في صحة الاختلاف
منى بنت حبراس السليمية
جريدة الزمن - 23 من أغسطس 2015
انتهى الملتقى الأدبي والفني الحادي والعشرون فيزيائيا، ولكنه لم ينتهِ إعلاميا وافتراضيا؛ فالسجال لا يزال قائما بين المتسابقين (وغيرهم) في مواقع التواصل الاجتماعي حول نتائج المسابقة في فروعها المعهودة والمستحدثة، وتتابعت ردود أفعال عدد من الشباب تعبيرا عن احتجاجهم ورفضهم، سواء تعلق الرفض بالنتائج النهائية، أو بآراء لجان التحكيم التي رأوا كثيرا منها (قاسية) و(ظالمة) - وسأتجاوز الحديث حتى حين عن رفضهم لبعض الرؤى والمدارس الشعرية. فمهما كانت ردود الفعل عنيفة وقوية؛ فهي تعبر عن رؤى تعكس تطلعات المبدعين الشباب وآمالهم، ورغبتهم في أن يكون الأدب وسيلتهم لتحقيق ذواتهم، والإعلان عنها في زحمة هذا الوجود، فيحق لهم التعبير عن غضبهم، وعدم رضاهم عن النتائج أو آراء لجان التحكيم؛ لأن الأدب في نهاية المطاف ليس معادلات رياضية لا تحتمل أكثر من وجه للحقيقة، وإنما هو شأن نسبي، وهذا ما حرصت لجان التحكيم على تأكيده منذ جلساتها الأولى، فلا يعدو ما تدلي به تلك اللجان أن يكون مجرد وجهات نظر، وللكاتب الحق في أن يتبنى منها ما يشاء، ويترك منها ما لا يستجيب لقناعاته الجمالية، وقد تأكد ذلك من خلال إتاحة الفرصة للكاتب – بخلاف العادة – لمحاورة اللجنة والدفاع عن نصه بالكيفية التي يراها مناسبة، وهذا في حد ذاته ضرورة ثقافية ملحة، ووسيلة لترسيخ ثقافة الاختلاف.
وأحسب أنه ليس للمتابع أن يحكم على فورة الشباب الرافضة هذه انطلاقا من تصورات نقدية جاهزة؛ لأنها ردة فعل تقتضيها طبيعة المرحلة العمرية التي يعيشها هؤلاء المبدعون، ولكونها - أيضا - مؤشرا قويا على نجاح الملتقى في الدفع بإبداعاتهم نحو واحات أرحب، والتعلق بها على نحو صادم ومفرح في الآن نفسه.
فكاتب النص في جغرافياته المتعددة يحب أن يشعر بأن المتلقي (اللجنة) تفاعلت مع نصه، وأن يلمس منها هذا المنزع في طريقة حديثها عن مكامن القوة فيه موضوعا وبناء ولغة، حتى إذا ما اطمأن لذلك أصبح أكثر تقبلا لوجهة النظر الأخرى؛ لأنه موقن بأن الناقد إنما يكتشف أدواته من النص نفسه، مع إحاطته – بطبيعة الحال – بالخلفيات المعرفية التي تجعله يغوص فيه عميقا.
ولذلك فإبراز مكامن النقص - في هذا النص أو ذاك - لابد أن يسبقه حديث عن مكامن القوة التي أهلته لأن يكون واحدا من النصوص المتنافسة في مسابقة الملتقى أساسا؛ لأن سياق التلقي الجديد في ظل ثورة التواصل وظهور الأنا الفردية، يجعلان الناقد في وضعية مركّبة تحتاج منه كثيرا من التبصر كي يتجنب التجريح؛ ولأن الناقد مهما حاول في خطابه النقدي إقناع المتسابق بأنه تلقى مثله وأكثر عندما كان في موقعه، فإن الكاتب تبعا لهذا السياق الثقافي الجديد لن يستوعب ذلك تحت قوة الضغط النفسي، وتأثيره.
وأحسب أنه لا حاجة للحديث نقديا عن النصوص الضعيفة، بل لا حاجة لتأهلها للمرحلة النهائية أصلا، عوضا عن الاصطدام بنتيجة ختامية تقضي بحجب الجوائز هنا أو هناك في مسابقة يفترض بها تشجيع إبداعات الشباب، وما من شرط يحتم ضرورة أن يبلغ عدد النصوص المتأهلة لرقم بعينه؛ لأن سياق التلقي لم يعد يسمح بقول حقيقة النص أمام كاتبه؛ فمهما ادّعينا القوة يظل المبدع كائنا هشا، ويعجز عن فصل النص عن ذاته، وأية محاولة لهدم نصه– وهو المسكون بالكتابة مصيريا– معناه أننا نقصيه من دائرة الحياة، ونجعله يفقد ثقته بنفسه. وأمام هذا المأزق النفسي الصعب لا بد من الأخذ بعين الاعتبار زاوية النظر السيكولوجية في الوقت الذي يمكن فيه إبداء ملاحظات تخدم إمكانات النص الجمالية. ولكن عندما يشعر الكاتب أن الناقد لم يقرأ نصه بما يكفي لكي يصل إلى دلالاته الاحتمالية، فإن شروط الثورة على الناقد تكون متوفرة، وتملي عليه انتظار الفرصة المضادة - ما لم يصنعها - والمتمثلة في المعارك السجالية، وعبر وسائل النشر التي يراها مناسبة في الفضاءات المفتوحة كما شهدنا بُعيد الملتقى، لنجده في هذه الفضاءات أكثر جرأة منه على المنصة على الرغم من الفرصة المتاحة له للحوار والاختلاف، الأمر الذي يثير دوافع الدراسة والنظر؛ فعوضا عن استثمار مساحة الاختلاف الفيزيائية المتاحة، يوظف العالم الافتراضي للتعبير عما لم يعبر به على المنصة التي بدا فيها (بعضهم) نافد الصبر على الإنصات والاستفادة، ومهزوزا في دفاعه عن نصه!
بيد أن الأهم من كل ما سبق هو تأصيل هذه الثقافة المتمثلة في حق الاختلاف سواء في الأدب أو الفن أو صنوف المعرفة الإنسانية الأخرى، وخلق الوعي بأنه لا كلمة فصل في النقد الأدبي الذي يبقى مفتوحا على أفق الاحتمال. وقد تعلمنا من تاريخ النصوص وتلقيها في الأدب كيف أن القراءة - حتى بعد موت الكاتب - تعيد إحياء النصوص نقديا، مع أهمية الاحتراز المنهجي عندما نكون أمام كتّاب يطمحون لتشكيل وعيهم الجمالي والاستمرار في درب الكتابة، والحرص على أن تكون وجهة النظر النقدية متسمة بنوع من البيداغوجية.
وأجده من المهم أن تكون وزارة التراث والثقافة أكثر دقة في اختيار أعضاء لجان التحكيم ممن يستطيعون تقديم الفائدة الحقيقية للكاتب الشاب ومحاورته عميقا في نصه وتجاوز شكليات النص، كما أنه من المهم أيضا وجود ناقد إلى جوار كاتبين، وناقد إلى جوار شاعرين، وهكذا في كل فرع من فروع المسابقة؛ لأن الرؤية عند الكاتب تختلف عنها عند الناقد، فيتحقق توازن المعادلة وتصبح وجهة النظر أشمل وأعمق.
ختاما أقول: لقد حرّك الملتقى الأدبي والفني من خلال السجالات الدائرة -الآن- مياهنا الراكدة، وأنعشت نقاشاته وحواراته ألوانا من الرؤى، وجعلتنا نلتفت لأصوات قلما أفصحت من قبل عن نظرتها الخاصة إزاء ما تعايش من تجارب. وقد يكون من المناسب في الدورات القادمة استثمار مثل هذا النقاش في إطار ورش كتابية تثمر نصوصا تستوعب وجهات النظر المختلفة، لترسو أخيرا في ميناء صاحب الرؤية الذي يصوغها للتنافس في ختام الملتقى على المراكز الخمسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق