من مختبر السرد إلى سرد المختبر
منى بنت حبراس السليمية
جريدة الزمن - 30 من أغسطس 2015
لوهلة بدت كلمة (مختبر) ناتئة ومقحمة على كلمة (السرد)، وعلى الأدب عموما إذا ما أردنا أن نجعل لكل فن من فنونه مختبره الخاص، فلم تستسغ الأذهان دخول لغة العلوم الطبيعية التي تمثلها كلمة (مختبر) إلى الفنون القولية، على الرغم من أنها لم تكن سابقة في عمان عندما تم تدشين مختبر السرديات العماني في سبتمبر من العام الماضي، فهناك مختبرات عدة للسرديات في العالم العربي (الإسكندرية، والدار البيضاء، وتونس، والسعودية، ...)، وتزداد في ظل هيمنة الأجناس السردية - الرواية خصوصا - على دائرة التلقي العربي عموما، وإن كانت هذه الهيمنة لا تكاد تخرج عن نطاق الفورة الإعلامية، وبروز النقد الصحافي على نحو مهول، في ظل تراجع الدراسات الجادة في الأعمال الأدبية.
وتعمد فكرة المختبر إلى استنطاق مكامن الجدة التي تطرحها النصوص ليس على مستوى الموضوعات وحسب، بل على مستوى المعمار والرؤية الفنية والمعرفية والإشكالات التي تثيرها هذه النصوص عن طريق فحص معانيها، وتحليل خصائصها الجمالية، ومعاينة التطور الحاصل على مستوى إنتاجية السرد في عمان، باستثمار دلالات (المجهر) الذي يروم الحفر في الأبعاد الاحتمالية التي تكشف عنها الاستعارات الكلية للنصوص من جهة، والكشف عن نظريات توسع الجنس الأدبي نفسه من جهة أخرى، خاصة أن أجناس السرد، والرواية منها على نحو خاص، تظل أجناسا مفتوحة لا نهائية، وهذه الدلالات تتيح للناقد أن يصل فيها إلى مواطن الجمال والقبح، وإضفاء طابع القيمة عليها، وهذه هي وظيفة النقد الأدبي التي تفرّقه عن وظيفة رجل المختبر مع مواده الكيميائية مختبِرا مكوناتها ومحللا عناصرها. بيد أنه يأخذ من هذا الأخير صفة (العلمية) التي يجب أن يتسم بها النقد الأدبي في محاولةٍ للنأي به عن الانطباعية والمجاملات غير المستندة إلى منهجية علمية دقيقة؛ لأنه يدرس الآليات التي تتحكم في إنتاج هذه النصوص، وهذه الآليات لا يمكن الوصول إليها دون معرفة مسبقة بتاريخ الأجناس الأدبية، ومنطق التفاعل بينها، وتاريخ نشوئها، ونظرياتها ومناهجها. كل ذلك يروم تحقيق مناخ نقدي فاعل وحقيقي يواكب الإصدارات السردية في الرواية، والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا في المشهد الثقافي العماني.
بيد أن الأمر إذا كان في شق منه يتمثل في نقد الأعمال السردية، شريطة أن يكون نقدا حقيقيا يتجاوز أشكال النقد الاحتفائي كشرط يصب في مصلحة السرد ونقده معا، فإنه – وبالمعنى التفاعلي وفقا لكيمياء الكتابة – وسيلة لإنتاج السرد في الشق الآخر منه، وليس مجرد سبر لسرد مُنتج، وما سبيله إلى ذلك إلا بورش الكتابة السردية، التي تسهم في تجاوز مفهوم الإلهام في الكتابة، لتنخرط به بنحو عملي في الممارسة الواعية التي تستفيد من خبرات سابقة لا لتفرض توجهها الكتابي بقدر ما تقترح الرؤى، وتفتح آفاق الإبداع سعيا لمرحلة أكثر نضجا في الكتابة الإبداعية؛ لأن السرد في نهاية الأمر هو صناعة تحتكم إلى معرفة عميقة بالحياة وبالأدب وتحولاتهما على مستوى الشكل والمضمون.
وبحلول شهر سبتمبر - على خطوة يومين - سيكمل مختبر السرديات العماني عامه الأول، بيد أن المختبر (الفكرة) القائمة على اختبار السرد من جهة وإنتاجه من جهة أخرى بما يجعل من (مختبر السرد) مكملا لـ (سرد المختبر)، واحد من استراتيجيات النظر في مستقبل الكتابة السردية، وما أحسبه أننا في عمان لم نشهد أكثر من ورشتين سرديتين على المستوى العلني، إحداهما تبنتها اللجنة الوطنية للشباب في الملتقى الأدبي العشرين في عام 2014م، والأخرى نفذها مختبر السرديات العماني في مطلع العام الجاري، فهل ذلك يكفي؟ فإذا كان مختبر السرديات العماني متبنيا لنهج الورش الكتابية التي ستكون أكثر حضورا في مواسمه القادمة - وليس المقام لتقييمه فلذلك من يقوم به - فإن مثل هذه الورش باتت ملحة في غير برنامج، وفي غير محفل، فعلى الأقل سيجد الراغبون في الكتابة بأنواعها عينا خبيرة توجه خطواتهم الأولى وتحفز طاقاتهم الكتابية ومكامنها، من خلال تكريس مسؤولية الكتابة الإبداعية التي لم تعد تعترف بالمحركات الغيبية غير القابلة للضبط، وإنما شأنها شأن أي صناعة تستدعي الوعي والإتقان والاختلاف والنظر.