الجمعة، 28 أغسطس 2015

من مختبر السرد إلى سرد المختبر

من مختبر السرد إلى سرد المختبر

منى بنت حبراس السليمية

جريدة الزمن - 30 من أغسطس 2015

     لوهلة بدت كلمة (مختبر) ناتئة ومقحمة على كلمة (السرد)، وعلى الأدب عموما إذا ما أردنا أن نجعل لكل فن من فنونه مختبره الخاص، فلم تستسغ الأذهان دخول لغة العلوم الطبيعية التي تمثلها كلمة (مختبر) إلى الفنون القولية، على الرغم من أنها لم تكن سابقة في عمان عندما تم تدشين مختبر السرديات العماني في سبتمبر من العام الماضي، فهناك مختبرات عدة للسرديات في العالم العربي (الإسكندرية، والدار البيضاء، وتونس، والسعودية، ...)، وتزداد في ظل هيمنة الأجناس السردية - الرواية خصوصا - على دائرة التلقي العربي عموما، وإن كانت هذه الهيمنة لا تكاد تخرج عن نطاق الفورة الإعلامية، وبروز النقد الصحافي على نحو مهول، في ظل تراجع الدراسات الجادة في الأعمال الأدبية.

      وتعمد فكرة المختبر إلى استنطاق مكامن الجدة التي تطرحها النصوص ليس على مستوى الموضوعات وحسب، بل على مستوى المعمار والرؤية الفنية والمعرفية والإشكالات التي تثيرها هذه النصوص عن طريق فحص معانيها، وتحليل خصائصها الجمالية، ومعاينة التطور الحاصل على مستوى إنتاجية السرد في عمان، باستثمار دلالات (المجهر) الذي يروم الحفر في الأبعاد الاحتمالية التي تكشف عنها الاستعارات الكلية للنصوص من جهة، والكشف عن نظريات توسع الجنس الأدبي نفسه من جهة أخرى، خاصة أن أجناس السرد، والرواية منها على نحو خاص، تظل أجناسا مفتوحة لا نهائية، وهذه الدلالات تتيح للناقد أن يصل فيها إلى مواطن الجمال والقبح، وإضفاء طابع القيمة عليها، وهذه هي وظيفة النقد الأدبي التي تفرّقه عن وظيفة رجل المختبر مع مواده الكيميائية مختبِرا مكوناتها ومحللا عناصرها. بيد أنه يأخذ من هذا الأخير صفة (العلمية) التي يجب أن يتسم بها النقد الأدبي في محاولةٍ للنأي به عن الانطباعية والمجاملات غير المستندة إلى منهجية علمية دقيقة؛ لأنه يدرس الآليات التي تتحكم في إنتاج هذه النصوص، وهذه الآليات لا يمكن الوصول إليها دون معرفة مسبقة بتاريخ الأجناس الأدبية، ومنطق التفاعل بينها، وتاريخ نشوئها، ونظرياتها ومناهجها. كل ذلك يروم تحقيق مناخ نقدي فاعل وحقيقي يواكب الإصدارات السردية في الرواية، والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا في المشهد الثقافي العماني.

       بيد أن الأمر إذا كان في شق منه يتمثل في نقد الأعمال السردية، شريطة أن يكون نقدا حقيقيا يتجاوز أشكال النقد الاحتفائي كشرط يصب في مصلحة السرد ونقده معا، فإنه – وبالمعنى التفاعلي وفقا لكيمياء الكتابة – وسيلة لإنتاج السرد في الشق الآخر منه، وليس مجرد سبر لسرد مُنتج، وما سبيله إلى ذلك إلا بورش الكتابة السردية، التي تسهم في تجاوز مفهوم الإلهام في الكتابة، لتنخرط به بنحو عملي في الممارسة الواعية التي تستفيد من خبرات سابقة لا لتفرض توجهها الكتابي بقدر ما تقترح الرؤى، وتفتح آفاق الإبداع سعيا لمرحلة أكثر نضجا في الكتابة الإبداعية؛ لأن السرد في نهاية الأمر هو صناعة تحتكم إلى معرفة عميقة بالحياة وبالأدب وتحولاتهما على مستوى الشكل والمضمون.

     وبحلول شهر سبتمبر - على خطوة يومين - سيكمل مختبر السرديات العماني عامه الأول، بيد أن المختبر (الفكرة) القائمة على اختبار السرد من جهة وإنتاجه من جهة أخرى بما يجعل من (مختبر السرد) مكملا لـ (سرد المختبر)، واحد من استراتيجيات النظر في مستقبل الكتابة السردية، وما أحسبه أننا في عمان لم نشهد أكثر من ورشتين سرديتين على المستوى العلني، إحداهما تبنتها اللجنة الوطنية للشباب في الملتقى الأدبي العشرين في عام 2014م، والأخرى نفذها مختبر السرديات العماني في مطلع العام الجاري، فهل ذلك يكفي؟ فإذا كان مختبر السرديات العماني متبنيا لنهج الورش الكتابية التي ستكون أكثر حضورا في مواسمه القادمة - وليس المقام لتقييمه فلذلك من يقوم به - فإن مثل هذه الورش باتت ملحة في غير برنامج، وفي غير محفل، فعلى الأقل سيجد الراغبون في الكتابة بأنواعها عينا خبيرة توجه خطواتهم الأولى وتحفز طاقاتهم الكتابية ومكامنها، من خلال تكريس مسؤولية الكتابة الإبداعية التي لم تعد تعترف بالمحركات الغيبية غير القابلة للضبط، وإنما شأنها شأن أي صناعة تستدعي الوعي والإتقان والاختلاف والنظر.

الخميس، 27 أغسطس 2015

فن التلصص على حياة الآخرين

فن التلصص على حياة الآخرين

منى بنت حبراس السليمية

مجلة التكوين - العدد 2

        كنت مع مطلع العقد الثاني من عمري مدفوعة برغبة كامنة في اكتشاف حيوات الآخرين، وتتبع مساراتها ومآلاتها ومحطاتها الكبرى وانعطافاتها. أفعل ذلك كنوع من محاولة تفكيك الظروف والملابسات التي جعلت منهم ما هم عليه. فعلت ذلك مع الشعراء من ضيوف أبي الذين كنت أتلصص على مجلسهم وأحاديثهم خلف الباب الزجاجي مسدول الستار على الدوام فاصلا بين مجلسهم وصالة الطعام، وأتتبع حواراتهم دون أن يشعر بي أحد. مفتونة بأحاديث وحكايات عنهم أو عن غيرهم لم أعشها تخص غيري.

      فعلت ذلك مرارا قبل أن أدخل عالم التلصص الورقي الذي عرفته ليس بتأثير كتاب كما يحدث مع معظم القراء، ولكني عرفته بنحو وافق رغبتي الكامنة في التلصص من أستاذ النقد القديم الدكتور العراقي وليد محمود خالص – وكان أستاذا في جامعة السلطان قابوس – الذي كتبت عنه أكثر من مقال بوصفه أنموذجا للأستاذ الذي يستطيع بسلوكه – لا بنصائحه – أن يجعل من القراءة عشقا.

       كانت مادة فن السيرة الذاتية التي درّسها لنا الدكتور خالص مدخلا لقراءاتي الأولى في فن التلصص الذي يتيح متعة خالصة في اكتشاف حيوات الآخرين، والإقامة في ثنايا سراديبها. وأتذكر كيف أنني في صيف 2003 تماهيت مع عوالمها لدرجة تلبستني على نحو خاص دون سواها، فقرأت للكاتب والفيلسوف المصري زكي نجيب محمود، بدءا من سيرتيه الذاتيتين "قصة نفس" و"قصة عقل" اللتين بسببهما رحت أتتبع كتبه الأخرى حتى أتيت عليها كلها باستثناء كتاب وحيد لم أوفق في الحصول عليه حتى اللحظة، وهو كتاب"خرافة الميتافيزيقيا" الذي صدر في طبعة لاحقة بعنوان معدّل "قصة الميتافيزيقيا".

       واستمر من بعد تأثير زكي نجيب محمود مدة ليست بالقصيرة، وأحسبه لا يزال، فكنت لا أقاوم كتبه المصفوفة في رفوف مكتبة كلية الآداب بجامعة السلطان قابوس أو المكتبة الرئيسة، فكان كل كتاب منها يجرني إلى الآخر، وأحسب أن كتبه بالذات مع كتب أخرى قليلة – رغم مرور السنوات –  بقيتُ أتذكر تفاصيل ما تتضمنه كوشم عالق في الذاكرة.

      ولم يقتصر تأثير زكي نجيب محمود عند هذا الحد، بل ألهمني موضوعا يتعلق بكتاباته ليكون مادة أطروحتي في الماجستير، ولم أعرف أي طارئ جعلني أعدل عن الموضوع، دون أن أعدل عن تعلقي بكتابات محمود.

      وأزعم أن زكي نجيب محمود نوع من الفلاسفة القلائل الذين يستطيعون تيسير الفلسفة بلغة الحياة، ويصعّد الحياة لمراتب الفلسفة، ويفعل ذلك ليجعل قارئه موقنا بأن الفلسفة ليست شيئا يهيم منفصلا عنه، فكان ممن يستطيعون أن يجعلوا النظرة إلى الحياة تتغير بنحو أفضل، فليست الفلسفة إلا هذا بكل بساطة، وبكل تعقيد في آن.

      وعلى الرغم مما قرأت من فلسفة زكي نجيب محمود، فقد استمرت قراءتي لفن السيرة الذاتية الآسر، وكان جبرا إبراهيم جبرا أيضا ممن تركوا تأثيرهم عليّ في سيرتيه"البئر الأولى" و"شارع الأميرات"، فضلا عن تجربته مع الكتابة التي أفرد لها كتابا أسماه"معايشة النمرة". حدث ذلك قبل أن أقرأ جبرا الروائي وجبرا الناقد.

       ومع فن السيرة الذاتية، اكتشفت خطورة هذا الجنس الأدبي بانفتاحه على كل الاحتمالات، وعلى كل أشكال التجريب، وارتكانه في عدد من التجارب على ممكنات التجاور فيما يتصل بالواقعي والتخييلي، وهكذا رحت أتلصص على عالم من الدهشة في "الأيام" لطه حسين، وعلى فضاء الجامعة في "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس، وعلى قسوة الأب في "الخبز الحافي"، والطفل العجوز في "زمن الأخطاء" لمحمد شكري، وعلى جمالية التشرد في"عراقي في باريس" لصموئيل شمعون، وعلى ثقافة التعايش والتسامح في المجتمع المغربي خلال مرحلة الاستعمار في "رجوع إلى الطفولة" لليلى أبو زيد.

      استطعت أن أعيش مع فن السيرة الذاتية أكثر من حياة. عشت عبرها حيوات كل من قرأت سيرهم الذاتية في وقت كنت فيه أتلمس طريقا خاصا في عالم مزدحم بالرؤى، والأفكار، والأحلام. ومرة أخرى فكرت – بديلا لموضوع زكي نجيب محمود آنف الذكر – أن أدرس فن السيرة الذاتية في عمان، في "مذكرات أميرة عربية" للأميرة سالمة بنت السلطان سعيد بن سلطان، التي استطاعت بمذكراتها أن تكشف ما لم يكشف عنه التاريخ من وجوه الحياة وألوانها في زنجبار إبان حكم والدها السلطان سعيد الذي وسع من رقعة الإمبراطورية العمانية إلى شرق أفريقيا، وعن قرية سرور وحكايات الطفولة في "منازل الخطوة الأولى" لسيف الرحبي، وفي "بوح سلمى" لمحمد بن سيف الرحبي، وعن مرارة تجربة الإعاقة كما عاشها وعايشناها مع محمد بن عيد العريمي في "مذاق الصبر"، وغيرها من السير التي تكاثرت من بعد، ولكن مرة أخرى أيضا – ولأسباب منهجية – عدلت من جديد، قبل أن يتجاوز تلك الأسباب زميلي الباحث نصيب الصبحي الذي أنجز دراسته الموسومة بـ "السيرة الذاتية في الأدب العماني الحديث".

      وأجدني مدينة لهذا الجنس الأدبي الناضح بالحياة، لأنه فتح شهيتي للكتب والقراءة، ولا يزال يدفعني لمزيد منها، لأن كل كتاب – مهما اختلف جنسه – إنما هو سيرة ذاتية لمؤلفه بطريقة أو بأخرى، وما الرواية في كثير من نصوصها إلا جوانب من سيرة ذاتية بدرجة ما، حتى وإن عمل الكاتب على تلوينها بمسحة من خيال، ومثلما كتب زكي نجيب محمود سيرة لنفسه، ثم عندما وجدها لا تكشف سيرته العقلية كتب سيرة أخرى لعقله، فكذا الشأن لكل كتاب مهما أوغل في العلمية، فإنما يكشف جانبا من تكوين صاحبه الثقافي والعلمي، ويقدم لنا – مهما اختلف موضوعه – صورة لحياة يمكن التلصص عليها (شرعا) في مستوى ما من المستويات.

      وأخيرا: أحسب أن الحياة بدون القراءة ستكون قاحلة وممحلة، وباهتة، وحزينة. وأجد السؤال عن مدى قدرتها على إحداث التغيير سؤالا مستفزا وغير عادل، يشبه تماما السؤال: أتؤمن بأن الهواء ينقل إليك أكسجين الحياة أم لا؟

الاثنين، 24 أغسطس 2015

برقية

برقية

منى بنت حبراس السليمية

     أعرف أني تأخرت كثيرا قبل أن أفعل، فقد مضت سبعة أعوام منذ انتقالك إلى هناك، واليوم فقط فكرت أن أبعث لك ببرقية تهنئة. سبعة أعوام تفصل بين عالمينا، ولكنها مليئة بما لا تعرف، وأجدني اليوم راغبة في أن أخبرك بكل شيء حدث منذ ذلك الحين. منذ الخامس والعشرين من أغسطس من عام 2008م. أفعل ذلك ربما لأنك تأبى أن تجهل ما يحدث في هذا العالم، ولكن هل حقا لا تعرف؟!

     دعنا نفترض أنك لا تدري، فمن أين نبدأ سرد الحكايات؟

     سأبدأ من حيث انتهيت، وربما قبله بأسابيع، آخر حدثين شهدتَهما: كنت متعبا، ولكنك تابعت بحرص صفقة تبادل الأسرى اللبنانيين في يوليو من عام 2008، وشهدت أول ظهور لسمير القنطار مبادَلا بتابوتين لأسيرين إسرائيليين اختطفهما حزب الله في 12 من شهر يوليو من عام 2006. عامان كاملان لم يكن في العالم أحداث أكبر ولا أصغر. يوم ذاك كنت ممدا على السرير، ولكنك حاضر الذهن تماما.

    أما الحدث الآخر، فكان موت محمود درويش، وكنت ممددا أيضا، ولكن هذه المرة على سرير المشفى، ولم تعرف بعده حدثا آخر. سافرت وعدت ولم تعِ من القصة شيئا، وودعناك واستقبلناك ووحدنا نعرف بقية التفاصيل.

    ما الذي يهمك أكثر فأخبرك به؟

    حسنا يا أبي، مر علينا صيف عصف بالعرب سُمي ربيعا، ولكنه خلّف الدنيا خريفا. هل أخبرك بمن سقط من الحكام العرب، ومن هرب، ومن اغتيل، ومن خُلع، ومن عُزل، ومن بقي؟ هل أخبرك بأن حربا من فوقنا وحربا من أسفل منا ونحن بين فكيهما معلقون لا نعرف إلى أين سيؤول المصير؟ هل أخبرك أن ماردا أهوج نبت فجأة يشبه القاعدة ولا يشبهها تَسمّى بالدولة الإسلامية يحرّك لعبة العالم؟ هل أقول لك إننا ما عدنا نحلم بعالم أجمل بقدر ما أصبحنا نسأل الله ألا يطولنا شيء من شرر الصراعات حولنا؟ هل كنت تعرف بكل هذا يا أبي؟

     في هذه اللحظة بالذات أيقنت أنك تستحق التهنئة؛ لأنك غادرت قبل أن تشهد هذا الخراب، وأنك أغمضت عينيك على أحداث بعضها يحمل فرحا، وأخرى محتومة برسم القدر، ولم تر ما رأيناه من عواصف وأحداث تُدني الأجَل.

     أعرف أنك ستسألني عن عُمان، حبيبتك التي كتبت فيها أجمل قصائدك. عمانك بخير. تأثرت قليلا بهبوب الخريف العربي، ولكنها تمكنت من الوقوف  سريعا. كما أنها خرجت من صمتها أكثر من مرة وقالت (لا). هل كنت تتوقع ذلك؟ نعم فعلتها كما فعلتها من قبل، ولكنها هذه المرة أسمعت ودوّت. وهل تدري أنها أسهمت في صلح تاريخي بين أمريكا وإيران؟ نعم يا أبي .. صدّق، لقد فعلتها، وتحاول أن تقود إلى حل للحرب الدائرة في (اليمن)!

     كأني بك الآن تشهق من الخبر الصاعقة .. نعم يا أبي، حرب في اليمن يقودها تحالف عربي قيل مكون من 11 دولة، وقيل أكثر من ذلك وقيل أقل. وبتنا نشهد تفجيرات في المساجد هنا وهناك، هل تصدق أن هذه التفجيرات وقعت في مساجد داخل السعودية والكويت!!

      ما كنت أريد أن أزعجك بكل هذا يا أبي، ولكن هناك خبر آخر: البترول يهوي بسرعة الصاروخ. وصل اليوم إلى 40 دولارا للبرميل، والأيدي على القلوب تسأل الله ألا (يرخص) أكثر كي لا نخسر ما لا نتخيلنا بدونه. أقول لك كل هذا كي أهنئك؛ لأنك رحلت في التوقيت المناسب تماما قبل أن تبدأ سلسلة الأوجاع هذه.

    الخبر الأخير: أصبح لك من الأحفاد أحد عشر، بعدما كانوا ستة يوم غادرت. يتأملون صورتك كل يوم ويدعون لك بجنة عرضها السماوات والأرض، ونحن من خلفهم نردد: آمين

أرسلت في 25 من أغسطس 2015

الجمعة، 21 أغسطس 2015

في صحة الاختلاف

في صحة الاختلاف

منى بنت حبراس السليمية

جريدة الزمن - 23 من أغسطس 2015

     انتهى الملتقى الأدبي والفني الحادي والعشرون فيزيائيا، ولكنه لم ينتهِ إعلاميا وافتراضيا؛ فالسجال لا يزال قائما بين المتسابقين (وغيرهم) في مواقع التواصل الاجتماعي حول نتائج المسابقة في فروعها المعهودة والمستحدثة، وتتابعت ردود أفعال عدد من الشباب تعبيرا عن احتجاجهم ورفضهم، سواء تعلق الرفض بالنتائج النهائية، أو بآراء لجان التحكيم التي رأوا كثيرا منها (قاسية) و(ظالمة) - وسأتجاوز الحديث حتى حين عن رفضهم لبعض الرؤى والمدارس الشعرية. فمهما كانت ردود الفعل عنيفة وقوية؛ فهي تعبر عن رؤى تعكس تطلعات المبدعين الشباب وآمالهم، ورغبتهم في أن يكون الأدب وسيلتهم لتحقيق ذواتهم، والإعلان عنها في زحمة هذا الوجود، فيحق لهم التعبير عن غضبهم، وعدم رضاهم عن النتائج أو آراء لجان التحكيم؛ لأن الأدب في نهاية المطاف ليس معادلات رياضية لا تحتمل أكثر من وجه للحقيقة، وإنما هو شأن نسبي، وهذا ما حرصت لجان التحكيم على تأكيده منذ جلساتها الأولى، فلا يعدو ما تدلي به تلك اللجان أن يكون مجرد وجهات نظر، وللكاتب الحق في أن يتبنى منها ما يشاء، ويترك منها ما لا يستجيب لقناعاته الجمالية، وقد تأكد ذلك من خلال إتاحة الفرصة للكاتب – بخلاف العادة – لمحاورة اللجنة والدفاع عن نصه بالكيفية التي يراها مناسبة، وهذا في حد ذاته ضرورة ثقافية ملحة، ووسيلة لترسيخ ثقافة الاختلاف.

     وأحسب أنه ليس للمتابع أن يحكم على فورة الشباب الرافضة هذه انطلاقا من تصورات نقدية جاهزة؛ لأنها ردة فعل تقتضيها طبيعة المرحلة العمرية التي يعيشها هؤلاء المبدعون، ولكونها - أيضا - مؤشرا قويا على نجاح الملتقى في الدفع بإبداعاتهم نحو واحات أرحب، والتعلق بها على نحو صادم ومفرح في الآن نفسه.

    فكاتب النص في جغرافياته المتعددة يحب أن يشعر بأن المتلقي (اللجنة) تفاعلت مع نصه، وأن يلمس منها هذا المنزع في طريقة حديثها عن مكامن القوة فيه موضوعا وبناء ولغة، حتى إذا ما اطمأن لذلك أصبح أكثر تقبلا لوجهة النظر الأخرى؛ لأنه موقن بأن الناقد إنما يكتشف أدواته من النص نفسه، مع إحاطته – بطبيعة الحال – بالخلفيات المعرفية التي تجعله يغوص فيه عميقا.

  ولذلك فإبراز مكامن النقص - في هذا النص أو ذاك - لابد أن يسبقه حديث عن مكامن القوة التي أهلته لأن يكون واحدا من النصوص المتنافسة في مسابقة الملتقى أساسا؛ لأن سياق التلقي الجديد في ظل ثورة التواصل وظهور الأنا الفردية، يجعلان الناقد في وضعية مركّبة تحتاج منه كثيرا من التبصر كي يتجنب التجريح؛ ولأن الناقد مهما حاول في خطابه النقدي إقناع المتسابق بأنه تلقى مثله وأكثر عندما كان في موقعه، فإن الكاتب تبعا لهذا السياق الثقافي الجديد لن يستوعب ذلك تحت قوة الضغط النفسي، وتأثيره.

      وأحسب أنه لا حاجة للحديث نقديا عن النصوص الضعيفة، بل لا حاجة لتأهلها للمرحلة النهائية أصلا، عوضا عن الاصطدام بنتيجة ختامية تقضي بحجب الجوائز هنا أو هناك في مسابقة يفترض بها تشجيع إبداعات الشباب، وما من شرط يحتم ضرورة أن يبلغ عدد النصوص المتأهلة لرقم بعينه؛ لأن سياق التلقي لم يعد يسمح بقول حقيقة النص أمام كاتبه؛ فمهما ادّعينا القوة يظل المبدع كائنا هشا، ويعجز عن فصل النص عن ذاته، وأية محاولة لهدم نصه– وهو المسكون بالكتابة مصيريا– معناه أننا نقصيه من دائرة الحياة، ونجعله يفقد ثقته بنفسه. وأمام هذا المأزق النفسي الصعب لا بد من الأخذ بعين الاعتبار زاوية النظر السيكولوجية في الوقت الذي يمكن فيه إبداء ملاحظات تخدم إمكانات النص الجمالية. ولكن عندما يشعر الكاتب أن الناقد لم يقرأ نصه بما يكفي لكي يصل إلى دلالاته الاحتمالية، فإن شروط الثورة على الناقد تكون متوفرة، وتملي عليه انتظار الفرصة المضادة - ما لم يصنعها - والمتمثلة في المعارك السجالية، وعبر وسائل النشر التي يراها مناسبة في الفضاءات المفتوحة كما شهدنا بُعيد الملتقى، لنجده في هذه الفضاءات أكثر جرأة منه على المنصة على الرغم من الفرصة المتاحة له للحوار والاختلاف، الأمر الذي يثير دوافع الدراسة والنظر؛ فعوضا عن استثمار مساحة الاختلاف الفيزيائية المتاحة، يوظف العالم الافتراضي للتعبير عما لم يعبر به على المنصة التي بدا فيها (بعضهم) نافد الصبر على الإنصات والاستفادة، ومهزوزا في دفاعه عن نصه!

     بيد أن الأهم من كل ما سبق هو تأصيل هذه الثقافة المتمثلة في حق الاختلاف سواء في الأدب أو الفن أو صنوف المعرفة الإنسانية الأخرى، وخلق الوعي بأنه لا كلمة فصل في النقد الأدبي الذي يبقى مفتوحا على أفق الاحتمال. وقد تعلمنا من تاريخ النصوص وتلقيها في الأدب كيف أن القراءة - حتى بعد موت الكاتب - تعيد إحياء النصوص نقديا، مع أهمية الاحتراز المنهجي عندما نكون أمام كتّاب يطمحون لتشكيل وعيهم الجمالي والاستمرار في درب الكتابة، والحرص على أن تكون وجهة النظر النقدية متسمة بنوع من البيداغوجية.

      وأجده من المهم أن تكون وزارة التراث والثقافة أكثر دقة في اختيار أعضاء لجان التحكيم ممن يستطيعون تقديم الفائدة الحقيقية للكاتب الشاب ومحاورته عميقا في نصه وتجاوز شكليات النص، كما أنه من المهم أيضا وجود ناقد إلى جوار كاتبين، وناقد إلى جوار شاعرين، وهكذا في كل فرع من فروع المسابقة؛ لأن الرؤية عند الكاتب تختلف عنها عند الناقد، فيتحقق توازن المعادلة وتصبح وجهة النظر أشمل وأعمق.

     ختاما أقول: لقد حرّك الملتقى الأدبي والفني من خلال السجالات الدائرة -الآن- مياهنا الراكدة، وأنعشت نقاشاته وحواراته ألوانا من الرؤى، وجعلتنا نلتفت لأصوات قلما أفصحت من قبل عن نظرتها الخاصة إزاء ما تعايش من تجارب. وقد يكون من المناسب في الدورات القادمة استثمار مثل هذا النقاش في إطار ورش كتابية تثمر نصوصا تستوعب وجهات النظر المختلفة، لترسو أخيرا في ميناء صاحب الرؤية الذي يصوغها للتنافس في ختام الملتقى على المراكز الخمسة.

طائرة

طائرة

منى بنت حبراس السليمية

قال لها: "من عباءتك الوظيفية يمكن أن تخرج رواية طائرة"، فأحبت وظيفتها في انتظار طائرة الرواية.

السبت، 15 أغسطس 2015

قصور التسويق يطول أكبر جائزة في الوطن العربي

قصور التسويق يطول أكبر جائزة في العالم العربي

منى بنت حبراس السليمية

جريدة الزمن - 16 من أغسطس 2015

       ليس من قبيل المصادفة أن يجهل عدد كبير من المثقفين والمهتمين على امتداد عالمنا العربي جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، على الرغم من مرور أربعة أعوام على انطلاقتها الأولى في عام 2012، وعلى الرغم من أنها تعد الجائزة الأكبر (ماديا) في العالم العربي؛ إذ تقدر قيمتها بمائة ألف ريال عماني (مائتين وستين ألف دولار أمريكي).

     وتحظى في المقابل جوائز أخرى قريبة جغرافيا بشهرة ضاربة قبل أن تنطلق نسختها الأولى. فما الذي يجعل تلك الجوائز حديث الناس، وموضوع انتظاراتهم، ومحط ترقبهم، في حين تبقى جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في الظل على الرغم من دورتها الرابعة؟!

    قد يُفسر ذلك بتعدد مجالات تخصصاتها واختلافها من دورة إلى أخرى مما شتت الاهتمام، وقلص العناية بها حسب الـمُعلن عنه من التخصصات، على عكس جوائز قصرت تركيزها على مجال واحد كالرواية مثلا أو الشعر أو الدراسات السردية وغيرها. ولكن في الواقع يمكن قبول ذلك فيما لو حظيت الجائزة منذ دورتها الأولى بالعناية الإعلامية المماثلة. فهل كان الإعلام موفقا في التسويق لها مقارنة بالإعلام الآخر الذي نجح في الترويج لجوائزه؟ إذا كانت الإجابة بنعم فحينها فقط يمكن قبول السبب والأخذ بمسبباته.

    إن الميزانية الكبيرة التي خصصت للجائزة لا تعدم القدرة على الترويج لها بما يليق باسمها وبقيمتها، بيد أن أزمة التسويق عندنا –كما تبدو– أزمة فنية لا مادية، فضلا عن كونها أزمة عامة ليست الجائزة إلا مثالا آخر على وجه القصور الإعلامي الذي يطول أشياء كثيرة ليس المنتج الفكري أحدها، ولن تكون الجائزة آخرها، ولنضع بينهما كل ما يسعف ذكره مما أهمله الإعلام والتسويق من فنون وتراث وسياحة وابتكار وغيره، وعلى القائمين على الجائزة تدارك ذلك كله فيما بقي من وقت قبل أن يغلق باب التسجيل للدورة الحالية في الثلاثين من شهر سبتمبر المقبل.

     فليس المكسب المادي وحده هو المهم للفائز، بل القيمة المعنوية من وراء الجائزة التي لا تقل أهمية عنه بل تتفوق عليه، ولا تتأتى تلك القيمة إلا عبر الإشهار والترويج الحقيقي الذي يترافق عادة مع لحظة التدشين، وانتهاءً بلحظة الإعلان عن أسماء الفائزين، وما يستتبع ذلك بالضرورة من إشهار للمنتج الفكري الدال على صاحبه.

     وليس من نافل القول التذكير بأن جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب ترعى ثلاثة فروع كبرى هي: الثقافة، والفنون، والآداب، وفي كل سنة تختار مجالا لكل فرع من الفروع الثلاثة، فضلا عن أنها تخصص المنافسة بين العمانيين وحدهم في عام، وفي العام الذي يليه تفتح باب المشاركة أمام مثقفي العرب بما فيهم العمانيون.

      ففي سنتها الأولى الخاصة بالعمانيين، اختارت عن فرع الثقافة مجال الدراسات التاريخية، وفاز بها الدكتور محسن بن حمود الكندي، وعن فرع الفنون اختارت مجال الرسم والتصوير الزيتي، وفاز بها الفنان رشيد عبد الرحمن البلوشي، وعن فرع الآداب اختارت مجال القصة القصيرة، وفاز بها القاص محمود الرحبي.

     وفي الدورة الثانية المفتوحة للعرب، اختارت لفرع الثقافة مجال قضايا الفكر المعاصر، وفاز بها الدكتور المغربي عبد الإله بلقزيز، وعن فرع الفنون اختارت مجال الموسيقى، وفاز بها الموسيقار المصري أمير عبد المجيد، وعن فرع الآداب اختارت مجال الشعر الفصيح، وفاز بها الشاعر العماني سيف الرحبي.

     وفي الدورة الثالثة المخصصة للعمانيين، اختارت عن فرع الثقافة مجال الدراسات التربوية، وفاز بها الدكتور سعيد بن سليمان الظفري، وعن فرع الفنون اختارت مجال التصوير الضوئي، وفاز بها المصور أحمد بن عبد الله الشكيلي، وعن فرع الآداب اختارت مجال التأليف المسرحي، وفاز بها المؤلف عماد بن محسن الشنفري.

     وفي الدورة الحالية التي تعاود فتح باب المشاركة أمام العرب من جديد، فقد تم اختيار مجال دراسات اللغة العربية عن فرع الثقافة، ومجال الخط العربي عن فرع الفنون، ومجال أدب الطفل عن فرع الآداب.

     فهل ستنجو الجائزة من غفلة الإعلام أخيرا؛ لتكون مركز ثقل عربي يوزع التقدير بالتساوي على صنوف الإبداع كافة، من دون مفاضلة تستتبع حديثا بات عقيما عن موت جنس، وإعلان حياة جنس آخر لمجرد جائزة التفتت إلى هذا دون ذاك؟ هل سيكون الانتصار للإبداع في ذاته قيمةً ومعنى متجاوزة الإشكالات المرتبطة بلجان التحكيم، وتوجهاتها في عالمنا العربي، التي تعودنا أن تثار بعد كل نتيجة لتطغى على الحديث عن الفائز ومنجزه؟!

     وإذا كان لابد من اقتراحات للجائزة بعد سنواتها الأربع، فمن الضروري التفكير في النقاط الآتية:
ـ لا بد من ورش تقويمية للجائزة يستدعى إليها بعض الخبراء من المثقفين العرب المختصين في مجالات الجائزة.
ـ ضبط المجالات بنحو دقيق؛ خشية وقوع اللبس واتساع دوائر الحقول المعرفية في المجال الواحد، فدراسات اللغة العربية مثلا تشمل الدراسات الأدبية والنقدية واللسانية، وكذلك الشأن بالنسبة لمجال قضايا الفكر المعاصر قبلها.
ـ أن تمر الجائزة بمراحل ثلاث: مرحلة اللائحة الطويلة، ومرحلة اللائحة القصيرة، ومرحلة التتويج. وينبغي الإعلان عن اللائحة القصيرة في العام الذي يتنافس فيه العرب في قطر عربي معين، ويُستدعى له الإعلاميون العرب المتخصصون في الإعلام الثقافي، وبعض الضيوف من كبار النقاد والمثقفين.
- التدقيق في لجان التحكيم واستدعاء أهل الدراية لتكوينها، والحرص على إعلان التبرير العلمي لاختيار الفائزين بالجائزة.
ـ قد يكون من المناسب اقتراح جائزة موازية للمؤلف الشاب وتخضع لمواصفات جائزة الكبار نفسها.