الخميس، 19 مارس 2015

ج1: أسئلة الهوية وصور الاغتراب في رواية "ساق البامبو"

ج1: أسئلة الهوية وصور الاغتراب في رواية "ساق البامبو"[1]

منى بنت حبراس السليمية

 
    أن يفوز عمل أدبي بجائزة مرموقة يجعل من تناوله نقديا أمرا مكتنفا بشيء غير يسير من الصعوبة، بسبب الوفرة المكتوبة عنه نقديا وبحثيا ومواكبة. ومتى ما تجشم الباحث مهمة تناوله – بعد كل هذا – فإن عليه اختيار أحد سبيلين: فهو إما أن يتجه أفقيا فيبحث فيما لم يُبحث من قبل، وإما أن يذهب رأسيا فيغوص عميقا فيما تم تناوله سلفا؛ لعله يبلغ ما لم يبلغه سواه في محاولة النأي عن الوقوع في فخ التكرار.

   غير أن رواية ساق البامبو للسنعوسي تحاصر قارئها بموضوعة الهوية وإشكالاتها، حتى بدا أن التغاضي عن هذه الثيمة - بغية الحرث في جوانب أخرى - تنكرٌ للاشتغال الأساس الذي أنفق الروائي عليه جهده وأفرغ فيه طاقته، بدءا من العنوان الذي اختاره بأن يكون "ساق البامبو" تأسيسا لفكرة الجذور واللاجذور في السيرورة التاريخية لحياة البشر المنفيين على هوامش الأوطان.

    دون أن يفوت القارئ الالتفات إلى ما لساق البامبو من مدلولات تحيل إلى الوهن والضعف، فتحيل مباشرة إلى تلك الشخصيات المهمشة والمستضعفة في الرواية التي كان "هوزيه" أبرزها وليس أوحدها.

    يقول هوزيه – بطل الرواية: "لو كنت مثل شجرة البامبو، لا انتماء لها. نقتطع جزءا من ساقها.. نغرسه، بلا جذور، في أي أرض.. لا يلبث الساق طويلا حتى تنبت له جذور جديدة.. تنمو من جديد.. في أرض جديدة.. بلا ماض.. بلا ذاكرة.. لا يلتفت إلى اختلاف الناس حول تسميته.. كاوايان في الفلبين.. خيزران في الكويت.. أو بامبو في أماكن أخرى"(ص94)

   فهذا النموذج الذي يقدمه السنعوسي لأسئلة الهوية من خلال رمزية "ساق البامبو" ليس مألوفا في الذهنية العربية متى ما ارتبط الأمر بمسألة بالغة الخطورة والحساسية كمسألة الهوية؛ فقد درجت الأدبيات العربية على تأصيل هويتها "المميِزة" بحثا عن أعمق الجذور ضربا في أرض التاريخ، تفتيشا عما يجعل لتلك الهوية جذورا قبل أن يكون لها ساق، إذ لا ساق بدون جذور، ومن ليس له ماضٍ ليس له حاضر فضلا عن مستقبل. لكن أن يطرح عمل أدبي هذه القضية بشكل معاكس لما اعتاد عليه العربي في سيرورته التاريخية والأدبية يجعلنا أمام طرح جديد للفكرة والإشكالية المرتبطة بها، بما يكشف عن التحولات الكبرى التي تعتمل في الواقع العربي عموما – والخليجي خصوصا – تحت تأثير معطيات كبيرة، ليس أولها العمالة الوافدة وليس آخرها القرية الكونية الصغيرة.

   علما أن روايات عدة تناولت إشكالية الهوية خليجيا، لاسيما بعد الحقبة التي عرفت بما بعد النفط، وهي روايات أكثر من أن تذكر[2]، ولكن يبقى أن الرؤية التي حكمت توظيف هذا الموضوع كانت تأخذ حركة تنطلق من الداخل إلى الخارج في معالجة القضية وفي نظرتها إلى الآخر، بيد أن ساق البامبو تعالج القضية باتجاه عكسي ينطلق من الخارج باتجاه الداخل منظورا إليها بعين الآخر في نظرته وحكمه على المجتمع الخليجي عموما والكويتي خصوصا؛ لتطرح إشكاليات قد تبدو غير ذات صلة عميقة بالفرد الخليجي بقدر ما هي متعلقة بالآخر، الذي ليس الإنسان الخليجي سوى أحد أسبابه ومشاكله التي ظل عاجزا عن إيجاد الحلول لما تسبب في إيجاده.

    وسنقف في السطور القادمة على صور الاغتراب التي رافقت رحلة "هوزيه" أو "عيسى" في رحلة بحثه عن وجوده/ هويته، وقد أجملتُ تلك الصور في سبع منها على النحو الآتي:

1.     الاغتراب المكاني:

     وهي الصورة الأظهر والأجلى، وقد استطاع الروائي أن يحفر عميقا في المكان الفلبيني ليصور التفاصيل التي تعكس معرفة عميقة بذلك البلد. تلك المعرفة التي لم تقتصر على وصف المشاهد من رسوم الطبيعة وتفاصيلها المكانية، ولكنها تغلغلت عميقا في النسيج الثقافي والتاريخي الفلبيني بأعلامه كـ "خوسيه ريزال" رمز الفلبين القومي، الروائي والرسام الذي استطاع برواية كتبها أن يحرك الوعي الشعبي لينهض دفاعا عن بلاده فيطرد المحتل الإسباني الذي استوطن الفلبين قرابة أربعة قرون من الزمان، وكذا الشأن للسلطان المسلم لابو - لابو سلطان جزيرة ماكتان في دفاعه عن جزيرته ضد الحملات التنصيرية التي قادها ماجلان. وصولا إلى أساطير الفلبين وحكاياتها الشعبية التي شكلت وعي "هوزيه ميندوزا"، فضلا عن الملامسة العميقة للهموم التي تشغل ذلك القطر الذي لم يسلم هو الآخر من إشكالية الهوية بسبب من الامتزاج العرقي وتداخل الجنسيات والأصول. ذلك الحفر – كما قال كثير ممن تناول رواية ساق البامبو – أوقع القارئ في وهم التصديق بأن الكاتب إنما هو "هوزيه ميندوزا"[3]، وليس الكويتي سعود السنعوسي بسبب من تلك الدقة التي قلما يتقنها غير المنتمي للبلد نفسه.

     في المقابل نجد الانتقال إلى وصف المكان الفيزيائي في الكويت يأتي على النقيض مما كان في الفلبين: "الطبيعة هنا، لا تشبه الطبيعة هناك في شيء إلا شروق الشمس في النهار، وطلوع القمر في الليل. حتى الشمس، تقول والدتي: "شككت في بادئ الأمر أنها الشمس ذاتها التي أعرف"(ص29)، بل إن "عيسى" نفسه لم يجد من خلال النافذة التي يطل منها في غرفة غسان شيئا يستحق الخروج من أجله، على عكس نافذة صديقه تشانغ في مانيلا تشاينا تاون: "في غرفة تشانغ، كنت أستعين بالنافذة المطلة على معبد سينغ – غوان على ضيق المكان وصمته، أما نوافذ شقة غسان، على كثرتها، فلم أجد من بينها نافذة أشاهد من خلالها ما يثير الاهتمام سوى ذلك الشعور المرير بالغربة تجاه الأرض والناس"(ص195).

     ورغم الحضور الطافح للمكان الفلبيني في رواية ساق البامبو، فإن الحديث عن الغربة النفسية لدى شخصية "هوزيه" كانت حاضرة بسبب علمه المسبق بانتمائه إلى مكان آخر، ووطن آخر"برغم السنوات التي قضيتها بينكم.. أنا لا أنتمي لكم"(ص179) فما انفكت أمه تذكره بذلك الانتماء لبلد لا يعرف عنه سوى شخص اسمه راشد "كانت تحرص بين الحين والآخر أن تذكرني بانتمائي إلى مكان آخر أفضل"(ص13).

    وتتبدى تلك الغربة النفسية في ارتباط المكان بشخص رجل لا يعرف عنه أكثر من كونه سببا في وجوده في هذه الحياة: "لم تتوقف أمي عن الحديث حول أبي والكويت، والحياة التي تنتظرني. كنت أبكي إذا ما جاء ذكر الكويت التي لا أعرف عنها شيئا. كنت لا أتصور نفسي في مكان غير أرض جدي ميندوزا في فالنسويللا"(ص71).

1.1   الكويت في ذهنية الآخر:

     ترتبط الكويت – والخليج عموما – في ذهن الآخر، بوصفها أرضا للأحلام التي تمنح المستظلين بها أمانا ماليا لا حدود له، وإذا ما كان هذا الآخر أحد أبنائها فإن ما ينتظره سيكون حياة باذخة ومرفهة، وقد كانت "جوزافين" ترسم لهوزيه صورة للكويت تماثل الجنة: "أصبحت أنتظر ذلك اليوم الذي سأصبح فيه غنيا قادرا على الحصول على ما أريد من دون جهد"(ص71)، كيف لا وهي بلاد العجائب، والجنة المؤجلة لمن كان مثله "كويتي الأب"، فقد بدا أنه الأوفر حظا في بلد تضيق فيه حظوظ الرجال: "أدركت أمي أن مستقبلا آمنا، قلما يتوفر لرجل، ينتظرني هناك، في الكويت، التي تقدم لمواطنيها، وأنا أحدهم، ما لا تقدمه أكثر الدول تقدما" (ص77)

     ولعله من نافل القول أن هذه الصورة النمطية في ذهنية الآخر، ليست مما يرفع من شأن مجتمعات كل ما تستطيعه هو أن تعيش في دعة، وتنظر إلى الآخر باستعلاء لتنصب حاجزها بينها وبينه لمجرد الفائض لديها من المال، رغم أنه مال يصنعه الآخر بعرق جبينه، في حين يأتيها باسم البترول والدعم الحكومي، يقول "عيسى" سائلا "خولة": "قبائلنا مشهورة بزراعة الأرز.. بم تشتهر القبائل هنا؟ أجابت من دون تفكير: بأكل الأرز.."(ص278)

2.1متلازمة الخيبة والحنين:

    لا شيء كالخيبة يعيد النفس إلى بهاء الماضي. والارتطام بصخرة الواقع يعيد للحلم رونقه، فالاكتشافات لا تكون دائما وفق تصوراتنا المسبقة، فالكويت – مدينة العجائب – لم تكن كحفرة أرنب أليس في بلاد العجائب، يفضي بسهولة ويسر إلى أرض الأحلام. فالوطن ليس مالا وغنى، وهو ما اكتشفه "عيسى" بمجرد وصوله إلى بلاد أبيه: "لأول مرة أشعر باللاجدوى. حلمي القديم.. الجنة التي وُعدت بها. سفري. المال الذي بات يفيض عن حاجتي.. ماذا بعد؟ في بلاد أمي كنت لا أملك شيئا سوى عائلة. في بلاد أبي أملك كل شيء سوى .. عائلة"(ص303).

     تلك الخيبة كان منشؤها من وجوه الكويت العديدة، "الكويت .. حلم قديم.. لم أتمكن من تحقيقه رغم وصولي إليها وسيري على أرضها. الكويت، بالنسبة لي حقيقة مزيفة.. أو زيف حقيقي.. لست أدري، ولكن، للكويت وجوه عدة"(ص324)، وذلك التيه في بلد يعترف بأوراقه الثبوتية وينكر وجهه ما كان له إلا أن يوقظ حنينه إلى الفلبين: "بلاد العجائب.. صورة مغايرة لصورة كنت أراها طيلة حياتي في الفلبين.. صورة خاطئة غير مطابقة لأحلامي.. لا شبه بين البلاد في مخيلتي القديمة وواقعي الجديد سوى أن هذه وتلك .. كلاهما.. بلاد العجائب"(ص 367).

2. الاغتراب الزماني:

      يمثل زمن الرواية - منذ منتصف الثمانينيات وحتى زمن كتابة "هوزيه" لروايته - أحد أهم صور الاغتراب. ذلك الاغتراب الذي يستكمل صورة الاغتراب المكاني ويعمقها على النحو في المبحثين أدناه:

2. 1 الحضور التاريخي الكويتي معادل للحضور المكاني الفلبيني:

     عوضت ساق البامبو غياب المعرفة التفصيلية بالكويت مكانيا، بالثقل التاريخي لها، فكانت الاستعانة بالأحداث الكبرى للكويت معادلا للحضور الفيزيائي العميق للفلبين، فنلحظ أن الأحداث التاريخية بدأت منذ العيد الوطني للكويت الذي صادف يوم تنصيب أول امرأة تحكم الفلبين في الـ25 من فبراير من العام 1987م. مرورا بأحداث محاولة اغتيال أمير الكويت في اليوم نفسه الذي وصلت فيه "جوزافين" إلى الكويت، ثم اختطاف الطائرة الكويتية "الجابرية" وهي في طريقها إلى تايلند متزامنا مع مولد "عيسى"، ثم حرب الخليج الثانية وما رافقها من أحداث، وأخيرا وفاة أمير الكويت في فجر اليوم نفسه الذي وصل فيه "هوزيه/عيسى" إلى الكويت. فهذه الخارطة التاريخية هي التي شكلت الكويت الحالية في وعيها بوجودها ونافذة العالم إليها في كل تلك الأحداث.

2.2 اقتران الغربة التاريخية بالغربة الذاتية:

     رغم ما كان للبعد التاريخي للكويت من معادل للحضور الفيزيائي للفلبين، إلا أن تلك الأحداث التاريخية كانت في مجملها أحداثا مأساوية، مما كرس غربة "هوزيه" الزمانية، ومن قبله "جوزافين"؛ التي وصلت في اليوم نفسه الذي نجا فيه أمير الكويت من محاولة اغتيال(ص30)، الأمر الذي جعلها نحسا تطيرت منه الجدة غنيمة، فما استطاعت بسببه أن تحظى برضاها، ثم اقتران ميلاد "عيسى" باختطاف الطائرة "الجابرية".

    تقول سيدة البيت الكبيرة: "لتعلم وحسب.. أن النحس سيطاردك. انظر ماذا حل بصديقك بعد ولادة ذلك الشيء البغيض. إنه مثل أمه، لعنة"(ص51). "اقذف بهما خارجا وانظر كيف ستحل البركة عليك.. ومن ثم عد إلى بيتك، وستجدني، بقلب الأم، أغفر لك ذنبك العظيم"(ص51)

     وما تلا ذلك من اندلاع حرب الخليج الثانية في الوقت الذي كانت فيه "جوزافين" تهيئ ابنها للعودة إلى أبيه، تحقيقا للوعد، ويقع "راشد" في الأسر مهددا بضياع الحلم "ما عادت الكويت تمثل لي شيئا منذ أخبرنا إسماعيل الكويتي عن وقوع أبي أسيرا في الحرب. انصرفت فكرة العودة إلى بلاد أبي من تلقاء نفسها"(ص101)

     وأخيرا وليس آخرا، وفاة أمير الكويت في فجر اليوم نفسه الذي وصل فيه "هوزيه" إلى الكويت: "مطار كئيب ذلك الذي حطت به الطائرة يوم الأحد، الخامس عشر من يناير 2006. الوجوه تشبه مطارها، كئيبة بشكل لم أجد له تبريرا" (ص185) ليكتشف بعد حين سبب تلك الكآبة، وشبه يقين يؤكد فكرة لعنة جوزافين التي تؤمن بها الجدة.

     هذا التاريخ المعادل لحضور الفلبين المكاني، لم يفعل سوى تعميق غربة "هوزيه/عيسى" إذ هي أحداث مأساوية برمتها، ربطت حياته بآلام الكويت، ليسأل غير مرة: "من يشكل لعنة للآخر؟"(ص394)

3. الاغتراب الاجتماعي:

     أحصت هذه الورقة سبعة أوضاع اجتماعية كرست حالة الغربة المكانية والاغتراب النفسي في المجتمع الكويتي، منذ ميلاده وحتى رحيله الأخير من الكويت، وهي كالآتي:

 
1.3 فهو لم يكن سوى [شيء] عندما وُلد - كما تقول جدته غنيمة لوالده بعد ولادته: "إياك أن تحضر هذا الشيء إلى هنا"(ص75)، وقولها له: "انظر ماذا حل بصديقك بعد ولادة ذلك الشيء البغيض"(ص51)، فهو مجرد (شيء)، قابل للتخلص منه متى ما فاض عن الحاجة، رغم أن هذا الشيء هو الوريث الوحيد كما - أصبح لاحقا - لاسم الطاروف، بعد أن توقف نسل العائلة من الذكور، فهو الذي "ليس بيد أحد غيره أن يضمن استمرار اسم أبيه وجده، وتوريث لقب العائلة لذريته"(ص211)

2.3 ثم غدا [ورطة] لدى عودته. يقول: "وحين عدت إلى بلاد أبي وجدتهم متورطين بي، يريدونني ولا يريدونني"(ص224). وككل ورطة تستدعي البحث عن حل للخروج منها، أو تجاوزها، وقد تبدت الورطة "عيسى" في كامل صورها لدى الجدة "غنيمة": فجدته متورطة به، وحائرة في أمره، فهو رغم وجهه الفلبيني وريث لقب الطاروف الوحيد. وهو ورطة عمته "نورية" التي ترى فيه تهديدا لمكانتها الاجتماعية في بيت زوجها مما يجعلها مدعاة للسخرية بين زوجات أخوته(ص223)، تقول: "لدي ابن وابنة في سن الزواج، لن أسمح لهذا الفلبيني أن يعرقل زواجهما"(ص223) وكأي ورطة قاهرة، كانت نورية أول المبادرين إلى تسوية مالية معه لقاء عودته إلى بلاد أمه.

     كما أنه ورطة عمته "هند" المدافعة عن حقوق الإنسان. ورطة جعلتها حائرة بأيهما تضحي، باسم الطاروف ونسبه العريق، أو بمبادئها في الدفاع عن حقه كإنسان في العيش في بلاد أبيه، ولكنه مع كل هذا ليس شيئا يستحق التضحية، ولم يكن يمثل شيئا ليستحق حتى التضحية به.

3.3 وأصبح [سرا] لا يجب إفشاؤه عندما قُبل للإقامة في ملحق بيت الطاروف: "سأعيش في بيت جدتي، أو ملحق بيتها، بصفتي سرا لا يجب أن يُكشف للآخرين"(ص230)، وكان عليه أن يحفظ جيدا قائمة التعليمات التي لا يجب مخالفتها وإلا عرّض اسم "الطاروف" العريق للمهانة والاحتقار، توصيه خولة: "إذا ما سألك الجيران أو خدمهم.. أنت الطباخ الجديد"(ص230)، وكان عليه وحده أن يتحمل تبعات إفشاء السر أمام صديقه جابر، فهو كما يقول: "لم أخطئ حين أخبرت صديقي بعلاقتي بهند الطاروف، ولكنني أخطأت حين لم أطلب منه الاحتفاظ بالأمر سرا كما أرادت عائلتي"(ص366)، فما توصل إليه جابر من حقيقة عيسى "انتقل إلى أمه، ومن أمه إلى البيوت المحيطة، ومن البيوت المحيطة إلى أناس آخرين، ولأن الكويت صغيرة، يكاد كل مرء[4] فيها يعرف الآخر، ولأن للكلمات أجنحة، فقد طار الخبر في فضاءات النميمة، في المجالس النسائية تحديدا، يحط مستريحا على لسان إحداهن ليعاود الطيران مرة أخرى"(ص366)

    فما كان شيء كهذا ليكون كبير شأن، مهما كانت الكويت صغيرة كما يتداولها الكويتيون - كقبضة كف اليد - لولا سلطة الناس على الناس فيها، لتصبح أسئلته الذي يرددها بين الحين الآخر ليست سوى من قبيل محاولة الفهم لما لا تفسير له، سوى العرف الاجتماعي العصي على التغيير: "يا لهذه الصغيرة.. لو كانت كبيرة.. هل سأضطر لكل ذلك؟ كيف يتسنى للمرء العيش مع كل ذلك الحذر الذي يجب أن يتوخاه في تصرفاته وحديثه وتحركاته؟ (...) وما تلك السلطة التي يملكها الناس على بعضهم البعض؟"(ص366)

    وما ذاك إلا لأن حكاية عيسى ليست حكايته فقط، بل هي حكاية الطاروف الاسم الكبير الذي ينتظر منه الناس زلة واحدة للانتقاص منه، ففي الكويت "الصيت ولا الغنى"(ص368). وليست الطاروف سوى النمذجة التي تتخذها الطبيعة الاجتماعية المقترنة بالحساسية القبلية في المجتمع الكويتي[5]. 

4.3وهو إلى جانب ذلك [عار]؛ بسبب الوجه الفلبيني الذي يحمله، فهو "عيسى راشد عيسى الطاروف، اسم يجلب الشرف.. وجه يجلب العار"(ص214). هو عيسى ابن الشهيد راشد.. وفي الوقت نفسه هو .. عيسى ابن الخادمة الفلبينية!(انظر ص214)، فالعار أول عناوينه هو الوجه الذي يحمله، فقد كانت الملامح هي الهم الأول الذي حملته الجدة غنيمة عندما علمت بعودة حفيدها، سائلة غسان: "كيف تبدو ملامح ابن الفلبينية؟"، فيجيبها: "فلبينية."(ص211)

     ففي سؤالها احتمالية التغاضي عن العار القديم - بكون أمه فلبينية - فيما لو كانت الملامح لا تحيل إليها، ولكن أن تأتي الملامح مذكرة بها فهو العار الذي لا غطاء له ولا ساتر، ذلك الوجه الذي حاول راشد في أول ميلاد ولده أن يبحث فيه عن شيء واحد يشبهه، ولكنه "كان يشاهد وجها برقع مأخوذة من وجوه شتى، لم يكن وجهه من بينها"(ص49)

    "عيسى" أو "هوزيه" كما يقول مجانين بوراكاي الـ "كويتي made in Philippines" قد حالت ملامح وجهه دون ذوبانه في المجتمع الكويتي، الذي ما انفك كل شيء فيها يذكره به، مهما حاول إخفاءه يبقى الوجه وحده كالحا يعيده إلى حادثة المركب التي كانت ما قبل الميلاد، ففي صبيحة عيد الأضحى، وقد لبس كما يلبس أبناء خالاته اللباس الوطني، لم يجد شيئا يشبهه في تلك الهيئة سوى وجهه: "كل شيء فيّ كان أبيض في تلك الصبيحة ما عدا حذائي، وحلقة الرأس، كانا باللون الأسود. وقفت أمام المرآة أشاهدني، لا شيء يشبهني سوى.. وجهي"(ص285) وهو ما لم يفعله في عيد الفطر قبله، رافضا الخروج للسلام على جدته بعد الظهر. الوقت الذي اطمأنت فيه إلى أن أحدا لن يزورها، قال غاضبا في وجه خولة: "بعد أن رحل الجميع؟ .. بعد أن اطمأنت إلى أن أحدا لن يقابل وجه العار؟"(ص275)

     ولكن ذلك الوجه الذي رغم فلبينيته، كان له صوت "راشد"، كما قالت له عمته هند مستغربة عندما سمعت صوته للمرة الأولى، في اليوم التالي لانتقاله للسكنى في ملحق البيت: "لك صوت راشد.. كأنك هو يلبس وجها غير وجهه"(ص233)، فأيهما أمضى وأخلد: أن يكون هو، أو أن يلبس وجها غير وجهه؟ فإذا كان الوجه ليس سوى لباسا، هل يستحق كل هذا النكران؟ لاسيما أن الصوت الذي "هو" تسبب في جعل الجدة تبكي عندما سمعته هي الأخرى للمرة الأولى: "أمي تقول .. لك صوت أبيك"(ص243)

     ولكنه يبقى مجرد صوت يذوب في الهواء، ولا يحتفظ بذبذباته كما يحتفظ الوجه بقسماته، فهو كويتي بوجه فلبيني. حقيقة تكفي للتشكيك في جمال الكويت في عينيه عندما طمأنه إبراهيم سلام بقوله: "الكويت جميلة.. الناس هنا طيبون"(ص271) يستطرد "عيسى" في سرده محادثا نفسه: "توقفت عند كلماته كثيرا. كدت أقول له: "لأنك لست كويتيا بوجه فلبيني!"(ص271).

     فتكف الطيبة ويمتنع الجمال مع الأشياء التي تكتسب صفات نصف كويتية، فالطيبة الكويتية تكون مع الكويتي الخالص أو الآخر خالصا، ولكنه عندما يكون في منطقة البين بين يواجه بالرفض والإقصاء، وهو ما لم يشعر به إبراهيم الفلبيني الكامل، وأحس به عيسى نصف الكويتي.

     ولكن وجه العار المخبأ في بيت الطاروف كان مكشوفا على المجتمع، يستقبله بالهوان منذ أول وصوله إلى الكويت في مشهد درامي مترع بالتراجيديا، يسرد الحادثة: "وقفت في حيرة أمام هذه الطوابير. هل أتوجه للطوابير التي يقف فيها الفلبينيون الذين كانوا معي في الرحلة؟ أم تلك الطوابير التي تقف فيها أناس يشبهونني؟"(ص185). "استدرت متجها إلى حيث تختم الجوازات، حاملا حقيبة وجودي، تلك التي تضم صور أبي القديمة وأوراقي الثبوتية. وقفت في أحد طوابير الـ G.C.C، خلف رجال يرتدون تلك الثياب الفضفاضة مع أغطية الرأس العربية.. لابد أنهم، مثلي، كويتيون." (ص185)

    بيد أنه ووجه بالسباب والشتائم لوقوفه في المكان الخطأ، قبل أن يرى الرجل الذي يختم الجوازات جواز "هوزيه" الأزرق، صارفا إياه إلى الطابور الآخر حيث يقف من يحملون وجوها تشبه وجهه. يقول معلقا: "رفض وجهي قبل أن يرى جواز سفري"(ص186)، ليبقى مواجها بالرفض والاستغراب اللذين حالا دون النجاح في أية محاولة لنسيان ذلك الوجه، ففي المقبرة أثناء تشييع الشاعر الكويتي فائق عبد الجليل - بعدما عثر على رفاته في مقبرة جماعية جنوب العراق - لم يشغل الناس حزنهم عن النظر في وجهه. يقول: "كثير من الناس كانوا ينظرون إلي. يتهامسون. يستغربون وجودي على ما يبدو. تبا لهذا الوجه. تعددت أسمائي وبقي وجهي صامدا كما هو يثير دهشة الناس من حولي."(ص252)

      ولكنه استطاع أن ينسى وجهه مرة واحدة في غمرة إحساسه بوطنيته الكويتية أثناء مشاركته لأصدقائه في الحملات الإعلامية المتزامنة مع الانتخابات البرلمانية؛ محذرين الناس من بيع وطنهم، فقد كان مستمتعا بذلك الحماس الذي نقلوه إليه، يقول: "حتى نسيت وجهي الآسيوي وأنا أحمل الأوراق بين يدي. أثبتها بين زجاج السيارات وماسحات المطر، مرددا ما لم أتمكن من قراءته: "الكويت .. ليست للبيع". في تلك الأيام كنت كويتيا كما لم أكن في حياتي. كنت في ذروة شعوري بالانتماء إلى هذا الوطن الذي التحفت رفات والدي بعلمه ذي الألوان الأربعة. استعدت كلمات ميرلا في إحدى رسائلها الإلكترونية: "تغلب على وجهك مثلما تغلبت أنا على وجهي[6]. أثبت لنفسك قبل الآخرين من تكون. آمن بنفسك، يؤمن بك من حولك. وإن لم يؤمنوا فهذه مشكلتهم هم، ليست مشكلتك"(ص363)

 
5.4 وقد كان [ضحية] في أكثر من موقف، كما هو الضحية على الدوام، ولكن أن يكون المرء ضحية، يفترض في المقابل وجود الجلاد في الطرف الآخر، وتختلف صورة الجلاد باختلاف المواقف وظروف الزمان والمكان، ولكن الضحية تلزم صورتها الأحادية بوصفها الطرف الأضعف. وثمة إشارة وردت تجعل من الجلاد يلبس لباس الإرهابي في اللاوعي السحيق المغلف بالشعور بالظلم في منطقة الوعي، فيذكر "عيسى" أنه في منام ما، استيقظ على صوت أذان الفجر من كابوس يحكيه: "أيقظني من موتي من حلم أفزعني. كنت في مندناو. ذراعاي مقيدتان إلى ظهري. وجهي إلى الأرض. نورية وعمتي عواطف تمسكان بكتفيّ تثبتانني إلى الأرض. ماما غنيمة تجلس في مكان بعيد بين الأشجار الاستوائية، بعينين دامعتين، لا تحرك ساكنا. هممت أناديها.. أستنجد بها: "ماما غنـ..". أحدهم شد شعري إلى الوراء. التقت عيناي بعينيه مباشرة. كان أحمد زوج عمتي عواطف يمسك سكينا.. صرخت: "ماما غنـ.." حزّ أحمد عنقي قبل أن أتم اسم جدتي."(ص267)

     ففي هذا الحلم معطيان، أولهما: أن "عيسى" وجد نفسه في "مندناو"، وبالعودة إلى ما تعنيه مندناو في الفلبين، فهي جزيرة في جنوب الفلبين تعد مقرا لجماعة أبو سياف التي ارتبطت بالإرهاب، وخطفها للرهائن باسم الإسلام، أما ثانيهما: فهو زوج عمته عواطف، وقد سبقت الإشارة إليه في صفحة سابقة أنه ذو ذقن طويلة(ص266)، في دلالة إلى تدينه الواضح، فهو العارف بالله كما حاولت عواطف أن تداري خوفها من ردة فعله إذا ما عرف بحقيقة ابن أخيها من خادمة فلبينية: "أحمد زوجي رجل يخاف الله، ولن يكون ذا موقف سلبي لو علم بالأمر"(ص222)، ليأتي الجمع في الحلم بين مندناو التي ارتبط اسمها بـ (الجماعة الإرهابية)، وأحمد ذي (اللحية الطويلة) ليعطي الدلالة على الصورة الذهنية التي يحملها "هوزيه" عن الإسلام المقترنة بالإرهاب، وهو ما سيرد بيانه في مبحث الاغتراب الديني.

6.3وأصبح [رقما مكملا] بين أصدقائه الذين لطالما عشقوا لعب لعبة الورق التي تشترط ستة لاعبين بينما هم حتى قبيل مجيء عيسى كانوا خمسة فقط، ولكنه وضع – رغم ضآلته – أشعره بأهمية وجوده: "قد يبدو الأمر تافها، ولكن، لأول مرة في الكويت أشعر بأهمية وجودي، وإن كان ذلك تكملة عدد للعب الورق"(ص355).

     ولكن مجانين بوراكاي هم الوجه الحبيب للكويت الذي استطاع من خلاله أن يجد نفسه وعالمه، الكويت التي لطالما تساءل أي الوجوه هو وجهها، والتي بقيت حتى قبيل لقائه بأحد المجانين "مشعل" قيد البحث(ص323)، خائفا من أن تكون الكويت التي عايشها قبل تلك اللحظة هي الكويت ولا شيء سواها، فهي "صور كثيرة.. إحداها لا تشبه الأخرى"(ص323) ولكنه في يوم لقائه بمشعل ضحك لأول مرة ضحكة حقيقية منذ وصل إلى الكويت(ص345)، بل إن ظهور مشعل على هذا النحو منحه الفرصة للاقتراب من كويتيته التي لم يشعر بها قبل(ص346). أصدقاء بوراكاي الخمسة: مشعل وجابر وعبدالله ومهدي وتركي، هم من أهداهم هوزيه ميندوزا روايته "سيرته الذاتية" بقوله في صفحة الإهداء: "إلى مجانين لا يشبهون المجانين.. مجانين.. لا يشبهون إلا أنفسهم.. مشعل.. تركي.. جابر.. عبدالله ومهدي. إليهم .. وحدهم"(ص13) فقد اختصروا الكويت ووجوهها الكثيرة في وجوههم، فكانوا له الوطن وهو الذي لم يجد وطنا، ليعنون الفصل الأخير من روايته بقوله - هذه المرة - وليس بقول خوسيه ريزال كما درجت العادة في جميع الفصول، بقوله: "إن لفظت الديار أجسادنا.. قلوب الأصدقاء  لأرواحنا أوطان"(ص391) بتوقيع هوزيه ميندوزا

7.3وهو في كل حالاته مجتمعة [المنفي] من الكويت وداخلها. وقد تعرض "عيسى" للنفي خمس مرات[7] منذ ولادته وحتى رحيله الأخير: النفي الأول/ عندما طرد رضيعا هو وأبوه من الباب الخلفي للبيت. النفي الثاني/ عندما تم ترحيله هو وأمه إلى الفلبين بعد حادث اختطاف الطائرة الجابرية - وعاش في الفلبين منفيا على أمل العودة. النفي الثالث/ عندما عاد إلى الكويت واختير له منفى داخلي في ملحق البيت: "كنت أنظر إلى عائلتي من منفاي في ملحق المنزل، والحسرة تملأ قلبي" (ص265). النفي الرابع/ عندما نفي من بيت الطاروف مرة أخرى - من أجل بقاء خولة فيه - ليستقل في شقة وحيدا. النفي الخامس والأخير/ عندما خرج إلى منفاه الأخير الفلبين بعدما ضاقت عليه الكويت وأوصدت أبوابها في وجهه، وقد بدا له أنه فهم مقولة ريزال فهما معكوسا عندما قال: "إن الذي لا يستطيع النظر وراءه، إلى المكان الذي جاء منه، سوف لن يصل إلى وجهته أبدا" (ص383) وكان قد حسب الكويت مكانا جاء منه حين ولد فيه، ليكون وجهته التي قرر الوصول إليها بعد غياب، ولكن.. حين نظر وراءه لم يجد سوى الفلبين.. مانيلا.. فالنسويللا.. أرض ميندوزا (ص383)

ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ورقة قدمت ضمن فعاليات الملتقى الأدبي الـ19 الذي نظمته وزارة التراث والثقافة بالتعاون مع اللجنة الوطنية للشباب بولاية خصب خلال الفترة من 8 – 12 من سبتمبر 2013م، حضر تقديمها الروائي سعود السنعوسي.

[2] منها على سبيل المثال لا الحصر: رواية الطين لعبده خال، ورواية "ميمونة" لمحمود ترواري، ورايات "إكليل الخلاص" و"الطقاقة بخينة" لمحمد المزيني، ورواية "امرأة من طابقين" لهيفاء بيطار، ورواية "جاهلية" لليلى الجهني، غيرها كثير.

[3] نسب السنعوسي الرواية في الغلاف الداخلي لـ"هوزيه ميندوزا"، الأمر الذي أوقع القارئ في وهم أن يكون كاتب الرواية شخص آخر غير السنعوسي.

[4] هكذا، والصواب: امرئ.

[5] سيرد تفصيل ذلك في مبحث "الاغتراب الاجتماعي وجه آخر للنقد الاجتماعي".

[6] ميرلا، الفلبينية بملامح أوروبية ولدت سفاحا، تحمل ملامح أبيها المجهول: " جاءت ميرلا بشكل جديد. كانت فلبينية الملامح لولا بشرتها البيضاء المائلة للحمرة، وشعرها البني، وعيناها الزرقاوان، وأنفها البارز" ص22. تقول: "لا أنظر في هذا الجمال سوى علامة تميزني عمن حولي وتذكرني بماضي أمي وظروف ولادتي لديك أوروبي حقير. وجدتني أعوض نقصي بحب الفلبين وكل ما هو فلبيني وكأنني أمحو بهذا الحب آثارا تركها والدي الأوروبي على وجهي" ص281

[7] تقترب صور النفي التي تعرض لها "هوزيه" من تلك الصور التي فصّلها د. محمد الشحات في كتابه "سرديات المنفى"، عمّان، دار أزمنة، 2006، ص35 وما بعدها، المتمثلة في النفي الداخلي، والنفي الخارجي، والنفي المزدوج، والنفي الوجودي، وإن كانت في رواية ساق البامبو تتخذ بعدا اجتماعيا بالدرجة الأولى.

يتبع .. ج2

هناك تعليقان (2):

  1. ةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةة

    ردحذف
    الردود
    1. ةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىىى

      حذف