ملحق مراجعات - جريدة الرؤية
العدد الأول - مارس 2015
الهويات القاتلة: إشكاليات الراهن، وآفاق التجاوز
منى بنت حبراس السليمية
ليس من الضروري القول إن تناولَ كتاب "الهويات القاتلة" لـ أمين معلوف تناولٌ مكرور، كما أنه لن يكون الأخير، وما ذلك إلا لأهميته التي تؤكد عليها أحداث العالم اليوم رغم مضي عقد من الزمان على صدوره في طبعته الأولى في عام 2004م عن دار الفارابي.
ولا تتأتى أهمية كتاب "الهويات القاتلة" من موضوعه الذي يبحث في "الهويات" وإشكالياتها وحسب، ولكنها تتأتى (أيضا) من حساسية المرحلة التي نعيشها، والمصير المجهول الذي ينتظر العالم في ظل تزايد المعسكرات المتناحرة التي تتقارب أحيانا، وتتباعد في أحيان أخرى، في دوائر تظل تتوالد وتتداخل تارة وتنقسم على نحو أصغر وأضيق تارات أخرى، لدرجة أن ما أصبح منها اليوم شبيها بهويتنا، لن يعود بعد برهة كذلك، بل قد نتبرأ منها غير آسفين؛ بسبب انحرافاتها الإجرامية تحت شعارات تستدر العطف على خلفية تاريخ طويل من الظلم والقهر!
منذ الصفحات الأولى من كتاب "الهويات القاتلة" يقرر "أمين معلوف" أنه لا يسعى للوصول إلى تعريف للفظة "الهوية"، نظرا لأنها كلمة (خائنة)، "نعتقد إننا ندرك دلالتها، ونستمر في الوثوق بها وإن راحت تعني نقيضها بصورة خبيثة" ص17، ولكنه إنما يحاول أن يفهم "الأسباب التي تدعو الكثيرين اليوم إلى القتل باسم الهوية" ص17
ينطلق "أمين معلوف" في كتابه من ذاته وظروفه الخاصة وتعدد انتماءاته، التي يشكل خليطها هوية واحدة متجانسة لا يمكن فصل عنصر منها عن الآخر؛ لتنتج في المحصلة شخصا هو "أمين معلوف" الذي – كأي فرد آخر في هذا العالم – لا يمكن أن يشبه أي شخص آخر؛ لأن "كل كائن فريد، وغير قابل بالقوة للاستبدال" ص20
يقسّم "أمين معلوف" كتابه الذي يقع في 229 صفحة على أربعة فصول: "هويتي، انتماءاتي"، و"عندما تأتي الحداثة من عند الآخر"، و"زمن القبائل الكونية"، وأخيرا "ترويض الفهد"، فضلا عن مقدمة وخاتمة.
وأجدني – في سبيل معالجة مضامين الفصول الأربعة – سأتناولها كلا على حدة، دون أن تفوتني الإشارة إلى أنها فصول تمسك بأطراف بعضها في حلقات تتسلسل من التشخيص إلى العلاج، الذي يقرّ "أمين معلوف" في خاتمة كتابه أنه يحتاج إلى أن يبذل العالم جهدا لتحقيقه من أجل مستقبل يضمن انسجام أفراده مع انتماءاتهم المتعددة، ليدرأ التناحر أو يقلل منه على أقل تقدير.
في الفصل الأول الذي وسمه "معلوف" بـ "هويتي، انتماءاتي" يقرر أن "الهوية لا تتجزأ، ولا تتوزع مناصفة أو مثالثة، ولا تصنف في خانات محددة ومنفصلة عن بعضها البعض" ص8، كما لا يمكن إلغاء أحد أجزائها في سبيل تكريس جزء آخر مختارا أو مرغما، فأن تكون – على سبيل المثال/ كما هو أمين معلوف – منتميا لبلد ما، وتقيم في بلد آخر، فأنت – إذن – محصلة البلدين معا، بظروفهما وتاريخهما وثقافتهما وسياقاتهما السياسية والاجتماعية والاقتصادية، دون أن تجد حرجا في التصريح بالانتماءين معا – وربما أكثر من اثنين – ودون أن يشعرك هذا الاعتراف بالخيانة لبلدك الأول أو أنك لست مقبولا من البلد الثاني.
بيد أن هذا الانسجام بين الانتماءات المتعددة ليس بسيطا؛ سواء كان انتماء اجتماعيا أو دينيا أو لغويا أو ثقافيا أو إثنيا، إذ "في داخل كل إنسان، تلتقي انتماءات متعددة تتصارع في ما بينها، وترغمه على القيام بخيارات مؤلمة" ص11، ويصبح المرء – في وضع كهذا – مطالبا على الدوام بإعلان معسكر واحد ينتمي إليه حتى يصبح مقبولا من (أخوته) الذين يشكل معهم هوية واحدة، نظرا لما يستتبع ذلك من انتصار لهموم الجماعة ومشاركة في مآلاتها ضد الجماعات/ الهويات الأخرى التي ربما تكون في موقع الضد، إذ "غالبا ما تتطابق الهوية التي ينادي بها الإنسان – سلبيا – مع هوية العدو" ص25
ولا تكفي الخيانة وحدها وصفا لمن يعلن مجموعة انتماءات، بل يُحكم عليه بالتهميش أيضا؛ فـ "كل من يجاهر بهوية أكثر تعقيدا يجد نفسه مهمشا" ص9، وقد أفسّر هذا التهميش من منطلق أن فردا كهذا لا يعوّل عليه في مناصرة مجموعته ضد المجموعة الأخرى التي قد تكون نكّلت بجماعته الأصلية على مدى التاريخ، فضلا عن توقع تثبيطه لأحلام المجموعة في الانتقام الذي تراه مبررا ومشروعا. فضلا عن الاعتقاد باستعداده في أية لحظة للتنازل عن هويته الأساسية بسهولة، لأن "الشخص الذي يستعرض انتماءاته المتعددة، يتهم على الفور برغبته في "تذويب" هويته داخل حساء عديم الشكل تمحى فيه الألوان" ص34، في وقت تحرص فيه كل جماعة على القتال من أجل الحفاظ على هويتها، بما يضمن حفاظها على وجودها الذي لا يتحدد خارج إطار هذه الهوية.
ويذهب "معلوف" إلى أن الأشخاص متعددي الانتماءات، يتحتم عليهم "أن يقوموا بنسج العلاقات، وتبديد سوء التفاهم، ومحاججة البعض، وتهدئة البعض الآخر، وتذليل العقبات، ورأب الصدع .. وتقوم مهمتهم على أن يكونوا حلقات وصل وجسورا ووسطاء بين الجماعات والثقافات المتنوعة" ص12
فـ هم – وحدهم – من يُعوَّل عليهم للاضطلاع بمسؤولية خلق جسور التقارب وإذابة الفوارق بين الهويات المختلفة، تلك الفوارق التي تفضي إلى الإقصاء والنزاع، حتى يصار إلى أن يضمن كل فرد تأكيد هويته الخاصة دون خوف أو وجل، وأن يحب الجميع "في قرارة أنفسهم ذلك الانتماء الجوهري الذي غالبا ما يكون دينيا أو قوميا أو عرقيا أو إثنيا، والمفاخرة به أمام الآخرين" ص9، وإلى الإقرار – في المقابل – بالانتماءات المشتركة التي توسع دوائر الاشتراك الإنساني في العالم الواحد. ولكن هل هؤلاء الأفراد قادرون على الاضطلاع بهذه المهمة؟
يبدو أن بيد هذا السؤال مصير العالم، لأنه بقدر ما يتعلق بحضور القدرة لدى هؤلاء الأشخاص على الاضطلاع بمهمة التقريب بين الهويات المتناحرة، يقتضي في المقابل الحاجة الملحة إلى إسهام الجميع – وليس فقط المتطرفين والمعادين للأجانب من كل الأصناف – لتمكينهم من القيام بذلك، فلا نحصرهم في الزوايا الضيقة، ونطالبهم باختيار عنصر واحد من عناصر هويتهم وإنكار العناصر الأخرى. ونحن إذ نفعل ذلك، فإنما بحكم "العادات الفكرية التعبيرية المترسخة فينا جميعا، بسبب ذلك التصور الضيق والحصري والمتزمت والتبسيطي الذي يختزل الهوية بكاملها في انتماء واحد يجري الدفاع عنه بضراوة" ص13
فالحقيقة التي سندفع جميعا ضريبتها أنه "إذا كان هؤلاء الأشخاص أنفسهم غير قادرين على الاضطلاع بانتماءاتهم المتعددة، ومضطرين على الدوام لاختيار معسكرهم، ومرغمين على العودة إلى صفوف عشيرتهم، يحق لنا عندئذ أن نشعر بالقلق على سيرورة العالم" ص13
ورغم أن "معلوف" لا يحدد مفهوما للهوية، ولا يضع تعريفا لها في كتابه الذي قصر موضوعه عليها، إلا أنه يحدد عوامل تشكلها، وروافدها، ومكوناتها، وتأثيراتها. فهو يضع مجموعة عوامل تحدد الهوية/ أي هوية، أجملها في الآتي:
- العوامل الفطرية: التي رغم كونها عوامل لا شأن للبشر في حدوثها كـ لون البشرة والجنس وغيرها من العوامل الشكلية، إلا أن "معلوف" يقرر أن "عناصر هويتنا الموجودة فينا عند ولادتنا ليست كثيرة – بعض الصفات الخارجية، والجنس واللون .. وحتى هذه العناصر ليست كلها فطرية" ص37، لأن الجنس ليس تميزا إذا ولد المرء في مجتمع لا يضع فروقا تُذكر في الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة، كما أن اللون ليست تميزا كذلك إذا ما ولد الفرد منا داخل مجتمع لا يقيم وزنا لبشرة بيضاء بين غالبية سوداء على سبيل المثال.
- العوامل المكتسبة: وهو ما يقوم به ذوو هذا الطفل، "عمدا أو عن غير قصد، بتكوينه وقولبته وتلقينه المعتقدات العائلية والمذاهب والمواقف واللياقات واللغة الأم بالطبع، ثم المخاوف والتطلعات والأحكام المسبقة والأحقاد، فضلا عن مشاعر انتمائية ولا انتمائية متنوعة" ص40. وهو ما يعود بنا إلى الحديث الشريف: "كل مولود يولد على الفطرة، وأبواه يمجسانه أو يهودانه أو ينصرانه" الأمر الذي يحكم تحديد هويته الدينية على وجه الدقة – حسب الحديث الشريف – ويشكل أحكامه المسبقة ونظرته تجاه الآخر على نحو أعم.
وفي الوقت نفسه يسهم كل من البيت والمدرسة والشارع والآخرين في تكريس إحساسه بهويته المختلفة/ المهمشة، وتعميق إحساسه بآلام اختلافه عن الآخرين بكلامهم ونظراتهم لاختلافاته العديدة، الثانوية منها، والجوهرية، فترتسم تبعا لذلك ملامح شخصيته، وتتحدد سلوكياته وآراؤه المختلفة ومخاوفه وطموحاته، التي "غالبا ما تكون مفيدة للغاية في تكوين الإنسان، ولكنها تخلف أحيانا جراحا لا تلتئم" ص40
- عوامل التأثير المحيطة: المتمثلة في "تأثير الغير بصورة أساسية، أي تأثير الأقربين – الأهل، المواطنين، والأخوة في الدين – الذين يحاولون استملاكه" ص49، وهذا العامل هو الأكثر تأثيرا في سلوك المرء إزاء جماعته، ويحدد درجة تفاعله معها والارتباط بمصيرها، والانسياق خلف رغبة أفرادها في الانتقام والثأر؛ فأفراد جماعته يشكلون عوامل ضغط من أجل أن يحدد انتماءه الدقيق، والتنكر لانتماءاته الأخرى التي تعيق حلم الغلَبة، ودفعه لترجمة ذلك إلى أفعال تنتصر لمجموعته المهمشة، فقد "عرفت كل العصور أشخاصا اعتبروا أن هنالك انتماء أساسيا يسمو على كافة الانتماءات الأخرى مهما كانت الظروف، يمكننا أن ندعوه بصورة مشروعة "هوية" ص23
- الظروف الخاصة: وهي ما يعيشه كل فرد، ولا يمكن أن يتطابق مع غيره من البشر مهما تكررت حالته في أشخاص آخرين، لتبقى حالة فريدة غير قابلة للتناسخ. وهذه الظروف هي التي يجري عادة نكرانها ومحقها - إجبارا أو اختيارا - في سبيل الوصول إلى الانتماء الواحد الذي يصر الجميع على أنه يحفظ للمجموعة وجودها ويحفظها من الفناء، رغم أن تعزيزها والاعتراف بها دون وجل يحقق دوائر انتماءات أكبر يتشارك فيها الفرد مع غيره في هوية "إنسانية" تسع الجميع.
ومع الوقت تتّحد مدخلات هذه العوامل كلها لتشكل مجتمعة هوية الإنسان كنسيج متآلف؛ لأن"هوية الإنسان ليست سلسلة من الانتماءات المستقلة، وليست (رقعا) بل رسما على نسيج مشدود، ويكفي أن يُنتهك انتماء واحد لينفعل الإنسان بكل كيانه" ص41، وسيضع بالضرورة ذلك الانتماء المنتهك في بؤرة أولوياته كردة فعل من أجل الدفاع عن الهوية، التي سيختزل انتماءاتها الأخرى فيه، فتتبدل لديه الأولويات، تتقدم أو تتأخر على حسب الظروف التي تقرر أي انتماء منها أولى بالنصرة في مواجهة التهميش والقهر.
ولذا فهوية الإنسان ليست ثابتة بل "تتحول مع الوقت وتحدث في السلوك البشري تغييرات عميقة، وإن وجدت في كل الأوقات، تراتبية معينة بين العناصر المكونة لهوية كل إنسان" ص24، فالإنسان العربي – مثلا – الذي ينتمي إلى بلد عربي ما ويحمل جنسيته، يحمل عنصرا آخر إلى جانب جنسية بلده وعروبيته؛ فهو إما مسلم أو مسيحي، وبداخل هذين التصنيفين، قد يكون مسلما سنيا أو شيعيا – أو غيرهما من المذاهب – وإذا كان مسيحيا، فهو إما كاثوليكي أو أرثوذكسي، وهكذا تتوالد دوائر الهوية من بعضها، وتتخذ لها تراتبية معينة في كل وقت، حسب الظروف المحيطة ضمن السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية؛ ففي ظرف ما قد تتخذ العروبة أولوية أولى تغطي على الانتماءات الأخرى الدينية أو السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية، وفي ظرف آخر يتخذ الدين تلك الأولوية، بحسب ما تمليه معطيات الإقصاء وعوامل التهميش، ويسوق "معلوف" أمثلة ونماذج لذلك من تاريخ الدول وشعوبها.
وأرى أن الهوية مثلما اختصرت – عبر التاريخ – في قبيلة، أو جماعة تكبر أو تصغر، يحدث أن تختصر في وقتنا الحالي في فريق رياضي، كما تقلصت من قبل واختصرت– وما تزال – في حزب، والأمثلة على ذلك كثيرة، بل وتتقلص أحيانا في شخص بعينه، ومثال ذلك فيمن يصف نفسه بأنه "ناصري" نسبة إلى "جمال عبد الناصر".
وإذا كان عبد الناصر رمزا يجسد القومية العربية، فإننا يحدث أن نجد الهوية تختزل، ضمن ظروف خاصة، في شخص إنسان بسيط مهمش؛ انتصارا لقضيته المشروعة؛ كما حدث في الانتفاضة الفلسطينية، في مطلع الألفية الثالثة، عندما رُفعت ألوية "كلنا محمد الدرة"، أو كما حدث في ثورات الربيع، منذ العام 2011م، التي رفعت شعارات من قبيل "كلنا محمد بو عزيزي" مفجر الثورة في تونس، أو كما جرى مؤخرا من إقدام "داعش" على حرق طيار أردني، فكان الشعار هذه المرة: "كلنا معاذ الكساسبة"؛ لذا فالهوية كما يقول "معلوف": "لا تتحدد نهائيا بل تتكون وتتحول طيلة حياة الإنسان" ص37
فكيف تؤدي الهوية إلى الاقتتال؟
ينبري كتاب "الهويات القاتلة" لتفسير دوافع الإقدام على القتل باسم الهوية، وكيف تتحول الهوية إلى سبب للتناحر وإراقة الدماء؟
يقول أمين معلوف: "إن كل المذابح التي حصلت في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى معظم النزاعات الدموية، مرتبطة "بملفات" انتمائية شائكة وسحيقة، ويكون ضحاياها الشعوب نفسها أحيانا، بصورة تبعث على اليأس، ومنذ الأزل. وتنقلب الآية في بعض الأحيان، فيصبح جلادو الأمس هم الضحايا ويتحول الضحايا إلى جلادين" ص51
يحدث ذلك بالضرورة بسبب الظلم والطغيان الذي كانت تمارسه جماعات قوية ضد جماعات أخرى أضعف منها عبر التاريخ، وتتحول رواسب هذا الظلم مع الوقت وتتعاظم، لتدفع بمن وقع عليه ظلم الأمس إلى الانتقام من ظلمته اليوم؛ لأن الجراحات القديمة لا تندمل إذا ما وجدت ما/ ومن يؤججها ويلهبها، وعادة ما تقوم جماعة الفرد نفسه بفعل التأجيج والإلهاب كلما واتتها الفرصة، لتحافظ على حلم الانتقام ثأرا لكرامتها المهدورة، في الوقت الذي تقوم فيه بالمقابل على تكريس عناصر هويتها الخاصة كنوع من إثبات الوجود ومقاومة الذوبان في الآخر.
ولكن الصورة تبدو أكثر تعقيدا من كونها مجرد تحول في الأدوار، فالأمر لا يرتبط على نحو كافٍ بصيرورة مظلوم الأمس إلى ظالم اليوم، بل يرتبط كذلك بمواقف الآخرين/ نحن جميعا، إزاء هذا التحول وقبله، ويتلخص ذلك في أننا "ننساق وراء السهولة ونصنف البشر أجمعين بكافة اختلافاتهم في الخانة نفسها، وننسب إليهم، من باب السهولة كذلك، جرائم وأفعالا جماعية وآراء مشتركة" ص35، وهو ما يجعل النظرة لا تتغير تجاه أقوام بعينها بسبب صورة نمطية مسبقة بأنهم مجرمون، دون محاولة للبحث في أسباب الإجرام – أو تفهمه – والذي غالبا ما يكون بسبب مظلومية لم ينصفها التاريخ.
فـ "نظرتنا هي التي غالبا ما تسجن الآخرين داخل انتماءاتهم الضيقة، ونظرتنا كذلك هي التي تحررهم" ص36، مثلما درج الغرب، على الحكم على العرب والإسلام بالإرهاب، ومن ثم فإن كل ما يقع عليهم من تقتيل وتشنيع إنما هو مستحق، بل ويوصف العدوان الواقع عليهم بالدفاع عن النفس! مما يكرس مشاعر الظلم والقهر التي تتحين الفرصة للخروج من قمقمها لتنتقم، علما أن محاولة فهم الدوافع من شأنها أن تهدئ فتيل العنف، وتمنح هذا الطرف أو ذاك شعورا بأهمية قضيته الأزلية، ونوعا من الإنصاف لمجرد السماح له بالتعبير عنها.
ولكن المثال السابق ينطبق بجلاء على مستوى الصراعات الكبرى في العالم على نحو خاص، في حين توجد صراعات داخل الطرف الواحد، أشبهها بدوائر صغيرة بداخل الدائرة الأكبر منها – كالصراعات المذهبية بداخل دائرة الدين الواحد، أو الصراعات العربية العربية داخل دائرة الأمة العربية، ومثلها الصراعات داخل الأمة الإسلامية، أو الصراع بين الغرب والشرق داخل دائرة (العالم المشترك)– تظل تعتمل وتثور داخليا حتى تنفجر الدائرة الأم برمتها.
وفي سبيل تشخيص علة الصراع، يذهب "معلوف" إلى ضرورة بحث حقيقة الصراع، الذي غالبا ما يكون دافعه الخوف، الذي يتحول مع الوقت إلى دفاع عن النفس، قبل أن يتشكل في صيغته النهائية إلى اقتتال باسم الهوية، لذا فإنه "اعتبارا من اللحظة التي يشعر فيها شعب بالخوف، يجب أن تؤخذ في الحسبان حقيقة الخوف أكثر من حقيقة الخطر المحدق" ص45 لأن الخطر الذي تتهيبه مجموعة ما غالبا ما يكون معلوم الشكل، ومتوقع النتائج التي لا تكون أقل من كارثية، فضلا عن كون الخطر قابلا للوقوع أو عدمه بالدرجة نفسها، بيد أن حقيقة الخوف هي ما يحتاج إلى البحث الحقيقي، لمحاولة نزع فتيله قبل أن يشتعل؛ لأن اشتعاله يخلق حوله تعاطفات تكسبه شرعية ما، فلا يعود القتلة "يشعرون في أغلب الأحيان بتأنيب الضمير على أفعالهم، ويعجبون لمن ينعتهم بالمجرمين، ويقسمون أغلظ الأيمان بأنهم من هذه التهمة براء؛ لأنهم يسعون فقط لحماية أمهم المسنة وإخوتهم وأخواتهم وأطفالهم" ص49
وبهذه الصورة يتم تجييش الرأي العام الذي وفقا لسياقات تاريخية أحيانا، ولصورة نمطية في أحيان أخرى، وبسبب تعاطفات – بين هذا وذلك – تتقاطع مع هوية مشتركة، يتم إكساب جرائم كثيرة شرعية ما، وتتمادى بعض الجماعات في إجرامها "لأنها تعرف أن الرأي العام الدولي سوف يتهم خصومها تلقائيا" ص51، وعلى هذا المنوال يستمر التناحر وتتسع رقعته، وتنتقل ميادينه إلى عقر الدار الواحدة.
فكيف السبيل إذن إلى تحقيق توازنات الهوية بما ينزع فتيل الاقتتال باسم الهوية؟
خروجا من هذا النفق يضع "معلوف" صيغة للتقارب الحقيقي تقوم على احترام كرامة الإنسان، أيا كانت هويته التاريخية أو الثقافية أو الدينية أو الإثنية، والسعي المشترك من أجل تقارب لا يخضع للتنازلات بقدر ما يسعى للاستفادة من التنوع بين البشر، مفترضا أن التقارب الحقيقي من الآخر لابد أن يقترن فيه مد الذراعين برفع الرأس؛ إذ "لا يمكن أن يمد [المرء] ذراعيه إلا إذا كان رأسه مرفوعا. فإذا ما شعر المرء في كل خطوة يخطوها أنه يخون أهله ويتنكر لذاته، يكون التقارب من الآخر خاطئا. وإذا كان الشخص الذي أتعلم لغته لا يحترم لغتي، فالتحدث بلغته لا يكون دليلا على الانفتاح بل ولاءً وخضوعا" ص65 على سبيل المثال.
فضلا عما سبق ذكره – وَجَعَله "معلوف" مناط الحل – من ضرورة أن يضطلع متعددو الانتماءات بتجسير الهوة بين الهويات المختلفة، والتقريب بين الأطراف المتناحرة، وصولا إلى توسيع دوائر الهوية التي تربط إنسان العالم الواحد، وحتى يقوم هؤلاء بأدوارهم يتحتم على المجتمع/ الجميع مساندتهم مدفوعين بوحدة المصير الذي سيؤول إليه العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق