حكايا الأستاذ والتلميذ
منى بنت حبراس السليمية
كنت ما أزال في السادسة عشرة عندما وافت المنية أمير البيان الشيخ عبدالله بن علي الخليلي في الـ 30 من يوليو 2000م، وفي الرابعة والعشرين عندما وافت أبي في الـ 25 من أغسطس 2008م، لذا فإن الذاكرة حديثة جدا مقارنة بتاريخ علاقة جمعت التلميذ بالأستاذ. وأعلم سلفا أن ما سأسرده ليس بالوفرة التي تسد توق الباحث في حياة أحدهما أو كليهما، وهي حكايا قليلة، بعضها شهدتُه وبعضها مما حكاه لنا والدي يرحمه الله عن أستاذه.
لقد كان تأثير الشيخ عبدالله الخليلي في مسيرة والدي الشعرية تأثيرا خاصا، بل أحسب أنه بلغ من العمق مبلغا كبيرا، تجاوز حدود العلاقة الشعرية إلى علاقة إنسانية نبيلة؛ فقد كان مجلس الشيخ الخليلي الأسبوعي موعدا يحرص والدي على حضوره، ولا يكاد يتخلّف عنه إلا لسبب قاهر.
وقد وثّق والدي كثيرا مما كان يدور في مجلس الشيخ الخليلي في قصائد شعرية، تكشف كثيرا مما كان يدور في مجلسه العامر بالروّاد والمريدين، ولعل "المطارحة الودية" التي جمعها الشيخ الخليلي وقدّم لها - وقد أثبتها والدي في ديوانه فيض الإحساس ص 139 - توثق جانبا مهما مما كان يدور في المجالس الأدبية السمائلية.
فضلا عما يتعدى حدود هذا المجلس - وغيره من المجالس - من مراسلات شعرية تتضمن أسئلة شعرية وأجوبة تنسج على المنوال نفسه بحرا وقافية. وهي قصائد كان يجد والدي لذة في كتابتها، ويبقى متشوقا في انتظار جواب أستاذ عزيز. وقد وثق في ديوانه قصيدتين له وجههما لأستاذه الشيخ الخليلي، وقصيدتين للخليلي جوابا على قصيدتيه، بالإضافة إلى قصائد أخرى وجهها للشيخ محمد بن راشد بن عزيّز الخصيبي، والشيخ سعيد بن خلف بن محمد الخروصي، وأجوبتهما.
وكان صوت والدي وهو يُنشد الشعر يحظى بإعجاب أستاذه الخليلي، وهو ما خوّله أن ينوب عن أستاذه في الأمسيات الشعرية التي يُدعى إليها الخليلي ويتعذّر عليه حضورها لأسباب صحية، فيرشح لها والدي يقرأ عنه أشعاره، فألقى عنه قصيدته "شبح الهوى" في مهرجان الشعر العماني الأول، كما ناب عنه في أمسية شعرية بجامعة السلطان قابوس في التسعينيات، ولا تزال الجامعة تحتفظ بتسجيلاتها المرئية.
ولعل من الذكريات التي شهدتُها لوالدي مع الشيخ الخليلي، زيارة نادرة للشيخ قام بها لبيتنا في "المَدْرة"، وكان قد قُدّم له - مع قهوة الضيافة ولوازمها - طبقا من الحلوى المعمولة في البيت، كانت تسمّى "أصابع زينب"، وبدا أنها راقت للشيخ الخليلي الذي أولاها عنايته دون سواها، ولكنه اضطر بسبب موعد دوائه إلى العودة إلى بيت السبحية ولم يكن قد اكتفى منها، فطلب إلى والدي طبقا مماثلا، أخذه له لاحقا إلى بيت السبحية.
ومما أذكره كذلك، مرور الشيخ الخليلي على والدي بسيارته التي يقوده فيها سائق آسيوي، وكان الشيخ يومَها مشغول البال بقصيدة تلح على قريحته، فخرجا في السيارة يستقلان المقاعد الخلفية، يجوبان أنحاء سمائل، يملي الشيخ قصيدته على والدي ما طال بهما الوقت، ولم تعد السيارة بهما إلا والقصيدة قد اكتملت.
وأحسب أن تسمية القصائد التي تنجز في ليلة واحدة بـ "بنت ليلة" أنها من تسميات الشيخ الخليلي، وهو الاسم نفسه الذي أطلقه والدي عنوانا فرعيا في رثائه للشيخ الخليلي لاحقا، والتي حملت عنوان: (فقيد الضاد، بنت ليلة حزن)، كعنوان فرعي/ أو إن شئتم تصنيفي.
وقد تأثر أبي أيمّا تأثر بوفاة الشيخ الخليلي، ولعل ذلك يظهر جليا في قصيدته التي كتبها في رثائه، وهي قصيدة من أطول قصائد ديوانه "فيض الإحساس" الذي لم يرَ النور إلا بعد وفاة والدي بخمسة أعوام، ويقول في مطلعها:
ودّع البدر مجتلــى الأنـــوار
فاختفى ضوء بســمة الأقمار
وتداعت له النجوم وغـــارت
وتوارت خلف المدى والمدار
فبدا الكون مكفهــــر المحيا
يرتدي بردة من الأكـــــدار
حارت الكـــائنات في ظلمات
أسدلت ثوبها يد الأقــــــدار
إلى آخر القصيدة (فيض الإحساس، ص161)
وقد رثى نجل الشيخ الخليلي/ وريث البيان الشيخ محمد بن عبدالله الخليلي والدي بقصيدة عنوانها "الشاعر الفقيد"، يقول في مطلعها:
أزرى به الدهر أم أسرى به القدر
فبات في أفــــق الأنّات يحتضـــر
أم رافق الأين نحو البين أم سرحت
به سباع الطوى أم خانه الحـــــذر
أم ســــاومته على آماله ســـــنة
من نومه أم شرى آلامه الســـــهر
ما أصعب المــــوت لولا أنه قـــدر
وأنه سيف عدل غمـــده البشـــــر
إلى آخر القصيدة (فيض الإحساس، ص217)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق