ذاكرة الملتقى: ساق البامبو، والتحكيم، والفقدان!
منى بنت حبراس السليمية
لا أملك كغيري ذاكرة قديمة للملتقى الأدبي للشباب الذي يسجل في هذا الأسبوع نسخته الحادية والعشرين بمدينة نزوى، فقد شهدته لأول مرة في نسخته التاسعة عشرة في خصب. يومها لم أدخله متسابقة كما يجدر بشابة في مثل سني، وقد كنت حينها في الثامنة والعشرين من عمري. دخلته باسم اللجنة الوطنية للشباب التي شاركت في تلك النسخة باستضافة الروائي الكويتي سعود السنعوسي صاحب البوكر عن روايته "ساق البامبو" في عام 2013.
كنا اقترحنا، هدى حمد وأنا، أن تشارك اللجنة بفعالية ترمز للشباب، فلم يكن أفضل من استضافة روائي شاب فاز لتوه بجائزة الرواية العربية (البوكر). ولكن ماذا بعد؟ فكرنا أننا نحتاج إلى محاورته أولا، وإلى تقديم ورقة نقدية في روايته ثانيا.
هدى-التي كانت عضوا في اللجنة الوطنية للشباب- إعلامية أيضا، ومحاورة جيدة تشهد لها عشرات المحاورات الصحفية، وغير الصحفية مع شخصيات أدبية، وفنية، وثقافية. فإذن ستكون هدى حمد محاوِرته، وهي في الوقت نفسه عضوة اللجنة.
فماذا عن القراءة النقدية؟ فبحكم أني باحثة في النقد الروائي، فقد تصديت للمهمة. ولأني كنت عضوا في اللجنة نفسها أيضا، فقد حققت اللجنة لأول مرة (ربما) اكتفاءً ذاتيا في مهمة من هذا النوع.
أعددنا التحضيرات اللازمة، وقدمت اللجنة دعوتها للروائي سعود السنعوسي. وبدأت هدى تعد أسئلتها، وطفقت أنا أدرس ساق البامبو. قرأتها مرتين: إحداهما كانت المرة الأولى التي أقرأ فيها كتابا (إلكترونيا). فعلت ذلك اضطرارا لأن النسخة الورقية لم تتيسر (كما في كل مرة تعنّ فيها الحاجة لكتاب خارج أيام المعرض السنوي). وقرأتها في المرة الثانية من نسخة استعرتها من الصديق جاسم الطارشي، الذي أصبح نصف مكتبته عندي مع الوقت دون أن يدري!
لم يكن ممكنا لسعود وهدى وأنا أن نقضي في خصب أسبوع الملتقى كاملا، فقد كان لكل منا ظرفه الخاص الذي يحول دون ذلك، وليس أمامنا سوى يوم واحد فقط هو الاثنين الذي صادف 9/9/2013 ويوم آخر قبله للوصول، ويوم بعده للمغادرة.
التقيت سعود السنعوسي لأول مرة في مطار مسقط أثناء انتظارنا لموعد إقلاع طائرة تقلنا إلى خصب. لم يكن سعود يعرفني بطبيعة الحال، فتكفلت هدى بتعريفه بي، ولم أكن بحاجة لأن يتم تعريفي به! فقال سعود ضاحكا وممازحا: "إذن هذي هي الناقدة .. هالله هالله فيني بس" ابتسمت، ولم أعرف لحظتها من منا عليه أن يوصي بهذه الـ هالله هالله فيني! لزمتُ الصمت طوال الرحلة؛ ربما خجلا، وربما ارتباكا .. وهو الأرجح. وصلنا لمطار خصب الذي استقبلنا فيه الأستاذ سالم البهلولي. ومنه إلى فندق جولدن توليب حيث يقيم المشاركون جميعا.
بعد سويعات قليلة أخذنا هلال البادي، سعود وهدى وأنا، في جولة حول محيط خصب. تكلمنا عن خصب الولاية ومسندم المحافظة، وعن الجبال والروايات التي استلهمت هذا المكان خليجيا، وعن فندق نسمع به ولم نره سُميّ خمس الحواس، وعن كلام يقال بأن سعر الليلة فيه تصل إلى 200 ريال عماني!
لدى عودتنا إلى الفندق وجدنا المتسابقين يجتمعون في قاعة منه، يعقدون فيها جلسة نقاشية بينهم وبين أعضاء لجان التحكيم. دخلنا عليهم سعود وهلال وهدى وأنا. أخذنا مقاعدنا دون أن نقطع سير النقاش. كانت الدكتورة فاطمة الشيدي والشاعر إسحاق الخنجري (وقد كانا عضوي لجنة تحكيم الشعر الفصيح) يتناوبان الحديث عن الشعر وكتابته وآفاقه ورؤاه. بعدها بدأ سليمان المعمري في تقديم ورشته عن القصة القصيرة. هنا استفحل صداع رأسي وعجزت بسببه عن البقاء، فبعثت برسالة نصية لسليمان معتذرة منه عن الانسحاب لحاجتي الملحة لبعض الراحة أذيب بها صداع رأسي.
لا أظنني خرجت من الغرفة حتى صبيحة اليوم التالي، ولم أنم بطبيعة الحال. كنت قلقة، ومرتبكة. كنت أخشى الإخفاق أمام هذا الجمع النوعي أولا، ومرتبكة لأن صاحب العلاقة حاضر وموجود ثانيا؛ فأن تقدم نقدا في حضرة صاحب النص فتلك حالة أخرى. وزاد من قلقي أن أستاذي ومشرفي على رسالة الماجستير كان رئيسا يومها للجنة التحكيم الرئيسة للملتقى، وسيكون مستمعا لورقة طالبته. فكان الحدث في تقديري يشبه مناقشة ثانية لماجستير لم يقيّد في جامعة!
الدكتور إحسان زاد من وتيرة القلق عندما قال لي في بهو الفندق صبيحة يوم الجلسة: "هل أنت مستعدة؟ سأسألك أهم سؤال: ما هو المنهج الذي اتبعته في قراءتك .. موفقة"
بلعتُ ريقي. هل عليّ أن أتوقع أكثر؟ لابد لي أن أفعل. سألت الله أن يُمضي هذا اليوم بأي شكل؛ فقط كي أعود بعدها لأنام!
قبل انطلاق الجلسة، رفع القاص والروائي حمود الشكيلي (الذي كان عضوا في لجنة تحكيم القصة القصيرة مع القاص والروائي محمود الرحبي) رفع التوتر إلى أقصى مداه عندما قال: "أنتم في لجنة الشباب أخطأتم؛ كان يمكنكم أن توسعوا من القراءات النقدية، وتعطوا المجال لأكثر من ناقد يضيئون العمل من أكثر من زاوية، بدل استضافة الرجل من أجل ورقة واحدة!"
هنا سقط قلبي في معدتي واستعصى عليها هضمه، وبقي هناك لا هو في مكانه، ولا هو يجد طريقه الطبيعي فأهدأ. إذن نجاح الجلسة بيدي! وعلي أن أكون كل الأوراق المفترضة في آن، وإلا فإن الفعالية المرتقبة ستكون دون مستوى النقد المتوقع.
قررت أخيرا أن أتخذ وسيلتي الدفاعية النفسية التي تعودتها في مثل هذه الظروف، وهي: ألا أفكر في شيء أبدا، ولتحدث أسوأ الاحتمالات .. فإن أحدا لن يموت بسببي لو أخفقت!!
صعدنا المنصة، فقدمت هدى حمد الروائي الشاب، ورحبت بي بحكم الضرورة. وانطلقت تحاوره، وتفتح معه نقاشا عن هموم الكتابة، وشجونها، وطقوسها. وعندما أسلمتني الكلمة، تحدثت .. ولما أنتبه إلى الوقت إلا وقد مضت أربعون دقيقة بتمامها وكمالها (بدا وقتا جيدا لم أتوقعه، وهو ما يساوي وقتا تحتاجه ورقتان)!
يحدث أحيانا أن تكون في وضع تخدير بعد مهمة تنجزها؛ لا تعرف ما إذا كانت العملية ناجحة أم أنك دخلت في غيبوبة أو حتى موت مؤقت. لم ينتشلني من ذلك الوضع إلا أستاذي نفسه د.إحسان صادق الذي جاء إليّ شاكرا ومعززا: "كانت ورقة عميقة يا منى. أنا فخور بك". في هذه اللحظة فقط، استعدت الوعي وأيقنت أني نجحت. تبعت ذلك كلمات جميلة من محمود الرحبي، وطفول زهران، وسعاد العلوي، وأحلام الحضرمي، ثم المهندس عاصم السعيدي الذي قدم لي شكرا بالغا. وفي الفندق أشاد بالورقة الشعراء إسحاق الخنجري، وحمود الحجري، وخالد العريمي، وأحمد الكلباني.
في اليوم التالي، كنا على موعد مع مطار خصب للعودة إلى مطار مسقط. عدت إلى سمائل، وعادت هدى إلى العامرات، وتسلّم الصديق والكاتب أحمد الراشدي الروائي سعود السنعوسي فيما تبقى له من وقت قبل أن يقفل عائدا إلى الكويت.
تلك المشاركة الأولى في الملتقى الأدبي التاسع عشر فتحت لي باب مشاركة أخرى في النسخة العشرين (وقد بدا أني أقنعت القائمين عليه)، ولكن بصفتي عضوا للجنة تحكيم القصة القصيرة. كان الزميل الآخر المفترض (قبل أن تصبح اللجنة مؤلفة من ثلاثة كما في نسخة الملتقى الحالية) هو د.محمد البلوشي الذي اعتذر لظرف ما قبيل انطلاق الملتقى في ولاية الرستاق، ليحل محله الإعلامي والقاص محمد اليحيائي (الذي أصبح روائيا بعد ذلك). التقيت بالأستاذ محمد اليحيائي للمرة الأولى قبل انطلاق الملتقى العشرين بيومين. التقينا لنناقش النصوص ونضع محدداتنا ومعاييرنا قبيل الانطلاق.
تجربة التحكيم تلك قربتني من أسماء ثقافية عمانية جميلة، ومن مشاركين، ومحكّمين، ومنظّمين، ولكنها كانت كافية لجعل المرء لا يفكر في اقترافها مجددا؛ بسبب أن كثيرا من الشباب لا يعون الفرق بين النقد الموجه لنصوصهم، والنقد الموجه لذواتهم. أحزنتني صداقات ظننتني أبنيها مع المتسابقين، فإذا بها تنتهي بعد سماعهم نقدا في حق نصوصهم، أو بعد إعلان النتيجة الختامية.
تعرفتُ في النسختين معا عن كثب على شعراء الشعر النبطي من محكّمين ومتسابقين. عرفت الشاعر خالد العريمي، والشاعر الراحل توا حمد الخروصي (وقد كانا عضوي لجنة تحكيم الشعر النبطي).
لحمد الخروصي جملة قالها لي لا تزال ترن في مسمعي، وكأنها بُعثت الآن: "كان سعود مبدعا، وكنتِ مبدعة. كانت ورقتك جميلة وممتعة".
لا نحتاج وقتا طويلا كي نعرف الناس؛ فقلوبهم البيضاء تعرف كيف تكشف عن بياضها بعفوية ومحبة. وها هو الملتقى يعود، ولن أكون فيه أكثر من مجرد حاضرة متى ما تيسر الوقت. ولكن غياب أناس عرفتهم كفيل بجعله ملتقى يحمل مسحة من الحزن لن يكون غير الأدب والفن وحدهما قادرَين على قول الحقيقة الوحيدة التي لا سلوى لنا غيرها: "المبدع لا يموت!".
9 من أغسطس 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق