الأربعاء، 18 مارس 2015

(أم الدويس) وصورة البطولة المقلوبة .. أو سلبية المذكر

(أم الدويس) وصورة البطولة المقلوبة ..  أو سلبية المذكر [1]

منى بنت حبراس السليمية

       قالت عنها لجنة التحكيم – التي قضت بفوز رواية (أم الدويس) في مسابقة المنتدى الأدبي لعام 2011م – للدكتور خالد الكندي – أنها:"على الرغم من تقليدية الأداء السردي العام في هذه الرواية، وانتمائها، ربما، إلى مرحلة سابقة من تاريخ التطور الروائي في عمان، فإن موضوعها المحلي وضبط لغتها وطبيعة حواراتها، تجعلها من أفضل الأعمال السردية المقدمة إلى هذه المسابقة.

     لقد اعتمدت الرواية – حسب لجنة التحكيم أيضا – على جذور حكائية شعبية، ونجحت في توظيف بعض مفردات الحياة البدوية والعمانية بشكلها الواقعي والخرافي ضمن الفضاء الاجتماعي المحافظ نفسه، وما ينطوي عليه من حرص على توكيد المبادئ الأخلاقية والدينية السائدة.

    وقد فعلت هذه الرواية كلَّ ذلك – كما تقول لجنة التحكيم أيضا – من خلال وحدات سردية تبدو منفصلة، ولكنها تظل متساندة وقادرة بطريقة لا بأس بها على خدمة الهدف العام وتطور السرد، على ما يبدو في بعض أجزائها ولاسيما الختامي منها من تصنع وحرص من الراوي على أن ينتهي كل شيء على الوجه المطلوب، وليس على أساس المقتضيات والمتطلبات الروائية حتى بشكلها الواقعي، فيما يتصل ببناء الشخصية وطبيعة العلاقات القائمة بين أبطالها)[2]   

       وبعد،

       فقد أوردتُ رأي لجنة التحكيم في رواية (أم الدويس) باعتباره رأيا سابقا لهذه الوقفة مع الرواية ذاتها، إذ من شأن كل قارئ أن يعود إلى ما قيل سابقا في النص الذي هو بصدده، وإذا كان رأي اللجنة رأيا تقييميا ترجيحيا بالدرجة الأولى، فإن هذه الورقة إنما تقدم قراءة لا تدعي تقييما، ولا تروم صياغة حكم إلا بالقدر الذي ستكشفه ثيمة البحث وزاوية الرؤية التي حددتها القراءة؛ فاختارت صورة البطولة المؤنثة مدخلا تلج من خلاله إلى عتباتها.

       إذ لا يفوت قارئ رواية (أم الدويس) أن يلاحظ الحضور الكثيف للمرأة .. ذلك الحضور الذي لا يكتفي بتقديم المرأة في أكثر من شخصية داخل البناء الروائي وحسب – كما هي في كثير من الروايات – ولكنه يقدمها في صورة معكوسة تبادل الرجل أدوارها تارة وتلغيه تارة أخرى، ليبقى على الهامش غالبا إزاء حركة الأحداث في خط سير الرواية التي رسمت لنفسها منحى يجعل العمل البطولي فعلا أنثويا بالدرجة الأولى في ظروف زمانية ومكانية تصور حالة أمنية مضطربة في الزمن الذي اختاره الكاتب من ثلاثينيات القرن الماضي، وهو ما يعني في المقابل – حسب المعطى النصي – سلب المذكر سماتِه المميزةَ وإكسابَها للمرأة.

      ووفقا لهذه الملحوظة الأولية، ستحاول هذه الورقة الوقوف على أبعاد مفهوم البطولة الذي نروم تجليته من خلال الشخصيات الروائية النسائية، ومقارنتها بالشخصيات الذكورية فيها.

      كما لا يفوت القارئ – أيضا – أن رواية (أم الدويس) تعوّل على الغاية التعليمية في حبكتها الروائية، من خلال سعيها الحثيث للإجابة عن سؤال محوري في الموضوع العقدي المباشر، وقد سعت من أجل هذه الغاية سعيها، ولعله من المناسب الوقوف على الأدوات الفنية التي توسلها الكاتب من أجل تصوير رؤيته الروائية الباحثة من خلال الحدث المحسوس عن الأفكار المجردة في رحلة تشكيل الفكرة حدثا، دون أن ننسى أن للكندي عملا سابقا يكاد يختط الأسلوب نفسه المرتكز على الحدث في أقصى درجاته في روايته الأولى الموسومة بـ(صراع العقول).

       وعلى ذلك، فإن هذه الورقة ستحاول الوقوف على محورين اثنين، أولهما:

-         شخصية المرأة وصورة البطولة المقلوبة، أو سلبية المذكر: وفيه ستتناول تحليلا للشخصية المؤنثة، واستدعاءً لحالات انسحاب الرجل وتركه لفراغات الفعل الإيجابي مكثفا حضوره في السلبي منها.

-         وثانيهما: الغائية في البناء الروائي، ووسائله المفضية إلى إنتاج رواية تعليمية في الفكرة والتقنية، ومن خلال هذه الأخيرة ستتسنى معاينة عناصر البناء الفني للعمل الروائي بالفحص والتحليل.

عتبة البدء:

    تحكي رواية (أم الدويس) قصة وقعت أحداثها في ثلاثينيات القرن الماضي (تحديدا عام 1934م)، عن فتاة من صحار اختطفها فارسان ملثمان ليسلماها لقاطع طرق وتاجر بشر يقطن في البريمي يدعى "سويلم" - أو الشيخ سويلم كما يطمح أن يكون - نظير مبلغ من المال.

    تتعرف أسماء على مختطفة سابقة في خيمة سويلم تدعى (عفرة) وقد تعهدت السابقة منهما اللاحقة بالرعاية والاهتمام، بعد أن أطلعتها على جزء من حكايتها ومجيئها من مكران إلى البريمي، تحكي (عفرة) ذلك في محاولة ناجحة للتخفيف عن أسماء وقع مصيبتها، دون أن تكون لعفرة القدرة على تذكر أهلها وبلدها الأصلي بسبب فقدانها للذاكرة عندما كانت في سن السابعة من عمرها.

    تتمكن أسماء من العودة إلى صحار بمساعدة الفارسة "جهيرة" التي تعمل في بيت الشيخ (قحطان) زعيم القبيلة أنيسةً لابنته "فيحاء" وصانعة للأدوية العشبية فضلا عن حياكتها للثياب .. تتمكن جهيرة من تهريب أسماء بعد خطة حاكت خيوطها الشيخة فيحاء، وقد اكتنفت رحلة العودة مغامرات لا حصر لها استطاعت أن تظهر ذكاءً وفطنةً وشجاعةً اتصفت بها الفتاتان جهيرة وأسماء، فتمكنتا من الوصول إلى صحار بسلام.

    وفي صحار تُخرج أسماء عقدا - كانت قد أهدتها إياه (عفرة) – لتريه لأمها، وليبقى ذكرى تستعيدها به كلما حنت إليها، فإذا بأم أسماء تقع مغشيا عليها لدى رؤية العقد، إذ كان ذلك العقد هو نفسه الذي كانت تلبسه الأخت الأكبر لأسماء عندما كانت صغيرة قبل أن تختفي.

    وفي سياق موازٍ يسير خط قصة أخرى للفتاة مريم التي خرجت للعب مع صويحباتها على الشاطئ، فتغريها السفن وحكايات أبيها عن البحر لركوب إحدى السفن الكبيرة التي توشك على الإقلاع، فتتمكن من الاختباء في أحد صناديق حفظ الأطعمة، فينقلها البحارة مع بقية الأمتعة من الشاطئ إلى بطن السفينة، وتبقى حبيسة في الخن خشية اكتشاف البحارة لحقيقة وجودها، ولكنها عندما اطمأنت إلى نوم الجميع خرجت لتأكل مما حولها في الخن، فإذا تستسلم لسنة من النوم وتغفو حيث جلست في بطن السفينة، لتصطدم رِجلُ أحد البحارة - بعد حين - بجسد الطفلة النائمة، فيُعلم قائد السفينة بوجودها، وينبثق السؤال عن كيفية التصرف حيالها وقد أصبحت السفينة في عرض البحر.

   ولكن لم يمض وقت طويل حتى هبت عاصفة أغرقت السفينة بمن فيها على دفعتين، وتقع مريم ليرتطم رأسها بجسم ثابت تفقد على إثره وعيها وذاكرتها، فتسلمها الظروف إلى يد القراصنة الذين باعوها على الشاطئ حتى وصلت أخيرا إلى خيمة سويلم، فاتخذتها زوجته ابنتا لها، وأحسنت رعايتها وتربيتها قبل أن تموت وتتركها لوحدتها.

    فقد كانت (عفرة) - إذن - هي مريم أخت أسماء المفقودة منذ سنوات، وقد شاء القدر أن تختطف أسماء حتى تلتقي بأختها في بادية البريمي، وبمجرد تكشف هذه الحقيقة يذهب والد أسماء ومريم مع من ذهب إلى البريمي لاستعادة ابنته المفقودة، فتتحقق بذلك مقولة القدر بأن كل ما أصاب الإنسان إنما هو لخير أريد له به، وهو ما كانت تحاول أسماء أن تعلمه لجهيرة في رحلة عودتهما إلى صحار، فكان الخير متمثلا في التوصل إلى المفقودة مريم وعودة الأختين معا. ويلاقي سويلم بعد ذلك المصير الطبيعي والمستحق من أهل بلدته بنفيه وإبعاده عنها، إلى أن قضى عليه الشيخ (مشعان) ورجاله بعدما هجموا على خيمته التي كان يحتفل فيها مع رفاقه بخروجهم رابحين من معركة القبيلة.

     إن الاختصار السابق لمجريات أحداث الرواية كفيل بأن يطلعنا على مدى الارتكاز على الحدث الذي تنهض الرواية برمتها عليه، دون أن ننسى أن الأحداث السابقة مروية بلسان الجدة – كما يفترض – على أحفادها الثلاثة عائشة وريم وعبدالله (أو عبود الصغير) ذي الأعوام الأربعة، وهو الأمر الذي يضيف بعدا آخر متمثلا في المخزون الشعبي من الحكايات العمانية التي استطاعت هذه الرواية توظيفها واستغلالها في عمل أدبي استعيرت له تسمية من الموروث الشعبي نفسه ألا وهو (أم الدويس).

    و(أم الدويس) بالنسبة لمن لم يسمع بها من قبل، قد يظنها للوهلة الأولى اسما لشخصية من شخصيات الرواية أو مكانا نصيا أو حتى واقعيا امتاحه النص فضاء لأحداثه، ولكن الواقع بخلاف ذلك، إذ إنها (أم الدويس) تتخذ بعدا خرافيا – إن جاز القول – حسب التفرقة التي أوردها أحمد النوفلي في كتابه (أقانيم اللامعقول قراءة نقدية في التقليد والأسطورة والخرافة)[3] في تفريقه بين الأسطورة والخرافة، بأن الأخيرة تدخل فيها الكائنات الماورائية في قالب الحدث من جن وعفاريت ومردة وأرواح خيرة وشريرة وغير ذلك.

    فأم الدويس صورة ذهنية تغذت بها الذاكرة الشعبية في صورة امرأة حسناء جميلة تظهر في الليل لإغواء الرجال، ومتى ما استجاب لها أحدهم قضت عليه، فهي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة حتى بالنسبة لرائيها، علما أنها وردت في الرواية مرتين فقط: مرة عندما ظهرت (لسليمان) في طريق عودته ليلا إلى البيت وكان قد تأخر سمره مع أصحابه، ومرة عندما ورد ذكرها على لسان أسماء، فاستغلت جهيرة الحكاية للإيقاع بأعوان سويلم ليلا (عبيد، وفلاح) اللذين خرجا في إثرهما.

    وربط ظهور أم الدويس بالليل أمام سليمان من جهة، ثم توظيف أسماء وجهيرة لهذه الخرافة للإيقاع بأعوان سويلم ليلا أيضا، ليشي بخرافية الصورة، وتوظيفها المفضي إلى الهدف المرسوم في الرواية.

    فسليمان (كان يحفظ حكاية جده تماما التي توصي من أراد أن يسلم من أم الدويس بعدم الالتفات إليها، ولا الاقتراب منها؛ بل حتى عدم الاكتراث بها!)[4]  (ص52)

صورة البطولة المؤنثة:

     تتخذ صورة المرأة في الرواية بعدين: أحدهما نمطي والآخر بطولي، ونظرا لبدهية الأول فسأقصر الحديث على الثاني منهما، الذي بدوره يتخذ أشكالا متعددة، أهمها:

-         المرأة الراعية والمتعهدة بالحماية: وهو ما نجده في شخصية (عفرة) التي تعهدت أسماء بالرعاية والحماية عندما قالت مطمئِنة "فيحاء" التي لم تخفي قلقها من احتمال أن يشرع سويلم في بيع أسماء لأقرب مشترٍ من أجل حفنة من المال: (لا تقلقي يا فيحاء .. إن أسماء ستكون تحت رعايتي وسأدفع عنها السوء ما استطعت) ص52.

وهو الأمر نفسه يتكرر مع فيحاء ابنة زعيم القبيلة، التي يُفهم ضمنا أنها الولد الوريث في صورة البنت الوحيدة عندما تقول: (والدي وأنا لن نسمح بأن تتحول قبيلتنا إلى قطاع طرق؛ لأجل الجشع في الحصول على المال) ص52.

-         المرأة الفارسة: وهو نموذج تحقق في (جهيرة) و(فيحاء) اللتين كانتا تجيدان ركوب الخيل، حتى سميت جهيرة بفارسة القبيلة، وبفضل مهارتها هذه أمكن لأسماء أن تعود إلى بلدتها (عمق) في صحار.

-         المرأة المخططة والمدبرة (المُكيدة): وقد وجدناها في شخصيتي فيحاء عندما خططت في فكرة تهريب أسماء برفقة جهيرة من جهة، وفي جهيرة التي أبدت ذكاء واستغلالا ذكيا للمواقف للخروج من مآزق الطريق إلى صحار.

    قد لا يبدو شيئا فريدا أن تكون المرأة بطلا من خلال الصور التي مرت إلا بالقياس إلى صورة الرجل الانهزامية في المقابل، لأن الأمر كما يفسره جورج طرابيشي في كتابه "الروائي وبطله" ليس مجرد (جدلية ثنائية القطب بين طرفين شريكين ومتعادلين يؤسس كل منهما نفسه في نقصٍ يحتاج إلى ملء الآخر، وفي ملءٍ يحتاجه نقص الآخر، بل هي – حسب طرابيشي – جدلية أحادية القطب تعمل وفق آلية الساعة الرملية التي لا يمتلئ أحد حقيها إلا بقدر ما ينقص الحق الآخر: فالرجولة امتلاء، والأنوثة محض نقص؛ والرجولة كينونة وفيض كينونة، والأنوثة نقص كينونة وسلب كينونة. وأحادية القطب تستتبع تراتبا هرميا، تأصيلا وتفريغا؛ فالرجولة واقعة أولى، والأنوثة واقعة ثانوية. فبقدر ما لا تكون الرجولة، تكون الأنوثة. وفي الوقت الذي يتمتع فيه مفهوم الرجولة بامتياز المرجعية وباحتكارها معا، يبدو مفهوم الأنوثة عادم القوامية الذاتية وغير ذي سؤدد)[5]   

     وبسبب اختفاء الرجل الراعي القوي القادر على الرعاية الحقيقة، وجدنا (عفرة) راعية لأسماء وحامية لها، وكانت "فيحاء" حامية للقبيلة وذراعا لأبيها المسلوب القوة بسبب مرضه، وغياب الوريث الذكر.

     ومن جانب آخر فإن الرواية لم تحفل بصورة رجل فارس إلا في صورته الشريرة التي تنفي عنه صورة البطولة المطلوبة والمرغوبة، فلم يكن ثمة فرسان إلا رجال سويلم، والفارسان (مرزوق بن علي، وحارب بن سليمان) اللذان اختطفا أسماء من بلدة (عمق) حيث كانت تحتطب مع عمتها. وفي غياب الفارس، عوضت فروسية (جهيرة) و(فيحاء) صورة الفارس البطل الذي من المحتمل لو وجد أن تكون له المرجعية واحتكار الفعل البطولي دونهما.

    أما التخطيط والتدبير، فقد أبانت الرواية منذ مطلعها انهزامية الرجل وفراغ حيلته إزاء الخطر الأمني المحدق، والمتحقق باختطاف أسماء، فلم يكن من الرجال في مجلس شيخ الفلج إلا الدعاء بأن يعيد الله ابنة حمدان سالمة من كل أذى (ص13)، وكذلك الشأن بالنسبة لشيخ القبيلة نفسه الذي اكتفى بالقول: (ماذا عسانا أن نفعل فيما قدره الله؟! البدو يملكون الخيول والنوق، ونحن وإياكم نملك الحمير أعزكم الله! فكيف نلحق بهم فور اختطافهم، فشتان ما بين الحمير والجياد!) (ص14)

     وحتى خطة الفتية في الإيقاع بالملثمين باءت بالفشل (ص103 وما بعدها)، ولم تكشف إلا عن فكرة ناقصة لغلمان صغار أثارتهم قلة حيلة رجال القبيلة.

     بيد أننا وجدنا في المقابل نجاح خطة (فيحاء) في تهريب (أسماء) برفقة (جهيرة)، وكذلك الشأن في خطط (جهيرة) الذكية في الخلاص من المتربصين بها وبأسماء في الطريق من البريمي إلى صحار.

     يضاف إلى ما سبق، صور الضعف الرجولي المرتبط بالسن والمرض، فرغم أن الشيخ قحطان هو زعيم القبيلة، غير أنه رجل ضعيف فاقد القوة بسبب مرضه حسب قول فيحاء: (لقد استغلوا مرض الوالد فعاثوا في الأرض فسادا ...)(ص52)، وكذلك صاحباه رشيد وشيبان اللذان بلغا من العمر مبلغا سلب منهما القدرة على الفعل لمواجهة سويلم وإقصائه.

     كما أسهم ضعف الشايب رشيد في إضعاف قوة الشيخ مشعان الذي جاء مع رجاله للقضاء على (سويلم)، الأمر الذي أرجأ أمر الخلاص منه إلى نهاية الرواية، وهي نهاية طبيعية تحصيلية لرواية مبنية على الخير والشر مستوجبة النهاية الخيرة المنتصرة للحق دون الالتفات لأي شيء آخر قد يستوجبه النص أو الواقع.

     ولعل الصورة الأطرف في قضية استلاب الرجل، وتحقيق الأنوثة عوضا عنه، أن الفارسة (جهيرة) التي أنقذت (أسماء) وأوصلتها إلى أهلها في صحار، في مشهد بطولي لا يقوم به عادة – وحسب الذهنية السائدة – إلا فارس ملثم بحصان أبيض، وجدنا أن (ماجدا) أخا أسماء يعجب بالفارسة (جهيرة) وشجاعتها في حماية أخته ورعاية البادية وبلائها في رحلة الهروب، فيتزوجها في مشهد مقلوب تكون فيه الفارسة على حصانها الأبيض في دار الرجل الخاطب، وقد قبلته (جهيرة) لاحتياجها كما يبدو لملء عامل النقص الرجولي من فيض بطولتها الفائضة، ليعود للميزان اعتداله.

**********

     أما ما ذهبنا إليه من كون هذه الرواية إنما هي رواية تعليمية، فلأننا عرفنا أن ثمة رواية بوليسية، ورواية فلسفية، ورواية رومانسية، وغيرها، فإن هذه الرواية أعدها راوية تعليمية – إن جاز القول – وتغذي هذا الزعم مجموعة من المعطيات، تأتي في مقدمتها:

-         غائية السرد وانبنائه على هدف عام يتمثل على الإجابة عن معنى القضاء والقدر الذي طرحته الحفيدة على جدتها، فآثرت أن تجيب عن سؤالها بقصة تقرب المعنى عوضا عن إجابة لا يستوعبها عقلها الصغير، فجاء السرد والأحداث كلها موجهة لخدمة السؤال المطروح.

-         المباشرة في الطرح وفي تقديم الفكرة بما يتيح للمتلقي فهما مباشرا للمعنى دون أن يتكبد عناء في تقليب المعاني على غير وجهة، وهو ما يعزز الهدف التعليمي الذي توخته الرواية منذ بدايتها وحتى نهايتها.

-         ملء الفجوات، أو سد الثغرات، مع ما يعنيه من إمكانيات تأويل تتيح للقارئ خلق معانٍ جديدة في سبيل بناء شراكة بينه وبين الكاتب في إنتاج النص، غير أن الكندي – أو الراوي – حرم القارئ من صلاحية ملء الفجوات، بسبب إمعانه في أن يكون لكل شيء مآل ونهاية، مستعينا في ذلك بسؤال الأحفاد لجدتهم عما يكون قد فات خط السرد الرئيس أن يذكره، فجاءت الرواية ممتلئة، وخيوطها موصولة ومعقودة.

-         الاحتشاد بالتفاصيل: وهي تفاصيل قد تبدو غير ضرورية في كثير من الأحيان، منها على سبيل المثال: التفاصيل التي شغل بها الراوي في تعداد الأمتعة التي سيصعد بها البحارة إلى السفينة، مع ما فيها من مسميات ومصطلحات لا يفقهها إلا من خبر البحر وعرف طقوس الإبحار فيه، أما أولئك البعيدون عنه من سكان الجبال وقرى الداخل فلا تعنيهم تلك التفاصيل كثيرا، بل قد تبدو لهم قطعا لسير الأحداث التي هي مدار الرواية وأساس حركة سيرها. غير أن البعد التعليمي الذي افترضناه آنفا يبرر هذا الإيغال في التفصيل الذي قد يجده الكاتب ضرورة تعليمية تحرص على نقل خبرة وتعليم حرفة.

-         السؤال عن أجوبة بدَهية: بدا ذلك عند الإصرار من قبل (فيحاء) و(عفرة) و(أسماء) على السؤال عن سبب تلثم الفارسين اللذين اختطفا أسماء، رغم أن الفارس يرتبط باللثام عادة دون أن يبدو ذلك غريبا أو مدعاة للتساؤل، غير أن هذا أيضا كان لهدف كشفت عنه زيارة (عبيد) و(فلاح) لخيمة سويلم في وقت متأخر ذات ليلة (ص76)، إذ كان اللثام ليس سوى تمويه لتجنب أن تتعرف أسماء عليهما إذا ما رأتهما في صحار مرة أخرى. رغم أنه لا جدوى من أن تعرف أسماء ذلك أو لم تعرف، فقد بدا تفصيلا لا يؤثر كثيرا نقصا أو زيادة.

-         اللغة الرصينة سردا، والوسطية في الحوار: إذ سبقت الإشارة إلى ما أوردته لجنة التحكيم في رأيها بأن ضبط لغة الرواية وطبيعة حواراتها تجعلها من أفضل الروايات المتقدمة للمسابقة، وهي ملاحظة طبيعية على كاتب لغوي في المقام الأول، ونحسب أن الحوارات بدت وسطية بين المستويين الفصيح والعامي، فعلى أيهما كانت القراءة وجدناها استقامت، ويكفي التدليل على ذلك ما أورده الكاتب على لسان فلاح: (هات أيش آخر الأخبار يا (سويلم) .. ما دمت طلبت حضورنا فلابد أن يكون معك شيء جديد تريدنا أن نوصله) (ص76)، فهي مفردات فصيحة عامية في آن، إذا ما وضعنا في الاعتبار أن لفظة (أيش) هي مختصر عامي للتعبير الفصيح (أي شيء). ومثل ذلك جواب سويلم لفلاح عن العمل مع عفرة أثناء اختطاف أسماء للمرة الثانية لبيعها عندما قال: (ولا يهمك منها .. أصرفها بكرة إلى  ابنة عمي في موضوع .. ولما ترجع تلق رفيقتها اختفت عنها..) (ص77)

-         الرسم التوضيحي: وهي الرسومات التي تخللت صفحات الرواية، وقد بلغ عددها 19 صورة تلتقط مشهدا من حدث أو بعض حدث، لصاحبتها سعاد الأغبرية، رغم أن النص مكتفٍ بذاته القائم على اللغة، وما من ضرورة تستدعي وجود تلك الرسومات التي تعودنا وجودها في قصص لمستوى آخر من المتلقين، ولكنه الهاجس التعليمي التوضيحي – حسبما أراه – هو ما برر وجود مثل هذه الإضافة.

وبعد،

    فقد كانت هذه السطور محاولة لقراءة رواية (أم الدويس) في توظيفها للبطولة المؤنثة، واعتمادها على الغاية التعليمية في موضوعها وتقنيتها، واعتمادها على المبادئ الأخلاقية والدينية مبتعدة عما قد يشكل إخلالا بالذائقة القرائية لمتلقٍ يتوقع أنه يقع في المرحلة العمرية ما بعد الطفولة واكتمال النضج، فكانت رواية بسيطة في مضمونها وأهدافها تحقيقا للغاية الكبرى من إجابتها عن سؤال عقدي مباشر حول ماهية القضاء والقدر.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] قدمت ضمن الفعاليات المصاحبة لمعرض مسقط الدولي للكتاب بتاريخ 6 مارس 2013م

[2] جريدة عمان، العدد (11599) بتاريخ 5 مارس 2013م، ص21

[3] انظر أحمد النوفلي: أقانيم اللامعقول قراءة نقدية في التقليد والأسطورة والخرافة، بيروت، مؤسسة الانتشار العربي، 2012م، القسم الرابع، ص 331 وما بعدها.

[4] يكثر ذكر (أم الدويس) لدى أهل الباطنة من عمان، ولا يكاد يعرفها غيرهم من المحافظات الأخرى، والذاكرة العمانية عموما مليئة بهذه الحكايات وغيرها من الحكايات الشعبية التي لطالما ترددت على ألسنة الجدات.  

[5] جورج طرابيشي: الروائي وبطله، بيروت، دار الآداب، 1995م، ص23

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق