابات العائلة، ودفع بأبي إلى تغييره ليكون "بشارا"، بيد أن الألسنة التي اعتادت اسم صدام، لم تكن طيعة في استجابتها للاسم الجديد، على خلاف موظفي الأحوال المدنية الذين لم يتطلب منهم تغييره أكثر من جرة قلم.

​الإرباك الذي أصاب عائلتنا لم يكن في اسم أخي صدام وحسب، ولكنه إرباك أدبي بنحو خاص، فقبل أعوام من الغزو كتب أبي قصيدته "بلاد الرافدين" على وقع طبول حرب الخليج الأولى، ومنها بيتان وُشِما في ذاكرتنا، نحن أطفاله، كأنشودة حربية تغذي مواطن الحماس في نفوسنا، يقول فيهما:
أيا صــــدامُ سر بهمُ مُجـِــدًّا    وألحقْ بالغزاةِ أجلَّ خطبِ
ودعْ جثثَ الأعادي كلَّ يومٍ     تُغطي كلَّ منحدرٍ وشِـعبِ

وضعتنا حرب الكويت في مواجهة مع أبيات حفظناها عن ظهر قلب، وأربكتنا كلماتها بين موقفين، وحربين، وشخص واحد!

بعد نهاية حرب الأشهر السبعة أعاد أبي اسم صدام إلى مكانه في شهادة الميلاد، دون أن يدري أنه قد يضطر مجددا - لو لم يفعل - إلى تغيير اسم بشار بعد عشرين عاما أخرى.


أغسطس 2018

بياض عرفة

بياضُ عَرَفة

منى بنت حبراس السليمية

تعلمتُ من أمي أسما العالي (لم تكن أمي حقيقة ولكن تعودنا أن نسبق أسماء النساء الكبيرات في الحارة بكلمة "أمي") تعلمتُ منها أن ليوم عرفة لونا أبيض. لم تقل لنا ذلك ولكنها كانت تفعله. تخطر في الحارة بثوبها الأبيض الناصع الذي تخيطه خاصا ليوم عرفة، وينسدل من قمة رأسها على بقية جسدها النحيل .

تدخل أمي أسما بيوت الحارة وتسأل عن الجميع، ولم يحدث أن سمعها أحد تعاتب هذه الجارة أو تلك على تقصيرها في رد الزيارة.

كنا نميز أمي أسما الجارة الشمالية عن أمي أسما الجارة الجنوبية بلقب العالي! فقد كان بيتها أول بيت في الحارة يبنى من طابقين في نهاية الثمانينيات، فيما بقية البيوت حوله من طابق واحد. وحتى بعدما أصبحت البيوت ترتفع طابقين، بقيت أمي أسما محتفظة بلقبها، ففي مرحلة لاحقة أصبح بيتها من ثلاثة طوابق كإصرار على الارتفاع الاستثنائي.

يروقني بيت أمي أسما بسجاده الأحمر الذي يغطي الدرجات الصاعدة بفضول من قلب الصالة إلى الأعلى. في الطابق العلوي من بيتها اكتشفتُ غرفة تحتشد بآلات رياضية متنوعة لم أفقه استخداماتها أو من الذي كان يستخدمها. كانت تلك الغرفة شفرة السر التي قادتني إليها خطوات الطفولة المتجرئة على الأبواب بعذر الشيطنة المغفورة سلفا، ثم ما نلبث أن نفقد امتيازاتها عندما نكبر بداعي الذوق والأدب. بقيت تلك الغرفة تشدني كفكرة لا تشبه أبدا ما يمكن أن تستوعبه بيوت سمائل في طفولتنا تلك.

في كل جيئة وذهاب تحمل أمي أسما غرضا تطويه في "ليسوها" على طريق عودتها من دكان "موهن"، الذي يتوسط بيوتنا جميعا ويلاصق بيتها، وتقول بحب دون أن نسألها: "اشتريت هذا لمعاذ من دكان موهن". "عليا طلبت هذا فخرجت لأشتريه لها". "أسيل اشتهت هذا وما هانت علي". "حازم يصيح باغي هذا". معاذ وعليا وأسيل وحازم هم أحفادها الذين تعشقهم، فوزّعت عشقهم علينا نحن بقية أطفال الحارة.

ظلت أمي أسما العالي شخصية غير مكتفى منها، فهي لا تطيل البقاء في مكان تحل فيه. خفيفة كالهواء يمرق في المكان ويمضي سريعا. ذكرياتي عنها في بيتنا لا تسجل هيئة جلوسها متناولة القهوة، أو مكوثها الطويل في حلقات الجارات عصرا في حوش هذا البيت أو ذاك. كانت امرأة تقيس جرعات الوقت التي توزعها، مهما تعددت لا تطول.

لم يصدّق أحد موتها قبل ما يزيد عن عشر سنوات؛ فقبل يومين فقط من ذلك الصباح رأيتها في بيت خالتي. ماتت سريعا ودون مقدمات. لم تكن حيويتها تشي بنيّة غياب مفاجئ حيث لا تعود. وارتبط عزاؤها في ذاكرتي بمدته القصيرة، على عكس ما دأبت عليه العادة بأن تستمر مجالس النساء حتى سبعة أيام. رُفع العزاء بعد ثلاثة أيام فقط، وعادت النسوة إلى شؤونهن.

موت أمي أسما العالي المباغت أفقدنا جدة لم تكن لنا. كانت لمعاذ وعليا وأسيل وحازم، ولكنها تركت فراغا يلوّنه بياض بقي رغم كل هذه السنوات يسطع في كل يوم عرفة كمساحة نادرة تدل عليها ظاهرا وباطنا.

عَرَفة 2018

منكير جدتي

منكير جدتي

منى بنت حبراس السليمية


لا أتذكر جدتي إلا بأظافرها المخضبة بالمنكير الأحمر! كنت أجلس قريبة منها عندما رحت أدير بين أصابعي قارورة المنكير الأحمر، ولا أعرف أي شيطان صغير عبث برأسي لأفكر بصبغ  أظافرها به.

بدأتُ بإبهام إصبع رجلها اليمنى العريض، ورحت ألاحظ تأثير دهنِه على تعابير وجهها. تغيّر شكل عينيها، ورفعت رأسها كمن يصيخ سمعا لشيء محسوس. لم تسألني ما الذي يحدث، حتى أتيت على آخر إصبع من قدمها الثانية.

سألتها "غاوي بيبيه؟". قالت " هيه جاني بارد" وسألتها إذا كانت تريد أن أدهن به أظافر يديها، فسارعتْ بمدهما. "بيبيه ما تحركيهن لين ييبسن". "نزين"

كل من رأى أظافرها لاحقا رماني بنظرة عتاب ومضى، حتى كان صباح اليوم التالي، عندما دخل أبي البيت ومعه اثنان من موظفي الكاتب بالعدل لأخذ بصمات جدتي - المُقْعدة البصيرة - على أوراق تتعلق بحصتها من تركة جدي.

لاحظ أبي أظافرها المخضبة بالأحمر ، بينما كان يهم بأخذ إبهامها ليلصقه بلوح الحبر!

كظم أبي غيظه لحين انصراف الضيوف، ثم رماني بنظرة عتب طويلة لم أر مثلها منه غير مرتين. مع الوقت استطعت تخمين ما كانت تقوله نظرته تلك، بيد أنني لست نادمة!

في الثلاثين من أغسطس، تحل الذكرى الثامنة عشرة لوفاة جدتي، وفي كل مرة لا تحضر في ذاكرتي إلا بأظافرها المخضبة بالأحمر وهي لا تدري.

عالمية الرواية العمانية .. سؤال الكتابة والزمن والتلقي

عالمية الرواية العمانية .. سؤال الكتابة والزمن والتلقي
منى بنت حبراس السليمية
جريدة عمان: 25 يوليو 2018م
بدا سؤال الاستطلاع الذي نشرته مجلة شرق غرب في عددها (يوليو ٢٠١٨) - وشاركتُ فيه بأجزاء من هذا المقال - عما يحول دون وصول الرواية العمانية إلى العالمية - رغم تحققها محليا ووفرة الإنتاج الروائي العماني في العقدين الأخيرين - بدا سؤالا في غاية السهولة، ولكن الحقيقة التي تكشفت تاليا على العكس من ذلك تماما؛ فقبل أن أخوض في أسباب عدم بلوغ الرواية العمانية مستوى العالمية، أجد من الضرورة بمكان أن نعرف ما الذي نعنيه بالعالمية، فما أخشاه أننا نتحدث عن شيء نختلف في تحديده، ومن ثم سنختلف بطبيعة الحال في الحديث عن كل شيء يليه في سياق هذا الموضوع.
هل تكمن العالمية في محض الترجمة إلى اللغات الأخرى، فيقال تُرجمت الرواية الفلانية إلى أكثر من لغة بصرف النظر عما إذا وجدت من يقرؤها بتلك اللغات أم لا؟ أو أن العالمية تكمن في نيل جائزة مهمة على مستوى أبعد من المحلية فتُختصر بذلك مسافات، على رواية أخرى أقل حظا أن تقطعها، ولا ضمانة للوصول؟ أو تراه المقصود بالعالمية أن تكون الرواية حاضرة في كل معارض الكتب بصرف النظر عن عدد النسخ التي تنفد، أو أخيرا: هو تقييم مواقع القراء وقوائم الـ bestseller؟
في ظني – ولست على يقين بعد – بأن العالمية هي أن تكون مقروءا في معظم جغرافيات العالم، وإن لم تكن مقروءا فمعروفا لدى مجموعة من القراء في كل بلد، وحيثما حللت تجد شخصا أو اثنين قرأوا لك أو عرفوا باسمك. ماركيز عالمي لأن الجهل باسمه جهل فاقع لا يُقبل من قارئ. هذه هي العالمية كما أظنها؛ عندما يكون الجهل بك عيبا لا يُغتفر.
هل يمكن والحال هذه أن نتكلم عن عالمية في الأدب العربي أو الرواية العربية فضلا عن الرواية العمانية؟ باستثناء أسماء عربية صرنا لا نجادل على عالميتها، بعضها بسبب جائزة عالمية (نجيب محفوظ)، وبعضها بسبب وجودها في الغرب واشتغالها من داخل النسيج الفكري الغربي لتضيف إليه أو تعارضه أو تحاوره (إدوارد سعيد)، أو لتراكم طويل في التجربة بحيث أصبحت تشكل مع الوقت علامة يصعب تجاوزها (أدونيس، عبد الفتاح كيليطو، عبد الكبير الخطيبي).
في موضوع عالمية الأدب هناك محاور مركزية لابد من الوقوف عندها، حتى يصبح التشخيص متجها نحو آلياتٍ وسبل لتحقيقها، ومن تلك المحاور:
- أن سؤال العالمية سؤال زمني؛ بمعنى أن الزمن كفيل به، فقد تتحقق عالمية رواية ما في وقت ليس هذا أوانه ولا بعد قرن من الزمان، وفي تاريخ الأدب أمثلة كثيرة.

- رغم أن الترجمة إلى اللغات الأخرى لا تحقق وحدها العالمية، ولكنها أساس وجسر مفضٍ إليها، وهنا لا أستطيع تجاهل إغراء الاستشهاد بمقولة كونديرا عندما قال مرة: "ظل رابليه موضع استخفاف مواطنيه، لم يفهمه أحد قط أفضل مما فهمه روسي: باختين؛ ولم يفهم أحد قط دوستويفسكي أفضل مما فهمه فرنسي: أندريه جيد؛ ولم يفهم أحد قط إبسُن أفضل مما فهمه إيرلندي: غ. ب. شاو؛ ولم يفهم أحد جيمس جويس أفضل مما فهمه نمساوي: هيرمان بروخ؛ والأهمية العالمية لجيل عظماء أميركا الشمالية، همنغواي وفوكنر ودوباس، أظهرها في المقام الأول كتاب فرنسيون".
الترجمة إلى اللغات الأخرى تقودني إلى القول بأن النص ينتقل أحيانا من المحلية إلى العالمية بفعل المصادفة، مصادفة قارئ من ثقافة أخرى وسياق آخر، يضع نصا ما في مقامه الذي لم يضعه فيه سياقه الوطني، لذلك فإن الحديث عن عدم جدوى الترجمة الذي يثار أحيانا؛ تحت حجة عدم نضوج التجربة، ليس في محله تماما. على الترجمة إلى اللغات الأخرى أن تنشط، فمن يدري أية مصادفة قد تجمع قارئا من أقاصي الأرض بنص عماني تغير خارطته التاريخية.
- الملحوظة السابقة تقود إلى أخرى لا تقل أهمية، وقد باتت تغزو أسماعنا من بعض القراء بأنهم لا يقرأون الأدب العماني، وخاصة الرواية العمانية، بل قد يثير موضوع ترجمة الرواية العمانية إلى اللغات الأجنبية سخريتهم، لكونها لا ترقى لجهد الترجمة، بل قد يقهقهون من طموح أن تكون عالمية أو حتى مجرد التفكير فيه، بيد أن كونديرا (أيضا) يطمئننا بأن هذه قاعدة في كل أدب وطني/ قومي، وليس على الآراء المحبّطة أن تكون عائقا أمام خطط الترجمة إلى اللغات الأخرى.
- من الملحوظتين السابقتين، لا ينبغي أن يُفهم أنّ الرواية العمانية رواية عالمية ضمنيا ولا ينقصها غير الظروف التي لم تخدمها، لا، ليس هذا ما ينبغي أن يفهم، فليست القضية قضية ترجمة وتنتهي المشكلة، أو مجرد مصادفة لم تتحقق بقارئ نوعي من ثقافة أخرى يفهم ما لم نفهمه في أدبنا المحلي، مع أنها قد تكون كذلك فعلا! ولكن الزمن الذي قطعته الرواية العمانية منذ نشأتها وحتى الآن لا يسمح بعد لأن يجعلنا مطمئنين إلى أنها شكلت هوية محددة وطابعا خاصا، وعندما نسأل عن الهوية التي ينبغي أن تكون عليها رواية في بلد ما، فأقول هو طابع التجربة ذاتها، وهذا مفقود عندنا، لأن الانقطاع سمة بارزة في التجارب الروائية العمانية، فليس هناك خط واضح تستطيع به قراءة تطور تجربة كاتب ما، باستثناء ثلاثة أسماء أو أربعة تستطيع أن ترصد خط التصاعد في تجاربها، بينما هناك تجارب شكلت بداياتها علامات فارقة في مسيرة تطور الرواية العمانية، ولكنها لا تتيح للمتتبع أفقا لمعاينة وعي الاستمرار، وهذا أيضا مرهون بالزمن.
بدرية الشحي – على سبيل المثال –استغرقت عقدا كاملا من الزمان ما بين روايتها الأولى وروايتها الثانية، رغم أن هذه ليست مشكلة بحد ذاتها، ولكن لا يمكن عد الثانية حلقة في سلسلة متصلة من تجربتها. لا يعني ذلك بالضرورة أن على الكاتب أن ينجز عددا كبيرا من الروايات حتى يتضح خط الوعي، فسالنجر لم يكتب إلا "الحارس في حقل الشوفان" ولكنه وصل بها إلى العالمية؛ ليس على كل كاتب أن يكتب بنفسه تاريخا للرواية في عمان، ولكن الأمر متصل بطبيعة الحال بتاريخ الرواية القصير عموما في بلدنا، الذي تشكل كل تجربة فيه صفحة في منجزه.
- سياق السؤال الأساس الذي طرحه الاستطلاع يشير إلى كثافة الإنتاج الروائي في عمان في العقدين الأخيرين، ووُجد دائما من يصف ذلك بالاستسهال واتخاذ جنس الرواية مطية ذلولا لكل من أراد أن يركب موجة الكتابة التي غذت دوافعها مغريات الشهرة السريعة التي تيسرها مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي ظني، أن الوفرة في عدد الأعمال الروائية ظاهرة صحية، فليكتب من يشاء. بل أجدني مع أن يكتب الجميع، لأن الوفرة في نهاية المطاف تفرز الجودة، فبين كل عشر روايات رديئة يمكن أن نعثر على رواية واحدة جيدة. ليس لأحد الكلمة الفصل في جودة هذا ورداءة ذاك لأن القراء ليسوا سواء، رغم اتفاقنا على الحد الأدنى من المعايير في تذوقنا لكل فن، ولكن رأي الفرد الواحد منا، إنما هو رأي فئته التي يشترك معها في مستوى التعليم والذائقة والثقافة، ودون ذلك وأعلى منه مستويات لا حصر لها من القراء، ودوائر لا نهائية من الأذواق، فليس أخطر على الإنسان من محاكمة ذائقته، أو منعه من حقه في الكتابة، ويبقى الزمن ناقدنا جميعا.
- الأهم من سؤال: لماذا لم تصل الرواية العمانية إلى العالمية، هو سؤال الكتابة بحد ذاتها، والانشغال بها، والاعتناء بتطويرها من الداخل، أما بلوغها إلى العالمية فتلك مسألة زمن، الذي أومن بأنه ناقد كبير، بل أكبر ناقد عرفته البشرية.
- مجددا: لا يجب أن تفهم النقطة السالفة بأنها صك براءة يعفي المؤسسة الثقافية والإعلامية من أدوارهما في دعم النتاج الجيد والدفع به ليكون حاضرا في المشهد العربي والعالمي، فالكاتب العماني – كما تقول بشرى خلفان –ليس تاجرا أو مسوّقا بالضرورة، ولطالما آمنتُ بأن مهمة التسويق للأدب ليس من مسؤوليات مبدعه بقدر ما هي من مسؤوليات دور النشر أولا ومؤسسات الثقافة والإعلام ثانيا.
- هل غيّبتُ دور النقد في تقديم الجيد من نتاجنا الروائي؟ أرجو ألا أبدو كذلك؛ فهذه النقطة محورية جدا في قضيتنا، فالنقد فوق أنه يفرز الجيد ويقدمه للقارئ المحلي والعربي وربما العالمي – دون أن ننسى أنه يحتاج إلى الترجمة هو الآخر – يمثل أداة كشف، ولكنها ليست فاعلة بالشكل الذي يطمح إليه الكاتب والقارئ معا، لأسباب ليست خاصة بعمان بطبيعة الحال، ولكنها أزمة عامة في وطننا العربي الكبير. عندما يصبح النقد على مختلف الصعد ركيزة مهمة في جميع مناحي الحياة، سيصبح النقد الأدبي تبعا لذلك الأداة الفاعلة التي نريد، لأن الجو العام الذي يضيّق الخناق على النقد بمختلف أشكاله لا يتيح نسيما عليلا لرئة النقد الأدبي.
هذا من جانب، الجانب الآخر: الإبداع إذا كان جهد فرد، فليس النقد كذلك، وإلا فإن عدد الكتّاب أكبر من عدد النقّاد، والحركة النقدية في أي بلد لا تنهض على جهود فردية، على عكس الأدب الذي يمكن أن يحمل رايته أديب واحد يشار له بالبنان فيشار إلى بلده تبعا لذلك.

الأحد، 22 يوليو 2018

هاه هاه

هاه هاه

منى بنت حبراس السليمية

في مطلع التسعينيات بينما كنت أخطو خطواتي الأولى في المدرسة الابتدائية علقت بأذني كلمات من قبيل صربي كرواتي البوسنة والهرسك. ليس بسبب الأحداث الدائرة في ذلك الوقت؛ فطفلة الأعوام الستة أبعد من أن تدرك ماهيتها، ولكن لأن لعبة كان أبي يلعبها مع أخوتي الصغار:  كان يمسك بالواحد منهم ويطوّحه يمينا وشمالا ويسأله "صربي ولاّ كرواتي؟" فيقول "كلواتي". ثم يعيد السؤال معكوسا: "كرواتي ولاّ صربي؟"، ويقول: "صِلبي". فيرد عليه أبي ضاحكا: "هاه هاه" ليثنيه عن الإجابة الخاطئة. واليوم عندما يسألونني في ختام كأس العالم: كرواتي أو فرنسي تلقائيا أقول كرواتي، وكأني بأبي يقول: هاه هاه لو قلت فرنسي.

15 يوليو 2018
مونديال روسيا 2018

الاثنين، 18 يونيو 2018

عمتي تحب الحياة

عمتي تحب الحياة
منى بنت حبراس السليمية
أُكبِر في عمتي أنها لا تمنح الحزن أكثر مما يستحق من وقتها، فهي سرعان ما تطوي بساطه وتكمل حياتها كأن شيئا لم يكن. ماتت طفلتها ذات الأعوام السبعة فبكت سبعة أيام وانتهى الأمر. في اليوم الثامن استيقظت وكأنها لم تكن حزينة على طفلة أنجبتها وماتت بمرض غامض. بعدها بسنوات مات أبوها فبكت في ليلة وصول الخبر وانتهى الموضوع. وكذلك حدث عندما ماتت أمها، أقامت لها عزاء لثلاثة أيام ومن فورها باشرت حياتها المليئة بمباهج صغيرة تعرف كيف تستجلبها لنفسها. وعندما مات زوجها لم تطق صبرا على الشهور الأربعة والأيام العشرة. شاهدت المسلسلات والأفلام، وخرجت مع أولادها للتنزه ضاربة عرض الحائط فتاوى الاحتجاب والانعزال.

ولكنها اليوم بدت مكسورة كما لم تكن من قبل، فقد توفي هذا الصباح آخر دفاعاتها في الحياة؛ توفي أخوها الوحيد بدون ممهدات. ارتفع ضغط دمه وخلال ساعات فارق الحياة. موته جعلها ذاهلة تخبط جبينها بيدها وتعيد الاستماع إلى رسائله الصوتية طوال النهار. تود أن تقول أشياء ولكن اللغة لا تسعفها.

عرفت أن الحزن هذه المرة سيلازمها طويلا، وأنها لن تعود بعده كما كانت.

الهيبة العودة: الهيبة الورطة

الهيبة – العودة: الهيبة – الورطة

منى بنت حبراس السليمية

مجلة أوائل الرقمية - 18 يونيو 2018


لوهلة، بدت حركة ذكية أن يعود مسلسل الهيبة في جزئه الثاني إلى زمن أقدم من زمن الجزء الأول، دون أن يكون لذلك سبب ظاهر غير غياب "نادين نسيب نجيم"، وعدم إمكانية استمرار الجزء الثاني بدونها كما ذهب إلى ذلك كثيرون بعد بث الحلقات الأولى من المسلسل، وإن بدا الجزء الحالي أفضل حبكة من الجزء الأول ولكنه في نهاية المطاف مقيّد بإكراهات مضطر إليها، وهي التي أفسدته في الصميم، فعلى سبيل المثال ما كان ممكنا أن نتوقع أفقا مختلفا للعلاقة بين "جبل" الذي يؤدي بطولته النجم السوري تيم حسن، وزوجته "سمية" التي تؤدي بطولتها النجمة اللبنانية نيكول سابا، رغم ما بدا - بدءا من الحلقة الخامسة عشرة وما تلاها - من تحول في العلاقة بينهما بوقوعها في حبه دون أن  يبدي تجاهها أكثر من لطف متكلف سرعان ما انطفأ مع أول حجة؛ أقول ما كان يمكن أن نتوقع أفقا مختلفا بسبب الجزء السابق الذي يخبرنا أنه طلقها لتتزوج من ابن عمها "نضال"، وإن كانت سمية هناك غير التي أدت شخصية سمية هنا، فللجزء الأول/ المتأخر زمنيا حكمه القاطع رغما عن ممكنات الجزء الثاني/ الأسبق منه.


وكذا الشأن في كل ما رأيناه من تعنّت "جبل" و"أم جبل" أمام رغبة "منى" في الزواج من "مجدي" حتى بعد مضي نصف عدد حلقات المسلسل، لأنها تزوجته (ومشي الحال) كما يخبرنا الجزء الأول كذلك، ليبقى ما شاهدناه على مدى خمس عشرة حلقة أولى قبل زواجها المحسوم ليس سوى (مطمطة) وقت لا يمكن أن تثمر حدثا مغايرا عما رُسم سلفا في الجزء الأول.


ما فعله هذا الجزء ليس سوى تفسير ما حدث كيف حدث لا أكثر، وإن حاول بشكل أو بآخر إضافة أحداث وشخصيات (هولو، وأبو سلمى، وبنات بيت الهوى) من أجل بث روح من التشويق مفقودة بعدما بات معلوما مآله سلفا، ليصبح الأمر وكأننا قرأنا رواية من نهايتها، والآن نعود لنقرأ بدايتها وقد علمنا سلفا ما كان وما سيكون.


سنكتشف هذه المرة أن الكيمياء ضرورية حتى بين الممثلين، وهي الكيمياء التي رافقت الثنائي (تيم ونادين) منذ مسلسل "تشيللو"، ثم في "نص يوم"، وانتهاء بـ"الهيبة" في الجزء الأول، رغم الدور العادي الذي أدته نادين فيه وحازت به على جائزة أفضل ممثلة في لبنان للمرة الثالثة على التوالي. تلك الكيمياء لم تكن حاضرة في هذا الجزء بين "جبل" و"مريم" الذي قد يكون سببه قصر المساحة الزمنية التي جمعتهما معا، كما غابت لاحقا بين "جبل" و"سمية" بسبب انسداد أفق التوقع كما سبقت الإشارة إليه، رغم ما أبدته "سمية" من محاولات لإذابة جبل الجليد بينهما، ولكنه بقي من جهته جبلا عصيا على الإذابة، فغاب الوجه الأجمل من شخصية "جبل".


فماذا لو لم يكن الجزء الأول مُنجزا، واعتبرنا الجزء الثاني هو بداية "الهيبة"، فهل ستكون النهاية بين جبل وسمية مقنعة؟ قد تكون مقنعة لمشاهد لم يحضر الجزء الأول، ولكنها بالنسبة لمشاهد تابع الجزأين معا، سيتمنى لوهلة لو أن الجزء الأول لم يكن، لأنه جزء لم يسمح لعلاقة سمية وجبل أن تتنفس بحرية، فهي علاقة محكوم عليها بالاختناق تحت أي سبب. وسأشير إلى نقطة مهمة تتعلق بفقدان تفصيل من ذاكرة الجزء الأول فاتت على الجزء الثاني، وهي أن سمية في الجزء الأول في زيارة غاضبة لأم جبل – وهي تحمل بين يديها رضيعها من نضال - تقول جملة فيما معناها: "هذا ابنو لنضال، اللي ابنك طول أربع سنين ما عِرف يجيب متلو؟" فذاكرة المُشاهد التي تحفظ هذا الحوار تكتشف أن الجزء الثاني سقط منه هذا التفصيل الصغير/ المهم، عندما جعل سمية هي السبب في حرمان جبل من (الخِلفة) لا شيء آخر! فإذا كان حضور الذاكرة ضروريا في الأجزاء المتسلسلة زمنيا، فهي ضرورية على نحو مضاعف عندما يكون الزمن عكسيا بين جزأين.


ويبقى السؤال: إذا كانت نهاية الجزء الأول سعيدة بين جبل وعليا، فهل كانت هناك حاجة إلى جزء ثان بكل هذه الإكراهات التي لا تؤدي إلى شيء ولو أرادت! والأكثر إثارة للدهشة عندما نعلم أنه تم الإعلان عن التحضير للجزء الثالث، الذي ستدور أحداثه هذه المرة في الزمن الحالي (2019) حسبما أعلن تيم حسن على صفحته في الفيسبُك.


الهيبة – العودة هو جزء أول مؤخر (على طريقة النحويين)، ويوشك المرء على الاعتقاد بأن القائمين على المسلسل تمنوا لو أن الجزء الأول لم يكن، ولو أن البداية كانت مع الجزء الثاني حتى يتحرر من إكراهاته التي قيّد بها، إذ يبدو أن هناك أفكارا طرأت مع هذا الجزء فوّت الجزء الأول إمكانية استثمارها، منها مثالا: الزج بشخصية تيمور تاج الدين في سياق الأحداث، وهي الشخصية التي لعبها تيم حسن في مسلسل آخر، وهو "تشيللو"، وإصرار "جبل" على تسليم السيارة المسروقة إلى صاحبها تيمور تاج الدين شخصيا، حتى كاد يظن المشاهد أن لعبة فنية ستحدث ستجمع الشخصيتين معا لينفتح أفق ما من رحم هذه الفكرة، ولكن هذا الحدث انتهى إلى لا شيء، ليس بسبب عدم إمكانية الجمع بين "تيمور تاج الدين" و"جبل" اللذين يلعب دوريهما معا تيم حسن نفسه، ولكن "فواز" السائق الشخصي لتيمور تاج الدين – من سوء حظ "الهيبة" – هو نفسه من أدى شخصية غازي عم "جبل"، لتنتهي الفكرة بأن يبعث جبل أحد "زلمه" ليسلم السيارة لفواز عبر اتصال هاتفي، فينتهي تيمور تاج الدين كما دخل بلا أثر ولا تأثير سوى محاولة لافتعال حركة فنية بلا طائل كان يمكن أن تظهر بشكل مختلف لو أن فواز لم يكن غازي على الأقل! ليبقى التأويل الآخر محتملا، الذي يذهب إلى أن شخصية "تيمور تاج الدين" - كما اقترحت بعض القراءات النقدية لمسلسل "تشيللو" - ليس سوى شخصية رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، وما الإتيان باسمه إلا للدلالة على مكانة صاحب السيارة المسروقة ليس إلا.


ولا نغفل الإشارة إلى ما سبق إليه كثيرون، بأن المسلسل يجعلنا نقف في صف (الأزعر) المهرِب، والخارج على القانون من خلال شخصية البطل المطلق التي يمثلها "جبل"، إذ كل مشكلة كبرت أو صغرت تصبح عنده (مِنتهِيّة)، ليظهر بمظهر الرجل الذي لا يعجزه شيء، ولا يقف في وجهه شيء؛ فهو شخصية تعيش قانونها الخاص، وتحقق بطريقتها عدالتها الخاصة في مكانها الخاص، فالأزعر الذي يمثله جبل، لا يشبه الأزعر الذي يمثله نضال، أو هولو، أو ناظم. جبل يمثل صمام أمان للهيبة وأهلها، شخصية تجمع المتناقضات التي لا سبيل إلى النظر إليها معزولة عن واقعها المكاني الذي يصر المخرج على أنه مكان لا علاقة له بالواقع اسما وجغرافيا.


المزعج في شخصية جبل هذه المرة هي النعرة الذكورية العالية، لاسيما في تعامله مع "سمية" التي تزوجها حقنا للدماء وإسكاتا لصوت الثأر ليس إلا، ولكنه ابتداءً من طريقة لفظه لاسمها "سِمِّيَة" تارة، ومرورا بوصفها بالغنمة تارة أخرى، وسحب الطبق من أمامها على السفرة تارة ثالثة لأنها ضحكت في غير أوان الضحك، وليس انتهاء بضربها لإفشائها سر مرض أخيه "صخر" – رغم أنه لم يقبل بضرب مجدي لأخته "منى" – ونعتها بالحيوانة حتى بعد تحسّن العلاقة بينهما محدثا أمه: "الحيوانة اشتكت لك؟". كل ذلك يجعلنا أمام جبل آخر، لا يشبه جبل في الجزء الأول/ الزمن اللاحق، رغم المشاهد المحدودة التي بدا فيها لينًا معها.


ورغم كل الإكراهات التي سردناها آنفا، وورطت هذا الجزء وحددت مسار أحداثه، يحسب للدراما اللبنانية، بممكنات ممثليها العالية، والمطعّمة بنجوم سوريين أحيانا – تيم حسن ومنى واصف في الهيبة – قدرتها على تسجيل حضور ملفت في واقع درامي عربي كان الضعف طابعه العام، فالدراما اللبنانية كانت لوقت طويل متقوقعة على محيطها اللبناني دون أن تسجل رواجا خارجه، ولكنها مؤخرا استطاعت أن تكسر حواجز الجغرافيا وتصل إلى المشاهد العربي، وتقدم نجوما أصبحوا علامة فارقة في الدراما العربية.


وأسجل أخيرا تميز شارة المسلسل بأغنية "مجبور"، لحنا وكلمات وأداء أبدع فيه ناصيف زيتون، رغم حضوره الشخصي غير المبرر في لقطة خاطفة في إحدى الحلقات، ولا يفسره غير السعي بطريقة أو بأخرى إلى بث روح في عمل أفسد جزؤه الأول ممكنات الجزء الثاني. ويبدو أن الوحيدة التي نجت من هذه الورطة – إن صح توصيفها كذلك – هي نفسها التي تسببت فيها: نادين، هذا إذا آمنا بأن المسلسل كان بحاجة إلى جزء ثان أساسا، فضلا عن ثالث.

السبت، 2 يونيو 2018

خيانة شرعية

خيانة شرعية

لم تفهم شعور أمها عندما قالت لها: تمنيت لو أنه اتخذ خليلة سرا ولا أن يتزوج علي!

صعقت من كلام أمها، ولم تدر أن ردها داس على جرح أمها أكثر عندما أجابتها: وهل الحرام أفضل عندك من الحلال؟
سكتت الأم ولم ترد.
اليوم فقط تعرف ما كانت تعنيه: خليلة السر تخبرها أنه يحفظ لها بعض احترام مادام يخاف من مواجهتها، ولكن ضرة العلن تقول إنه سئم منها وأتى بأخرى جديدة، هكذا ببساطة شديدة، وليس لها إلا تقبل الواقع.

تسألها الآن: لماذا بقيتِ معه؟ لماذا لم تعودي لبيت أهلك؟ تقول: وهل أعود إلى زوجة أبي؟!

يا لهذه الدائرة التي لا تنتهي! تتخيل اتساع الجرح ولا تستطيع. يسمونه "حلالا" ولكنها باتت تسميه "خيانة شرعية".

الأحد، 20 مايو 2018

نوم في غير أوانه

منى بنت حبراس السليمية

كل المهمات الجسام تبدأ بالنوم. بعد مرور ثلاث ساعات فقط على بدء الدوام، استأذنت للعودة إلى البيت متعلّلة بظرف طارئ. في الواقع ليس الظرف الطارئ سوى حاجتي الملحة إلى النوم .. وفورا.

ليس من الضروري القول بأني لا أشعر بنعاس ولا هم يحزنون، ولكن فقط لأن المهمة التي أنا بصددها كبيرة!

حسنا، لا أعرف من أين تسللت إليّ هذه العادة، وهي أنني لا أستطيع البدء في عمل كبير - ومهم كما ينبغي أن يكون في نظري - قبل أن أبدأه بطقس نوم لابد أن يكون طويلا وكافيا جدا، حتى تكون الانطلاقة بعده في أتم يقظتها.

قبل أيام كنت أردد شعارا اجترحته من رحم هذه العادة: "النوم أولا، ومن بعده تأتي كل الأشياء".

وأؤكد بأن لا علاقة لهذه الحالة بحب النوم أو كرهه، ولكني فقط لا أتصور أن أبدأ عملا مهما بجسد لم ينم كفاية، حتى لو كان النوم في غير أوانه.

وللمفارقة فإني سرعان ما أغرق في نوم عميق على خلاف كل حالات النوم العادية، وبطريقة لا تشبهها إلا حالات الضيق الشديدة التي أهرب منها إلى النوم، ولا أستيقظ إلا وقد نسيت ما كان.

ذاكرة الهامش في "صهد" ناصر الظفيري

ذاكرة الهامش في "صهد" ناصر الظفيري[1]

منى بنت حبراس السليمية

بين الرواية والتاريخ:
يلفت القارئ لرواية "الصهد" - الصادرة عن دار مسعى البحرينية في العام 2013م، وهي الجزء الأول من ثلاثية الجهراء [2] - للكويتي ناصر الظفيري أنه يقسِمها إلى كتابين، الأول منهما "تأريخ"، والكتاب الثاني "الرواية". ولما كنا نعرف أن الرواية رواية والتاريخ تاريخ، ومن البديهي أن فارقا حاصلا بين خطاب التاريخ وخطاب الرواية، فإن تقسيمه هذا يثير سؤالا مهما: لأي شيء يؤرخ الظفيري في القسم الأول من صَهَده ممّا لا يعدّه من الرواية التي ابتدأها بعد 150 صفحة؟ وإلى أي مدى يمكن عدّ ما يؤرّخه تأريخا لا رواية؟ فالأول يعتمد الحقيقة الأمينة كما حدثت في الواقع دون زيادة أو نقصان، أما الرواية فعلى خلاف ذلك، هي فنّ قوامه التخييل وإن قاطعت التاريخ.
فهل يفصل الظفيري بين ما هو واقعي عما هو تخييلي؟ أو تراه يروم من التخييل أن يقوم مقام التأريخ الغائب الذي لم تثبته كتب التاريخ؟ فلجأ إلى الرواية (فنًا) ليقول ما لم يقله غيرها من صنوف الكتابة والكلام؟ أو هو تخييل على سبيل التأريخ مجازا وتمهيدا؟
في الكتاب الأول (يقترح) الظفيري تاريخا لقضيته الأساس التي ما انفكّت تشغله في جلّ كتاباته، قضيته الواقعية وقضيته الإبداعية على حدّ سواء، قضية البدون. وقد بدا لنا نحن القراء الساعين لفهم القضية وأبعادها أنه تأريخ يجيب عن سؤال زمني يقود إلى الاقتناع وفقا لممكنات النص على الأقل.
في تأريخه للقضية يقدم الظفيري ثلاثة أجيال عبر ستة فصول هي لحمة الكتاب الأول، كتبت الخمسة الأولى منها بأسلوب الراوي العليم، فيما جاء السادس وحده بلسان ضمير المتكلم، الذي يمثله علي شومان من الجيل الثالث لشخصيات الرواية، التي بدأ جيلها الأول مع محمد علي بن فضل، والسيد/ جد ليال[3]، ثم الجيل الثاني الذي يمثله شومان، وعلي بن فضل، وصاحبه شاكر، وهاشم ابن السيد/ والد ليال، وكمال العسقلاني، يليه الجيل الثالث الذي يمثله الشباب: علي شومان، وشريف علي ابن الفضل، وقيس بن شاكر، وريما كمال العسقلاني وأخواتها ليلى ومها، وليال هاشم السيد. وهؤلاء هم الذين تنهض على حكاياتهم أحداث الكتاب الثاني (الرواية).
​في الفصول الستة الأولى يظهر (ابن فضل) عنصرا مشتركا يؤلف بينها، ابن فضل الجد وابن فضل الابن، فكل فصول الكتاب الأول منتهاها إليه، بصفاته التي جمعت: التاجر الثري، صاحب المراكب، الشيخ الذي بيده الحل والعقد، الكريم، الساعي إلى توطين أهل البادية لدى تأسيس الدولة الحديثة: "نحن بحاجة إلى إعادة البدو من مضاربهم وخيمهم إلى المدينة، ستكون أنت رسولي إليهم، نريد شبابهم موظفين في الحكومة، وأبناءهم وبناتهم في المدارس التي نعمل على إنشائها" (الصهد، ص84)، ولأنهم لا يجيدون فك الخط – حسب شومان - فسيوجد "لهم أعمالا في الجيش والشرطة والحرس والهجانة، إننا نصنع بلدا حديثا يا شومان، هل تفهم؟" (الصهد، ص84)
شخصية ابن فضل بكل الميزات التي سلفت، يضاف إليها إكرامه للضيف ومعاقبة من يسيئ إليه، يتحول بطريقة لا تبدو مفهومة إلى ناكر لجميل شومان، مبعدا إياه من التوطين بعدما قدمه ليكون قدوة لأفراد قبيلته والقبائل الأخرى في العمل في الحكومة: "شومان، ستكون أنت أحد موظفي الحكومة، يجب أن تكون مثالا لهم" (الصهد، ص85)، ليصير (ابن فضل) انتقائيا يماطل في تجنيس أهل البادية عندما استوت بيده الأمور بعد فراره إلى الكويت، وأصبح قريبا من السلطة فيها أو هو السلطة عينها: "أنا والحكومة شيء واحد يا شومان، إننا نعمل معا، البلد مستقل الآن وينمو بسرعة، والدولة بحاجة إليهم، وهم يقيمون في مضاربها، لا نريدهم رعاة إبل وماشية فقط" (الصهد، ص85)، ولكن "القطيعة حدثت بينه وبين ابن فضل حين أصبح ابن فضل انتقائيا في توثيق أوراق أهل القرية في منتصف الستينات مبعدا البدو عن الحصول على وثائق تثبت مواطنتهم" (الصهد، ص88)
هنا، يمكن للقارئ أن يمسك بخيط القضية الأول في أحداث وقصص تتناسل على مدى ما يلي من صفحات، لتبدأ رحلة القهر والارتطام بالواقع الذي يجعل أولوية التوطين لمن وفد إلى الوطن هاربا بمساعدة من تم إقصاؤه وتهميشه: "كان بودي أن أقول له أن البدون هذا هو من أدخل والدك هاربا على ظهر جمل، سكتّ لأنه الجمل الذي أنقذ والد شريف ذات يوم" (الصهد، ص238)
جمل شومان الذي أنقذ ابن فضل في المرة الأولى من الموت في الصحراء بعد تعطل سيارته في طريق عودته من الكويت إلى العراق، هو نفسه الذي هرّبه إلى الكويت في المرة الثانية، ثم هرّب صاحبه شاكر إلى الكويت في المرة الثالثة وفاء وإخلاصا من شومان لابن فضل، وردا لجميله، ليقابله هذا الأخير، بخلاف ما سلف منه، بمماطلة الوقت الذي لم يحن بعد حتى يصبح شومان كويتيا في بلده. الحوار الآتي مع شاكر يغرس في القضية رمحا من خديعة:
- وما يغيظك يا شومان من أنني أصبحت كويتيا؟
- لأن وقتنا لم يحن بعد كما حان وقتك
- انتظروا وقتكم!
- بالأمس حملتك على جملي إلى هنا يا شاكر مذعورا كفرخ النعام.
- أنت دائما تحمل ما لا تستطيع أن تقدر ثمنه، منذ أن كنت تحمل الذهب حول بطنك كالحمار يا شومان" (الصهد، ص89)
أكان شومان، إذن، ضحية تاريخية تساوى فيها مع أحمد بن ماجد مع فاسكو دي جاما الذي وردت قصته في فصل (شحنة المانجروف) دون أن نجد لسردها توظيفا تاليا أو مناسبة ملحة؟ أم أنه كان بدويا ساذجا مستغفَلا عرف مستغلوه كيف يحركون فيه نخوة البدوي الفطرية؟ أم أن علمه المحدود لم يجعله يستوعب أبعاد القضية أوان انبثاقها؟
هل يتحمل (البدون الأول) جزءا من المشكلة تاريخيا في ستينيات القرن العشرين؟ بل لماذا كانت المشكلة أصلا؟ هذه أسئلة لم تغرب عن ذهن الظفيري وهو يسرد قضية "البدون"، فابن فضل وشاكر ليسا فردَيْن، ولكنهما سلطة ودولة تجسدت فيهما، "أنا والحكومة شيء واحد يا شومان" (الصهد، ص85)، والدولة تفعل ما تريد وإن كان شومان نفسه يعمل في الدولة:
- هل سيهدمون بيتنا يا أبي؟
- سيفعلون ما يريدون يا بني.
- لماذا؟
- لأنهم دولة، الدولة تفعل ما تريد.
- أنت تعمل في الدولة.
- نعم، أنا أعمل في الدولة" (الصهد، ص138)
وهُدم بيته الذي بناه وتزوج فيه وأنجب، رغم أنه يعمل عسكريا في الدولة: "أملك هذا البيت منذ بنيته، تزوجت فيه، وأنجبت أولادي فيه، وأنا أعمل عسكريا في الدولة" (الصهد، ص136)، فكانت رحلة القهر الثانية عندما "أخرج موظف البلدية ورقة بيضاء كتب عليها "إزالة" وألصقها على الباب الحديدي، وكأنه يعلن فضيحتنا الأولى" (الصهد، ص136)
هدم بيوت البدون غير المثبتة بوثائق لدى البلدية، تساوت عند كمال العسقلاني مع الحالة الفلسطينية، والجرافات تهدم بيوت الفلسطينيين: "أوضاعكم تشبه أوضاعنا إلى حد كبير" (الصهد، ص139). ولم يكن اكتشاف علي شومان أنه بدون لا يحق لوالده التصويت في الانتخابات[4] ذا معنى أمام رحلة القهر الثالثة التي كانت القاصمة: "كنا أكثر من مائتي طالب نقف أمام صالة القبول والتسجيل، يخرج لنا موظف يخبرنا بأن الجامعة لن تقبل الطلبة البدون هذا العام، لم تكن أمامي حيلة أخرى، فجأة ضاع كل شيء" (الصهد، ص142)
شومان الذي أبى اللجوء لابن فضل عندما صدر قرار إزالة بيته، يضطره القهر الثالث لذلك معرّضا كرامته للهدر، بانكسار من يعرف أن لا حل له إلا باللجوء لمن خذله من قبل: "اسمع يا عم، هذا فرحتي الأولى، لا أحتمل أن يذوب أمامي بحسرته، رفضت الجامعة قبوله، وأنت تقدر على ذلك" (الصهد، ص143)
​وإذا بالرجل الذي ادّعى أنه لا يستطيع تجنيس كل أهل البادية - "يعتقد أنني أستطيع أن أجنس كل البادية لأنني أحبه" (الصهد، ص144) - استطاع أن يوجد لعلي شومان مقعدا في الجامعة في تخصص الفيزياء: "يد ابن فضل تعيدني من الموت إلى الحياة" (الصهد، ص145)
​التاريخ الذي ينتهي هنا بإعادة علي شومان من الموت إلى الحياة بقبوله في الجامعة – كما يختم الكتاب الأول من الصهد – لم تبدأ روايته بعد؛ فما مضى لم يكن سوى تأريخ، يأخذ من الأحداث مجازها وإن لم يأخذ حقيقتها بالضرورة كما تقدم، ولكنها حقيقة على قياس واقع النص الذي يقترحها، فهل كانت وقائع هذا التاريخ واقعية فنيا؟ فكما سبقت الإشارة: التحول في موقف ابن فضل من شومان لم يكن مبررا، وانتقائيته لم تكن مسبّبة، أي الأشياء تغير فحدث ما حدث؟ أكان لتغير المكان حساباته؟ أم أن للزمان والتاريخ إملاءاتهما؟ هذا ما لن يفهمه شومان، ولن يفهمه معظم المراقبين عن بعد، ولن يفهمه البدون أنفسهم، كما لن يفهمه غيرهم في أقصى الكرة الأرضية:
- لديك فيزا طالب إلى أمريكا، لماذا لم تكمل هناك؟
- ليست لدي جنسية، جوازي مدته سنة واحدة، ولن يتجدد.
- آه، فهمت.
- وهي؟
- كويتية.
- هل يحدث هذا في القرن العشرين؟" (الصهد، ص298)
وإن كان لهذا التأريخ من ثغرة، فهي أنه جعل المشكلة متجسدة في ابن فضل، فهو إن شاء لها الحل حُلت، وإن لم يشأ بقيت جيلا بعد جيل. حتى وإن كان ابن فضل – كما تقدم – ما هو إلا تجسيد للدولة وفكرة الدولة - "أنا والحكومة شيء واحد يا شومان" (الصهد، ص85) – لكن هذا المنطق لا يساعد على إيجاد حل لإشكالية فنية بالدرجة الأولى، وأخلاقية بالدرجة الثانية؛ لأن ما تقدم من أخلاق الرجل ونجدته ودفاعه عن شومان وتصديه لمن تعرض له لا تسوّغ أن يبقى (شومان) – بين من بقي – في عداد غير الكويتيين، في الوقت الذي يملك ابن فضل الحل لأزمته كما ملك الحل دوما لأزمات سواه: "في أغلب الأمسيات التي أزورهم فيها، لا أجد أحدا في المجلس سوى مجموعة من كبار السن، يلهثون بمعاملاتهم خلف ابن فضل الذي يسلمها لسائقه وفي الأغلب كانت المعاملات تنجز في وقت قياسي" (الصهد، ص274)
أهو السلطة التي أراد الظفيري أن تعكس مزاجيتُه مزاجيتَها، وأهواؤه وأهواءَها في تقديم هذا وإقصاء ذاك دون إطار واضح ومعلوم؟ أهو السلطة التي تمنح بيد وتسلب بيد أخرى فئة من الناس تقيم على أرضها، وقد كانوا قبل قليل في بساطه كراما مكرّمين؟ وأن ما تمنحه – إن منحت - ليس سوى (فضل) غير ملزم يستوجب شكرها عليه؟ أكان (ابن فضل) محض رمز يختزل السلطة وتوازناتها في توزيع هباتها وعطاياها، جاعلة من التوطين عطية تمنح، لا حقا أصيلا؟ أهو السلطة التي ليست سيئة دائما، ولكنها بشكل أو بآخر تمارس تهميشها المتعمد والانتقائي على فئة البدون؟
الإمكانات الداخلية للرواية تتيح تأويلا كهذا، كما قد تلغيه في الآن نفسه، فاسحة المجال لقراءات تنطلق من ثغراتها لتردمها وفقا لزاوية نظر، كما قد تبقي الاستفهام مفتوحا بلا مبرر فني من زاوية نظر أخرى.

القضية في بعديها الزماني والمكاني:
​يهمنا في هذا المبحث أن نعاين بالدرجة الأولى المكان الذي ارتبط بالفئة المهمشة التي عنيت بها الرواية وهي فئة البدون، لنقف على ملامحه وإسهامه في رسم الشخصيات وتعاملها مع واقعها المحيط بها.
يقدم الظفيري المكان المهمش الأول (الجهراء)، أو المساكن الشعبية في (تيماء) في صَهَده بلغة حالمة تارة، وبلغة مجمِلة تشي ولا تصوّر، على عكس الجهراء أو تيماء التي يرسمها في روايتيه "كاليسكا" و"المسطر". يقول علي شومان: "وصلنا إلى تلال الشمال المطلة على الجهراء، أوقف السيارة على مرتفع، الجهراء في الأسفل وادعة وجميلة، يحرسها البحر كعاشق لا ينام" (الصهد، ص275)
فهو مكان رغم تهميشه وإهماله وسكانه "يعانون كونهم مهملين" (الصهد، ص93)، إلا أنه مكان معشوق: "في المكان الذي يعشقه على سفح التل، في المكان حيث كان يصطحبني دائما يجلس يعد قهوته وإبريق الشاي" (الصهد، ص283)، ولا يرد ذكر تفاصيله إلا مصحوبا بالجمال والوداعة والجو الجميل، يقول: "الجو في أواخر الخريف، الهواء ناعم ولطيف في الصباح..." (الصهد، ص283)
وصف المكان لا يمكنه أن يوصل للقارئ حالة البؤس الذي يعيشها قاطنوه، إلا عندما يقترن برفض الآخر الاقتراب منه أو زيارته، فليال، من أم كويتية ثرية، غير مبالية بوضع البدون ومعيشتهم البائسة – رغم أنها واحدة منهم – فهي، حسب علي شومان، ليست إلا كقطاع كبير من الشعب لم يعيشوا في أماكن البؤس ولم يروها: "كأغلب السياسيين والكتاب وقطاع كبير من الشعب، لم تفكر يوما حتى في زيارة مساكنهم أو الاقتراب من حياتهم العامة، أو الخاصة" (الصهد، ص313)
​ومثلها كان شريف يتجنب زيارة أسرة علي شومان ليرى واقع الحياة التي يعيشونها: "لم يفكر شريف في يوم من الأيام أن يزور عائلتي في المساكن الشعبية، وكلما دعوته تعذر بضيق الوقت" (الصهد، ص237)، وعدا ذلك لا نعثر على صورة حية لهذا الواقع في "الصهد" باستثناء هذه الإشارات التي تنبئ بشيء ولا تعكسه، على خلاف ما نجد في روايات الظفيري الأخرى، بل إن حضور الأماكن غير المهمشة يأخذ حيزا أكبر من المكان الهامشي الذي أراد علي شومان أن ينتصر له، بل ويعتب على القطاعات الكبيرة من الشعب عدم التفاتها إليه، في حين أن علي شومان نفسه لم يمنحه من وقته أكثر من خميس كل أسبوع، يعود بعدها أدراجه إلى شقته في الفروانية قبل هجرته إلى أمريكا فكندا، ثم عودته إليها[5]
حتى في السياق التاريخي لمنطقة الجهراء وتلال الشمال، فإن وصف بيوت الطين المتناثرة بعشوائية لا تصف بؤسا حقيقيا تختص به فئة من البشر (كلعنة قدر، أو تهميش سلطة) بقدر ما يصف مرحلة زمنية لم تطلها يد التحديث بعد في خمسينيات وستينيات القرن العشرين[6].
ولكن ثمة دلالة يوردها الظفيري في تضاعيف وصفه لقصر ابن فضل الأحمر الذي بناه على تل الفضيحة في الجهراء "بمهابته وهو يطل على بيوت الطين الفقيرة ومزارع الفجل والبقدونس والحمقاء والبصل الأخضر والكرات" (الصهد، ص79)، ليظهر فعل السلطة في تعميق تهميش المكان وساكنيه، بتوسيعها فجوة المقارنة بينها وبينهم، منتصبة بين مساكنهم لتكرس بؤس واقعهم أمام مهابة وجودها الشامخ، وسط بيوتهم الفقيرة المتناثرة.
ولكن ذاكرة المكان تمارس بدورها ردة فعل عكسية تجاه السلطة، ففي "ذلك اليوم اختفى التل تاركا إرثه للبيت الأحمر، والذي بقي يحمل اسمه "تل الفضيحة" دون أن ترتد العقول عن غيّها وتعترف بمهابته وهو يطل على بيوت الطين الفقيرة" (الصهد، ص79). حتى تسمية أولاد الحي لـ"شريف" صغيرا بالمهري – رغم انعدام الشبه في السلوك أو المآل بينهما[7] – لم يكن سوى ردة فعل أخرى ضد السلطة، تحفظها ذاكرة المكان التي تأبى أن تندثر أمام تهميش السلطة وسلطنتها، فأخذ الحالّ الجديد (شريف) صفة الحالّ القديم سيئ السمعة المقتول في قضية شرف[8]، ليجمع بينهما المكان نفسه وهو "تل الفضيحة".
أما الزمن في الرواية فهو زمن ارتدادي لا يسير في خط متصل، بما في ذلك القسم الأول المؤرِخ، فأحداثه لا تسير متسلسلة، ويعثر القارئ على هذا الارتداد الزمني بالعودة إلى زمن الثلاثينيات في الفصل الثاني (شحنة المانجروف) الذي يؤرخ للجيل الأول من شخصيات الرواية، لاحقا للفصل الأول الذي دارت أحداثه في زمن الستينيات. أما في القسم الثاني (الرواية) فارتدادية الزمن أجلى وأظهر، وتتطلب من القارئ حضورا ذهنيا يضع الأحداث في تراتبيتها الزمنية الصحيحة.
تمتد أحداث الرواية بقسميها من ثلاثينيات القرن العشرين وحتى النصف الأول من تسعينياته، إلى عام 1992 تقريبا. ويعود بنا هذا إلى اعتماد الراوي العليم في الفصول الخمسة الأولى من الكتاب الأول (تأريخ)، وبضمير المتكلم في فصله السادس (الصهد)، مما يطرح سؤالا: لماذا لم يكن الفصل السادس مكتوبا بلغة الراوي العليم كبقية فصول الكتاب الأول، أو لمَ لم يكن الفصل السادس جزءا من الكتاب الثاني لاتساق أسلوبه (ضمير المتكلم) مع باقي الرواية؟
الجواب على ذلك يكمن في الزمن، الذي يبرر وجود الفصل السادس بضمير المتكلم مع فصول خمسة بلغة الراوي العليم، لتطوى به حقبة لتبدأ أخرى من حيوات الجيل الثالث من الشخصيات التي تعيش شبابها وقضاياها التي تلتقي وتفترق. وكأنما أراد الظفيري أن يقسم روايته إلى كتابين: ما قبل الهجرة إلى كندا، وما بعد العودة منها، في فصل غير تام تتداخل فيه الذاكرة والتاريخ والحاضر كما سيرد بعد حين.

الذاكرة .. قطع البازلّ:
​تشكّل الذاكرة المادة الأساس في لحمة الرواية وسداها، فإذا كان التاريخ ذاكرة جمعية فإن الظفيري يجعل منه ذاكرة خاصة، وهو ما يقرّب تاريخه من روايته، فقسم الكتاب الأول (التأريخ) إنما هو ذاكرة شومان، وذاكرة ابن فضل، وذاكرة الغائبين المسرودة بلسان الراوي العليم، لتشكل كلها تاريخا قابلا للزوال بالموت أو عطب الذاكرة - كما سيأتي بعد حين - ولما كانت الذاكرة الفردية أبعد من أن تكون ذاكرة الجماعة، فليس الكتاب الأول إلا جزءا أول للجزء الثاني، تاريخا متغيرا بتغير الأشخاص وإن لم يتغير المكان والزمان بالضرورة.
فإذن التاريخ ذاكرة أولى، أما الذاكرة الثانية فهي ذاكرة الغائبين/ الذاكرة غير المعيشة، الذاكرة المنقولة عبر وسيط ثالث، وهي التي عبرت عنها ليال بقولها في مخطوطتها: "القصص التي تتناول حياتنا ونحن في سن لا يسمح لنا بأن نتذكرها نعتمد في سردها على ذوينا، ومن شاركونا تلك الحياة، ذلك ما ذكرته أمي، الشاهد الوحيد على حياتي منذ خروجي من رحمها حتى بداية تشكل وعيي الخاص في فهم ما يجري من حولي، وهي أيضا التي روت حياة والدي نقلا عنه" (الصهد، ص247)
وبذلك يجد قارئ "الصهد" أن أحداثها أشبه بقطع البازلّ التي تشكل لوحتها الكاملة مجموعةُ ذاكرات تضافرت مع بعضها البعض لتصنع رواية بزمن ارتدادي كما يجدر بالذاكرة أن تكون بانتقائيتها وعدم ترتيب مفرداتها. ولما كان الأمر كذلك تدخلت المعينات التي من شأنها أن ترتق ثقوب الذاكرة وتسد ثغراتها، فكانت مذكرات ليال أو مخطوطتها التي تصدت لسرد ما لا يعرفه علي شومان من أحداث وقعت قبل لقائها به وبعد افتراقها عنه، أما ما بينهما فقد تكفل هو بسرده بالذاكرة المتداعية التي تسرد بشكل مواز - وإن لم يكن بالتراتب - حياته مع ليال ومع ريما داخل الكويت وخارجها، وهو التداعي الذي يتداخل – في الوقت نفسه - مع السرد (الآني) الذي يمثله الزمن بعد عودته من كندا.
فإذن، شكلت مذكرات ليال ذاكرة مقيّدة، بما أنها مكتوبة، وانتقلت إلى علي شومان بصفتها أمانة تحمل ختم (وصية) من إدارة سجون النساء، ولكنها ذاكرة إكراه في الوقت نفسه، ذاكرة مرعبة - "سأواجه المخطوط وحيدا، وحيدا وخائفا من مواجهة نفسي" (الصهد، ص195)، وود لو يحرقه غير مرة[9] قبل الشروع في قراءته لتنتهي ذاكرتها بموت صاحبتها: "أخرجت المخطوط من المغلف، وكأنني أفتح كوة في ذاكرة ليس لها أن تموت" (الصهد، ص217)، ولكن ذاكرة ليال/ مذكراتها مثلت الجزء الناقص من الحكاية، الجزء المفقود من ذاكرة علي شومان: "هذه الأوراق التي أتحدث فيها عن نفسي لا تشتمل على كثير من علاقتي بك، لأنك تعرفها جيدا، ولكنها حياتي قبل أن أراك، وبعد فراقك، حياتي التي لم أحدثك عنها يوما ما" (الصهد، ص218)، ولكنه الجزء المرعب غير المرغوب قبل أن يعرف أن قليله يعنيه، وكثيره لا يعرفه.
وعلى خلاف ذاكرة المهمشين - التي تخبرنا عنها أدبيات القضية[10] - التي تبقى يقظة على الدوام، حرصا على بقائها حية لحين تحصيل الحقوق، يختار الظفيري لذاكرة شومان التي حفظت تاريخ القضية، أن تنهار، بفقده الذاكرة، لتضيع بذلك ذاكرة الجمل، ويضيع الرهان على الحقيقة التي يعرفها وحده. ذاكرة الجمل الذي كان سببا فيما آلت إليه الأمور من نكران وجحود إزاء ما قدمه من تضحيات بروح البدوي المقدام والمحب للخير. ذهبت ذاكرة شومان، كأنما ليدلل على ضياع القضية ليصبح شومان نفسه بلا وجود: "أن يعيش أبي بلا ذاكرة بسببي ذلك يعني أنه غير موجود بسببي" (الصهد، ص283)
أكان على شومان أن يفقد ذاكرته/ ذاكرة القضية؟ ليخسر بذلك تاريخ الحقيقة، وحقيقة التاريخ الذي شارك في صنعه بتهريبه - على جمله - من تسببوا في تهميشه لاحقا؟ أم أنه كان لابد من محو الذاكرة التي ما انفكت تذكره بأنه لم يكن أكثر من حمار يجهل ما يحمل من المال والرجال، وجاء فقدانه للذاكرة خلاصا وراحة له؟ لتكون العبارة التي قالها علي شومان لاحقا مصداقا للنهاية التي آل إليها أبوه: "مهما بدا لي أنني أكثر صبرا من جمل شومان، إلا أنني أشعر بأنني سأنهار إذا لم أغادر هذا التاريخ الموجز من البؤس" (الصهد، ص333)
أخيرا: لعل سؤال التأريخ في القسم الأول من الكتاب يقدم جوابا على أسئلة كهذه، فالقضية التي تُفقد بانهيار ذاكرة حاملها الوحيد تتطلب تأريخا أفرد له الظفيري نصف "الصهد"، ليحقق رمية فنية في سلة القضية التي بقيت فارغة على الدوام، فارغة من الاهتمام، فارغة من الحلول.

الشخصيات المهمشة .. تفريق المتشابه
​تشكل الشخصيات الثلاث الرئيسة في الرواية: علي شومان، وليال، وريما: نماذج هامشية. وما يجمعها من ظروف، تفرقها في الآن نفسه. وسنهتم في هذا المبحث بالإجابة عن أسئلة ثلاثة: ما مدى وعي الشخصيات الثلاث بواقعها المهمش؟ وكيفية تعاملها مع واقعها الذي يهمشها؟ وما المآلات التي سارت باتجاهها؟ وقبل ذلك لابد من وقوف على العلاقة التي تجمع الشخصيات ببعضها:
​إذا كان علي شومان بدوي (بدون) بالتبعية لأبيه وأمه البدون، فإن ليال بدون أيضا ولكن من أم كويتية ثرية: "لم يعرف أحد من زملائي شيئا عن حياتي الخاصة سوى أنني لا أحمل مثلهم الجنسية الكويتية، لم يكن يهمني كثيرا، كنت أحمل جواز سفر كويتي[11]، وأعامل ككويتية تبعا لأمي، وأحمل هم وطني ربما أكثر مما يحملون" (الصهد، ص249)، ولعل هذا التفصيل الصغير يجعلها في موقف مختلف عن موقف علي شومان من قضيتها وواقعها، كما سيأتي بعد حين جوابا على السؤال الثاني.
​أما ريما، فهي فلسطينية مقيمة في الكويت، تعيش واقعها المهمش على المستوى السياسي، الذي تفاقم في الكويت بعد الغزو العراقي في العام 1990م[12]. تجمع بين علي شومان وريما الطفولة المشتركة والشباب بسبب أبيها كمال العسقلاني الذي درسهما في طفولتهما اللغة الإنجليزية في بيته إلى جانب شريف بن فضل. ثم جمعت الصداقة بين علي شومان شابا وأستاذه العسقلاني، كما جمع الحب الخفي بين علي وريما.
​ولكن الصداقة التي تجمع الثلاثة معا بالتباساتها وتعقيداتها لم تكن إلا على النحو الظاهري فقط، أما على النحو التفصيلي فليس علي شومان إلا الحبيب المشترك بين الفتاتين مع اختلاف في التفاصيل، دون أن تطمح ليال في الزواج منه، لتتنازل عنه برضا لصديقتها ريما قبل أن تعود من كندا إلى الكويت لتواجه تداعيات الحرب ومآلاتها العامة والخاصة.
​التهميش هو الرابط الأقوى الذي تعرّض له الثلاثة معا، ولكنه التهميش الذي يأخذ أكثر من شكل، وإن بدا التهميش الذي يعانيه علي وريما بغير حاجة إلى مزيد تفصيل، فإن التهميش الذي تعيشه ليال من نوع آخر، تهميش على مستوى العائلة، في بيت أمها مع زوج أمها، إذ هي ليست أكثر من مستأجر لغرفة في بيت أمها مع تطورات الأحداث التي شكلت مأساتها الحقيقية: "في تلك الليلة قررت أن أترك بيت والدتي وزوجها، أن أختار بداية جديدة، لم تمانع والدتي، الأمر بالنسبة لها بدا كإنهاء عقد إيجار الغرفة التي أسكنها" (الصهد، ص269).
​وإجابة عن السؤال الأول، عن وعي الشخصيات بواقعها المهمش، فقد بلغ الإحباط بعلي شومان مبلغه: "لماذا لا أحبط، لم تبق عينان كريمتان أو حقيرتان لم أقبلهما بعيني كي أحصل على جواز سفري، لم يقل لي أحد كلمة واحدة سوى تعال غدا" (الصهد، ص178). أما ليال فكانت على عكس ذلك، ويعلله علي شومان بأن: "ما تعانيه ليال هو أنها لا تعيش وضعها الحقيقي، هي لا تعترف أنها بدون جنسية، ولا ترى في هذا الوضع قلقا وجوديا، حتى في كتاباتها السياسية أو تعليقها على المشهد السياسي في الكويت، لم تخرج عن الهم العام إلى الهم الخاص. ربما لم تكن تعيش بينهم، وكأغلب السياسيين والكتاب وقطاع كبير من الشعب، لم تفكر يوما حتى في زيارة مساكنهم أو الاقتراب من حياتهم العامة، أو الخاصة" (الصهد، ص313)
​هذا التوصيف الذي يقدمه علي شومان لليال، جعله في الغربة لا يعدّها أكثر من سائحة إزاء وضعه كلاجئ[13] دون أن يربط ذلك بشخصيتها التي تعيش حياتها بصفتها إنسانة قبل كل شيء: "بل أنا لاجئة مثلك، ولكنني أعيش حياتي كإنسانة أولا" (الصهد، ص317)
​نظرته هذه لليال في تعاطيها الإيجابي مع الشأن الداخلي الكويتي في السلم، تختلف عن نظرته لموقف ريما في حرب الكويت، وقد استنكرت عليه قلقه على ما وصفها ببلده رغم كل ما لاقاه فيها من تهميش[14]؛ فريما بالنسبة له عاجزة عن فهم علاقته الملتبسة بوطنه؛ لأنها عاشت طوال عمرها تتعلم أن لها وطنا محتلا، ولكنها لا تعرفه لأنها لم تعش فيه، بينما الدروب التي تعبرها الدبابات العراقية خلال الغزو، دروب سار فيها علي شومان في طفولته وشبابه: "هي لا تعرف معنى الوطن بداخلي، وتريد قياسه على علاقته بي لا على علاقتي به، ربما لأنها عاشت حياتها تتعلم بأن لها وطنا محتلا، لم تفهم ريما بأنني غادرت وطني ليس لأنني لا أنتمي إليه، وإنما غادرته لأنني لا أريد له أن يغادرني. لم تفهم ريما. وربما لا تريد أن تفهم بأن الطرق التي تعبرها الدبابات الآن هي طرقي التي أمضيت طفولتي وشبابي عليها" (الصهد، ص361)
​دون أن يغيب عن القارئ أن موقفي الفتاتين لم يكونا مختلفين، ولكن موقفه هو الذي بدا لهما مختلفا من السلم إلى الحرب لأسباب ساقها تبدو فيها تفرقته واضحة بين الوطن، والسلطة. وقد كان لضمير المتكلم سطوة مركزة في رسم مأساة الذات، وتحديد الفروق بينها وبين أشكال المعاناة الأخرى، لأنها في الوقت نفسه، مسكونة بالقضية الأساس، التي شغلت بها الرواية في المقام الأول، وهي قضية البدون، في بعدها وقربها من أشكال أخرى من الهوامش تحت سماء الوطن الواحد. 
​ولعله من المهم الوقوف عند موقف (الآخر) من قضايا المهمشين، وهو موقف معروف بدَهيا، غير أن الظفيري يمرر إشارات جديرة بالاهتمام تضمنتها تضاعيف رواية الصهد، ويمكن إجمال تلك المواقف في ثلاثة على سبيل التدليل:
- التهوين من القضية برمتها، وعدّها أمرا عاديا أو لا يستحق المجازفة والمغامرة بحثا عن حياة أفضل في مكان آخر، يظهر ذلك في حديث ابن فضل لعلي شومان خلال توديع الأخير له قبيل سفره: "أنتم بحال طيبة أفضل من غيركم، وإذا أردت عملا وجدت لك عملا" (الصهد، ص241) بهذه الصورة تلغي السلطة – التي يمثلها ابن فضل - معاناة فئة كاملة، وتجعلها لا شيء، بل وتختصرها في البحث عن عمل، لا في الحصول على حق المواطنة التي تساوي بين جميع أفراد الشعب.
- الغبطة غير المفهومة التي تفتح أبواب التساؤل، بعدّ البدون – على عكس الموقف الأول – مدعاة للحسد والغبطة، وهو ما ورد دون تفسير، وبقي مبهما مفتوحا للتأويلات في موقف موظف الجوازات: "قبل أن أغادره بورقة ممهورة بتوقيعه وختم الوزارة، سمعته يقول: أنتم محظوظون" (الصهد، ص180) أهو السفر لمجرد السفر حتى وإن كان بجواز مؤقت غير قابل للتجديد؟ أم هي الفرصة بوطن بديل - لو تيسرت أمور الخروج الأول - تدغدغها أحلام الامتيازات التي تقدمها الأوطان البديلة؟ هذا ما لن نعرفه على وجه الدقة، ليبقى معلقا في جوف جملة موظف الجوازات قابلا لكل الاحتمالات.
- الهامش مأساة مضاعفة لهامش آخر: موقف وشت به الجملة التي ألقاها قيس شاكر في وصف العلاقة المحتملة التي تجمع علي شومان البدون بريما العسقلاني الفلسطينية: "وماذا ستفعل فلسطينية بشاب بدون جنسية" (الصهد، ص238)، رغم أنها جملة لم يتم اختبارها فعليا، ولكنها أبعد من أن تعكس رغبة مخلصة في عدم زيادة الطين بلة.
​وبالانتقال إلى الكيفية التي تعاملت بها الشخصيات مع الواقع الذي يهمشها، فنجد أن ليال منخرطة في الفعل السياسي في الكويت، وفاعلة فيه بإيجابية من يعتقد بقدرته على إحداث التغيير بمقال ينشره: "كانت تعيش وهما بأنها تستطيع إشعال جذوة قيامة بمقال" (الصهد، ص219)، على عكس علي الذي اتخذ لنفسه موقفا ثالثا في الحياة السياسية الكويتية لا ينتمي لأي من الطرفين المتصارعين: "لم يكن وضعي السياسي في البلاد بأفضل من وضعي الاجتماعي، في الحالين أنا لست قضية أحد من طرفي النزاع، لم أجد لدى الفريقين رؤية حقيقية تجاهنا، وهكذا فعل كثيرون أمثالي، ما لم نكن ننتبه إليه هو أننا كنا نؤكد على إقصائنا وندعمه، كنت أرى الحل الوحيد أن نكون طرفا ثالثا في الصراع ضد الفريقين، وكان ذلك مستحيلا إن لم يكن انتحارا" (الصهد، ص196)، لذلك فهو كما يقول: "أنا سلبي، وهذا موقفي" (الصهد، ص197)، والأغرب من ذلك أن يسعى إلى التقليل من طموح ليال بالعمل في ناسا: "جميل أن يكون طموحك العمل في ناسا، رغم أن ناسا ليست بحاجة لنا نحن المنفيون[15] خارج الزمن، والمهمشون[16] داخل الأرض" (الصهد، ص177)
​أما ريما فموقفها من وضعها الفلسطيني وتعاطيها معه قد تجلى أكثر وضوحا في الرسالة السرية التي بعثتها لأبيها من كندا، منذرة بوقوع حرب وشيكة بين العراق والكويت وفقا لمصادر اطلعت عليها في الخارج: "العراق سيدخل الكويت، وسيحتلها أو يحتل جزءا منها، لا أستطيع تحديد ذلك. الذين قدّر لهم أن يكونوا معه في طليعتهم منظمة التحرير الفلسطينية. ستعود الكويت إلى أهلها ولن يجد الفلسطينيون أرضا يعودون إليها، أرجوك يا أبي، لا تغادر الكويت مهما حدث،..." (الصهد، ص257)
​مضمون نص الرسالة التي لاقت اهتمام أبيها وتسفيه علي شومان، هو الكاشف الوحيد لاهتمام ريما بوضعها الفلسطيني في الكويت، وفي غير ذلك فهي الفتاة الجميلة المتفوقة ابنة الأستاذ الذي حمل الراوي العليم على عاتقه في الكتاب الأول (تأريخ) سرد معاناة فلسطيني ترحّل من عسقلان، إلى القدس، إلى الضفة، إلى مصر، إلى السعودية، فالكويت، وكاد أن ينتهي به المطاف بترحيله إلى السودان بعد غزو الكويت، قبل أن يتدخل الطيبون لتمديد إقامته في الكويت[17]
​ننتهي إلى المآلات التي لاقتها الشخصيات المهمشة الثلاث، فالهجرة بقيت دائما خيارا مطروقا في جل أعمال ناصر الظفيري بصفته حلا للأزمة التي يعيشها الإنسان البدون في الداخل منقوص الإنسانية. والصهد لا تختلف في مآلات شخصياتها الرئيسة عن مآلات الشخصيات في الجزأين الآخرين مع اختلاف التفاصيل: كاليسكا، والمسطر. كما تبقى كندا وجهة غالبة لمعظم الشخصيات المهمشة، وهي الوجهة التي اتخذها الظفيري نفسه في رحلة الخروج من قضية لا يلوح أفق انفراجها على المدى المنظور، وهو ما يقرّب بين الواقع والتخييل: واقع ناصر الظفيري، وواقع شخصياته المتخيلة، ولكننا سنتحدث في السطور الآتية عن المآلات المرتبطة بعلاقة الشخصيات المهمشة ببعضها البعض؛ فقد انتهت علاقة علي بريما على نحو مباغت بعد الحوار أدناه:
- ربما كان الوضع الحالي أفضل.
- أي وضع؟ أن تختفي بلدي من الخارطة؟
- بلدك؟
- نعم بلدي.
- بلدك ستبقى، حكامها هم من ذهبوا.
لا أستطيع أن أحتملها أكثر.
- من الأفضل أن تغادري الآن.
- هل أنت جاد؟
- نعم، أنا جاد، إذا سمحت غادري إلى مونتريال، ودعيني وشأني" (الصهد، ص361)
رغم أن علي شومان يبرر لها كلامها، ويوجد لها عذرها قياسا إلى وضعها الفلسطيني الحاد، والبعيد عن معايشتها الفعلية له، إلا أن نهاية العلاقة قد حدثت بعد هذا الموقف، ولكن دعونا نتذكر حوارا آخر سابقا له مع ليال بعد إحدى المظاهرات؛ لنتأمل الفرق بين النهايتين:
- ... لماذا لم تأتِ؟
- ليست لي مطالب معهم.
- ماذا تعني؟
- أعني أنني غير معني الآن بما يحدث لأن نتيجته أيا كانت ستتركني كما أنا.
- لم أفهم
- لأنك تتحركين بمشاعرك دون أن يتحرك عقلك
- أنت سلبي
- أنا سلبي، وهذا موقفي
- إما أن تكون من السلطة أو ضدها، لا يوجد موقف ثالث
- أنا في الموقف الثالث. المتفرج السلبي كما تقولين
- لا أحتملك، أريد أن أذهب" (الصهد، ص196 – 197)
الخلاف يبدو واحدا شكلا ولغة، ولكنه مع ريما كان خلافا حول الوطن، ومع ليال حول السلطة، وكلا الحوارين انتهى بعدم احتمال أحد أطرافه للطرف الآخر، بيد أن القطيعة لم تحدث مع ليال بعد حوارها معه، ولكنها حدثت مع ريما بعد حواره معها.
ألأن من قرر عدم الاحتمال هناك هو علي، بينما من قرر عدم الاحتمال هنا هي ليال؟ أي فرق يحمل الاحتمالين؟ أم لأن حسابات الحرب غيرها حسابات السلم؟ هذه حقيقة، ولكن الحرب تقدم للبشر أعذارهم في بعض المواقف، ولكن الملفت أن العلاقة مع ليال التي لم تتجاوز معرفته بها مدة بسيطة من الزمن، لم تتأثر بحوار حاد كذاك، بيد أن علاقة الطفولة والشباب التي جمعت علي وريما قصمتها كلمات، وكأن ليس للسنوات من رصيد يغفر ويتسع للمواقف المرتهنة للحالات الصعبة، رغم اعتراف علي بأنه قسا على ريما: "نعم، كنت قاسيا على ريما، لأنها تنظر إلي من الخارج ككائن منبت مقتلع من جذوره، كائن وحيد، بلا أرض" (الصهد، ص361)
ما تُوصلنا إليه هذه المقارنة ليس فحوى الخلاف، ومدى انزياحه من خلاف حول السلطة إلى خلاف حول الوطن، ولكنه قدر (البدون) في روايات ناصر الظفيري الذي يراد له أن يخرج من قضيته خاسرا من كل شيء، حتى ما أوشك أن يفوز به وهو الحب، يفقده كنهاية تكاد تكون متشابهة في غير رواية للظفيري، وكأنما رسمُ معاناة هذا الإنسان البدون، لا تكتمل صورتها إلا بتجريده من أي مكسب وإن على المستوى العاطفي، فهل يمكن أن نعدّ هذا قاسما مشتركا في مآلات الشخصية البدون في روايات ناصر الظفيري؛ مجردة – أو يتم تجريدها من الحب – إلى جانب تجريدها من جنسيتها وإنسانيتها، وأحيانا من ذاكرتها كما مر معنا في شخصية "شومان"؟
وضع البدون المهمش بصفته حالةً إنسانيةً مدعاةٌ للتعاطف على الصعيد العام، ولكنها على المستوى الفني ليست بحاجة إلى أن تضاف إلى معاناتها خسارات أخرى لتستحق تعاطفنا مع قضيتها واقعيا وفنيا.
ختاما: تعكس الصهد أزمة انتظار مزمنة، يعيشها البدون على أمل أن تفرج في قريب لا يبدو عاجلا، فالعنوان الذي يحمل معاني الحر الشديد الذي لا يطاق، يجبر البدون على التعايش معه رغم قسوته: "أنا في هذا المكان ولكنني خارج زمنه، أنتظر اللحظة التي أوافق فيها زمني ومكاني، إن فشلت في هذه الحياة فليكن إيماني أنني سقطت في الأرض الخطأ في الزمن الخطأ. ليس إلا" (الصهد، ص231)
ـــــــــــــــ
الهوامش:
1. قراءة نشرت في كتاب "ناصر الظفيري رواية الوطن والغربة" ضمن احتفاء رابطة أدباء الكويت بتجربة الروائي ناصر الظفيري، وتم تدشين الكتاب في يوم الثلاثاء 17 من أبريل 2018، وصدر عن دار مسعى البحرينية.
2. ثلاثية الجهراء: الصهد، دار مسعى، البحرين، 2013، وكاليسكا، دار مسعى، البحرين، 2015، والمسطر، منشورات ضفاف، بيروت، 2017م.
3. يلحظ القارئ أن حركة الزمن ارتدادية، لأنه بعد الفصل الأول (شومان) الذي يحكي عن الجيل الثاني، يعود الظفيري في الفصل الثاني (شحنة المانجروف) ليتحدث عن الجيل الأول. راجع الفقرة الأخيرة من الفصل الثاني ص70
4. يقول قيس شاكر لـ علي شومان: "والدك بدون، والبدون لا يصوت في الانتخابات". كانت تلك المرة الأولى التي أستمع فيها إلى كلمة "بدون"" (الصهد، ص140)
5. انظر الصهد، ص 217
6. راجع الصهد، ص 93
7. راجع الصهد، فصل المهري، الصفحة 93 وما بعدها.
8. راجع الصهد، الفصل نفسه.
9. انظر الصهد، ص 245
10. انظر مثلا: هويدا صالح: الهامش الاجتماعي في الأدب، دار رؤية، 2015، وأعمال نادر كاظم في النقد الثقافي: كراهيات منفلتة، خارج الجماعة.
11. هكذا، والصحيح: كويتيا
12. راجع الصهد، ص 303 و304
13. انظر الصهد، ص 317
14. انظر الصهد، ص 361
15. هكذا، والصحيح: المنفيون
16. هكذا، والصحيح: والمهمشون
17. انظر الصهد، ص 304