الثلاثاء، 11 أغسطس 2015

سنة أولى فلسفة ج1

سنة أولى فلسفة ج1 - 2006

منى بنت حبراس السليمية

الفلسفة لغة واصطلاحا:

    غالبا ما تواجهنا كلمة الفلسفة في حياتنا اليومية بمعان شتى، فنسمعها تطلق في مجتمعاتنا في مواقف مختلفة بل ومتناقضة أحيانا، ومن المهم جدا قبل الدخول في محاولة التوصل إلى تعريف لها، أن نتطرق لبعض المعاني الشائعة[1] عنها في مجتمعاتنا العربية على وجه الخصوص، كما فصلها الدكتور سعيد إسماعيل علي، وسألخصها كالتالي:

1.     الكلام الغامض الذي يصعب فهمه.

2.     الفلسفة ترادف الكفر وإنكار وجود الله.

3.     هي الكلام بعيد المدى الذي لا يدركه إلا القلة من الناس، وبغض النظر عن موضوع الكلام.

4.     الفلسفة لا تعني إلا مجرد الكلام النظري حتى لو كان مفهوما وواضحا.

5.     الفلسفة تعني مجرد الجدل والمناقشة مما يدرجه البعض تحت لا فتة المناقشة البيزنطية.

6.     الفلسفة تساوي الثقافة.

غير أن المعاجم اللغوية تطالعنا بمعان أخرى، تقترب أو تبتعد:

1.     ففي لسان العرب: فلسف: الفلسفة: الحكمة، أعجمي، وهو الفيلسوف وقد تفلسف.[2]

2.     وفي ترتيب القاموس المحيط: الفيلسوف: يونانية: أي يحب الحكمة، أصله فيلا، وهو المحب، وسوفا، وهو الحكمة، والاسم الفلسفة مركبة كالحوقلة.[3] وهذا التعريف اكتفى بالعودة إلى الأصل اليوناني في تركيب اللفظة، وبيان نوعها.

3.     وفي المنجد في المترادفات والمتجانسات: فلسفة: حكمة، فيلسوف: حكيم.[4]

4.     وفي رائد الطلاب: فلسف فلسفة، الشيء: فسره أو أَوَّله فلسفيا، الفلسفة: 1. حب الحكمة، 2. الحكمة. 3. العلم بالوجود بمبادئه وعلله.[5] وفي هذا التعريف ما يشي بمعنى الفلسفة من ناحيتها العملية، من حيث هي طريقة في التفكير والتفسير.

     هذا فيما يتعلق بالمعنى اللغوي لكلمة الفلسفة، إلا أن المعنى الاصطلاحي لم يزل متعدد الأوجه، ويبدو أن استقراره على تعريف معين بات من الأمور غير الممكنة، ولكني سأسوق بعض التعريفات التي وضعت من هنا وهناك كل حسب اختصاصه وزاوية دراسته منها، وقبلها سنأتي على أصل الكلمة فلسفة: 

أصل كلمة فلسفة:

     أصل هذه الكلمة يوناني وتعني محبة الحكمة أو محبة المعرفة، بعدما كان معناها الحكمة، ويعد فيثاغورث أول من عدل معناها من الحكمة إلى محبة الحكمة؛ لأنه يرى أن صفة الحكمة لا تنبغي لأحد من الناس، بل هي صفة لله سبحانه وتعالى، ويقول: "حسب الإنسان شرفا أن يهوى الحكمة ويجد في طلبها"، وعلى ذلك تكون الفلسفة في رأي فيثاغورث تعني الرغبة العارمة في البحث والسعي المستمر نحو المعرفة والتعلق الدائب بالحقيقة[6].

     وإذا كان أصل الكلمة يونانيا، فإن ذلك لا يعني أن الفلسفة لم تعرف قبل اليونان أو عند غيرهم من الأمم، فالفلسفة موجودة مذ وجد الإنسان وشغله التفكير بما اشتغلت به الفلسفة عن الكون والحياة والإنسان والمصير، ويؤكد هذا الرأي صاحب كتاب دراسات في فلسفة التربية المعاصرة[7]

ما الفلسفة:

1.     يقول فنلند: إن المفهوم من مصطلح الفلسفة في الاستعمال العام اليوم هو التداول العلمي للمسائل العامة المتعلقة بمعرفة العالم والنظرة إلى الحياة[8].

2.     يقول اكينبو: الفلسفة هي النسق الفكري المتماسك منطقيا، وصولا إلى غايات حقيقية وصحيحة ومتماسكة[9].

3.     ويورد معجم لالاند مجموعة من التعريفات[10]، منها:

·        الفلسفة هي المعرفة العقلية والعلم بالمعنى الأعم.

·        الفلسفة هي مجموع الدراسات أو التأملات ذات الطابع العام، التي تسعى إلى رد نظام من المعرفة – أو المعرفة كلها – إلى عدد صغير من المبادئ الموجهة: فلسفة العلوم، فلسفة التاريخ،... الخ، ويقول هربرت سبنسر: إن الفلسفة هي المعرفة التامة للتوحيد.

·        الفلسفة هي الدراسة النقدية التأملية لما تبحث فيه من العلوم مباشرة، ويقول كورنو: الفلسفة تبحث في أصل معارفنا، وفي مبادئ اليقين، وتسعى للتوصل إلى أسباب الوقائع التي يقوم عليها بناء العلوم الوضعية.

·        الفلسفة هي الدراسة المتعلقة بأحكام القيم، وعلى هذا الأساس تتألف من العلوم المعيارية الثلاثة، وهي: الأخلاق وتبحث في الخير، والمنطق ويبحث في قيمة الحق، وعلم الجمال ويبحث في قيمة الجميل.

·        الفلسفة أساسا هي ما بعد الطبيعة، وما بعد الطبيعة كما حددها أرسطو هي البحث في الوجود بما هو موجود، أو هي العلم الخاص بالشروط العقلية للوجود وللحق، وبالعقل وبما هو عقلي كلي وعلم الفكر في ذاته، وفي ذاته وفي الأشياء.

     وببعض القراءة التحليلية لهذه المعاني نجد أن المعنى الأول ركز على أداة الفلسفة وهي دائما وأبدا العقل، ومجالها وهو العلم بالمعاني العامة دون تحديد لماهية هذه المعاني من حيث تمثلها للعيان، أم غيبية، أما المعنى الثاني فنلاحظ أنه يتفق مع المعنى الأول من حيث عمومية الفلسفة، ولكنها عمومية في النهاية تؤدي إلى رد كل الأنظمة إلى فلسفات خاصة، فلا شيء تقوم له قائمة دون الاستناد إلى أساس فلسفي متين يكون مسئولا عن وجوده، وهذه الحقيقة التي تجعل من الفلسفة كيان له الحياة الأبدية بين العلوم المختلفة، إن ماتت فلا علم يحيا بعدها، وفي تعريف هربرت للفلسفة بأنها المعرفة التامة للتوحيد، هو تأكيد للمعنى الذي توصل إليه ديكارت بعدما اتهم بالإلحاد أن قليلا من الفلسفة يؤدي إلى الإلحاد أما الفلسفة الحقيقية فتؤدي إلى اليقين. والتعريف الثالث يضيف للفلسفة بعدا نقديا، فهي إذ تكشف الحقيقة لا تقبلها على عواهنها بل إنها تعرضها على العقل الذي اكتشفها بالقبول أو التعديل، وأرى في تعريف كورنو تعريفا جوهريا شاملا – بالنسبة لي على الأقل – فالفلسفة لديه أصل المعارف أساسا، ويقينية كنتيجة تسعى إليها كل شاردة عقلية منهجية صحيحة، وتفسر الأسباب لكل جديد يقع، فهي شملت الأبعاد الزمانية الثلاثة بكل ما تتضمنه من حب الوصول إلى المعرفة. وفي التعريف الرابع تفصيل لأسس الفلسفة المثالية تحديدا من حيث الأساس الذي تبحث فيه، ومجالات بحثها المحصور في قيم الخير والجمال والحق. وفي التعريف الخامس يركز على الجانب الميتافيزيقي من المعرفة، وهو أصل الوجود باستنتاجات العقل، ويبقى هذا التعريف يشمل مبحثا واحدا من مباحث الفلسفة ويبقى قاصرا عن شمول المباحث الأخرى، ولكنه يبقى في النهاية معبرا عن وجهة نظر صادرة عن مشتغل بالفلسفة، وعبر عنها من زاوية اشتغاله.

     وتبقى مئات التعريفات ضمتها الكتب المتعددة حول الفلسفة تقترب من بعضها تارة وتبتعد تارات عديدة، ولعل السبب في ذلك يعود إلى عاملين مهمين، أولهما يعود إلى طبيعة الفيلسوف نفسه، والآخر يعود إلى طبيعة الفلسفة، أما أولهما:

     طبيعة الفيلسوف: التربية التي تلقاها، والوسط الاجتماعي والفكري الذي عاش فيه، والظروف السياسية التي أحاطت به وبمستوى التقدم العلمي في عصره[11] ، و أضيف إليها تأثير ما سبقه من فلسفات على عقليته تأييدا أو معارضة، ويضيف الدكتور ياسر[12]اختلاف النظم الاقتصادية والاجتماعية والدينية التي يتعامل معها الفيلسوف، وتسهم في تكوين فلسفته، واختلاف المدرسة التي ينتمي إليها – وهو ما  أشرت إليه من تأثير الفلسفات السابقة عليه تأييدا ومعارضة –

     أما ما يتعلق بطبيعة الفلسفة[13]:

-         فإن مفهوم الفلسفة ذاته يعد موضوعا فلسفيا، ومن هنا لا نعجب إذا ذهبت وجهات النظر في شأنه مذاهب شتى، شأنه في ذلك شأن أي موضوع فلسفي آخر، ومن هنا فإن التعريف الذي يقدمه المذهب التجريبي للفلسفة يرفضه المذهب المثالي، والتعريف الذي يقول به الفيلسوف الهيجلي يرفضه الفيلسوف البرجماتي، فإذن ليس صحيحا ما يدعيه خصوم الفلسفة من أن الفلسفة تعجز عن صياغة تعريف لها مرده إلى أنها لا موضوع لها لتبحث فيه، بل هو اختلاف الموضوعات واختلاف – تبعا لذلك – وجهات النظر حيالها، بل على العكس يدلنا اختلاف الفلاسفة حول وضع تعريف محدد للفلسفة على تعدد ينابيع الفلسفة في صميم الخبرة البشرية، فالفلاسفة مجمعون على ضرورة السعي نحو المعقول ولزوم الكشف عن معاني الأشياء، وأهمية البحث عن قيمة الحياة الإنسانية، ولكنهم مختلفون حول مصادر هذا البحث ووسائله وطبيعة تلك الرحلة الفلسفية التي يقوم بها الإنسان في مطاردته للحقيقة.

-         اختلاف لفظ الفلسفة باختلاف العصور التاريخية، فالتعريف الذي كان سائدا على سبيل المثال في العصور اليونانية أو العصر الوسيط تغير في العصور الحديثة.

فائدة الفلسفة:

    عندما يقول الدكتور سعيد إسماعيل علي ملخصا الفلسفة من وجهة نظره الخاصة: بأنها الخريطة الفكرية العامة لمجتمع من المجتمعات، أو لجماعة من الجماعات، أو لشخص من الأشخاص.[14] يكون بذلك قد بسط الأهمية التي يجب أن توضع فيها الفلسفة للقارئ العادي والشخص البسيط.

    ولكنني قبل الشروع في تبيان فائدة الفلسفة وأهميتها، أجد نفسي مضطرة لتوضيح العلاقة بين العلم والفلسفة والفرق بينهما:

وضع الإمام الصادق عليه السلام مجموعة من الفروق بين العلم والفلسفة[15]، سأجملها كالتالي:

-         العلم يوصل الإنسان إلى نتيجة واقعية حتى ولو كانت صغيرة ومحدودة، ولكنها نتيجة حقيقية فعلا، أما الفلسفة فلا توصله إلى نتيجة ما.

-         العلم يكشف الحقيقة، ولكنه إن عجز عن كشف الحقائق الكبرى فلا يعجزه أن يدرك الحقائق الصغيرة والمحدودة، ومع ذلك يحدث أحيانا أن يعجز العلم عن إدراك كنه الحقيقة بسبب وجود تلك الحقيقة وجودا ماديا، مثل العين التي ترى كل شيء وتعجز عن رؤية نفسها.

-         أما الفلسفة فإنها وإن لم تصل إلى حقيقة قاطعة فهي تتطلع إلى معرفة الحقيقة المطلقة، ومن ثم معرفة سبب خلق العالم والبشر، وكنه الخالق، ومصير الإنسان، ونهاية العالم.

-         العلم عاجز إلى يومنا الحاضر عن معرفة الحقيقة المطلقة وتبين نهاية المطاف، وهو لا يعرف من أين تجيء الحقيقة ولا إلى أين تذهب. صحيح أن العلم ميزان دقيق يزن كل شيء، ولكن حيلته بعد كل الجد والبحث تقف عاجزة أمام الحقيقة المطلقة، أما الفلسفة فقادرة على الرد على هذه التساؤلات وتوضيح العلل والأهداف، والبحث في خاتمة المطاف، على الرغم من أن الفلسفة لم تصل إلى حقيقة واحدة في كل تاريخها الطويل.

وبعد هذا العرض لمضمون رأي الإمام الصادق يبدو أنه من حقنا التعليق عليه بالقبول أو الرفض، أولا فيما يتعلق بالنقطة الأولى، صحيح أن العلم يوصل الإنسان إلى نتيجة واقعية، ولكنها نتيجة لابد من النظر إليها من جانب النتيجة الحاصلة من العلم، وليس في مدخلاته وقوانينه، فمنتجات العلم وتقدمه هي التي تمس واقع الناس وتخدم حياتهم الواقعية، ولكن قوانينه ومعادلاته الرياضية بعيدة عنهم وعن فهمهم، فهي  مجردة تسبح في عالم الأرقام والرموز التي لا يفهمها إلا المختص في العلم ذاته.

     أما ما يتعلق بالنقطة الثانية المتمثلة في قدرة العلم على كشف الحقائق وإن كانت صغيرة، فهذا رأي ينبع من كون الفلسفة تنظر للحقائق نظرة عامة واسعة لا تقبل التجزئة، وهذا رأي لا نختلف عليه، ولكن أليس العلم في استمراره ودوام بحثه سيواجهه مصير اكتمال الحقائق وتوسعها في إطار العلم الواحد؟ والفلسفة عندما تبحث عن الحقيقة الكبيرة أو الحقيقة المطلقة سبيلها في ذلك التساؤلات التي تبدأ صغيرة فتقود إلى أسئلة أخرى أكبر، فالأسئلة الفلسفية تقود إلى أسئلة فلسفية أخرى، ولكن الفرق هنا يكمن – ليس كما في الرأي الوارد بأن العلم يهتم بالحقيقة وإن كانت صغيرة بينما الفلسفة تهتم بالحقائق الكبرى مع صحة بعض هذا القول – في أن الفلسفة لا تجعل من تساؤلاتها هدفا متى ما وصلت إلى الإجابة عنها أصبحت معرفة بحد ذاتها، بل هي نتيجة تمثل جسرا للعبور إلى غيرها من المعارف عبر أسئلة أخرى تهدف للوصول إلى الحقيقة الكبرى، أما في العلم فإنه ينظر إلى الحقيقة الصغيرة هدفا في ذاتها، وما يعقبها هدفا آخر، فكل خطوة في العلم تعد إنجازا لابد من الوقوف عنده.

     وبناء على ما سبق نجد أن النقطة الثالثة من رأي الإمام تؤكد ما ذهبت إليه من أن الفلسفة وإن لم تصل إلى حقيقة قاطعة فهي تتطلع إلى معرفة الحقيقة المطلقة.

     ولعل أهمية الفلسفة وفائدتها تظهر جليا في النقطة الرابعة، وأكاد أجزم بأن جزءا من الإجابة عن سؤال ما فائدة الفلسفة قد بدأ يتضح، ولكن هل حقا أن الفلسفة طوال تاريخها الطويل لم تصل إلى حقيقة واحدة؟

     القطع بصحة هذا القول فيه كثير من التعسف والتسرع، ونستطيع أن نوفر على القارئ الكريم كثرة الكلام لتبيان ما يناقض هذا القول من خلال التأكيد على أن العلوم ما كانت لتظهر مستقلة كما هي الآن بما فيها من حقائق ثابتة لولا الفلسفة التي قادت إلى معرفتها، لتخرج تلك الحقائق من عباءتها إلى مظلة العلم، كما سيأتي.

     ونجد أن فيليب فرانك[16] يركز على عدم ضرورة معقولية العلوم في تفريقه بين العلم والفلسفة، فيقول: إن وضع مبادئ نستطيع أن نستنبط منها تطبيقات وحقائق مشهودة هو ما نسميه اليوم علما، والعلم لا يهتم كثيرا بما إذا كانت هذه المبادئ معقولة أم لا، فهذا أمر لا يعني العالم إطلاقا. وفي كثير من الكتب الدراسية نجد ما ينص على أنه ليس من المهم إطلاقا أن تكون هذه المبادئ معقولة.

     وفي تفسير هذا القول إعادة لما أوردته من قبل في الرد على رأي الإمام الصادق فيما يخص نقطته الأولى، ولكني سأفسره من خلال توضيح ضرورة المعقولية في الفلسفة:

     عندما كانت قوانين العلم ومعادلاته الرياضية وأرقامه وموزه بعيدة عن واقع الناس وبعيدة عن المعقول في مادتها ومدخلاتها، نجد أن الفلسفة تلامس حياة الناس وواقعهم فمادتها من مشاهداتهم، وتساؤلاتها مما يهتمون بمعرفته، ونضرب مثالا على ذلك في الهندسة مثلا، فالمهندس بعدما يحدد له المكان فإنه لا يهتم إلا بالرسم الهندسي وخطوطه وأرقامه ومساحاته وغيرها من الأمور التي لا يفهما إلا المهندس ولا يهتم من المكان إلا بوظيفته فيه كمهندس يقوم على أعمال البناء، أما الفيلسوف فإنه يسأل عن معنى المكان؟ ولماذا هذا المكان دون غيره؟ وفي الإجابة عن السؤال الأول بعد وجداني وجغرافي ونفسي، وهذا ما لا يهتم به العالم، فالمكان وطن وبيئة وغيرها من المعاني، وفي الإجابة عن السؤال الثاني، تبصرة بالبدائل المتاحة وإعانةٌ على توخي الوقوع في المخاطر، وغيرها من الأمور التي من شأنها خدمة صاحب العقار، وفي هذا تتضح فائدة أخرى للفلسفة.

     ويرى كورنو[17]أن ثم تمييزا دقيقا بين الفلسفة والعلوم، على أساس أن العلوم تقدمية، وتحتمل حلولا يقينية يقر بصدقها إقرارا كليا، وأنها تنحو باتساع ميدانها، أما الفلسفة فعلى العكس من ذلك، تحصر نفسها في دائرة من المشاكل تظل هي دائما، رغم تغير أشكالها وصورها، وصفتها المشتركة أنها لا تقبل الخضوع لرقابة التجربة، ودور الفلسفة أن تثير هذه المشاكل باستمرار، وأن تجعلها دائما موضوعا للبحث والنقاش، وتقدمها يقوم على تعميق مفهوماتها، والفلسفة لا تحتمل غير آراء محتملة وفردية، ومع ذلك فهي تفيد في تقدم العلوم الوضعية، وذلك بدفعها العلوم إلى التفكير في مبادئها، وبما تقوم به من تركيبات عقلية لنتائج هذه العلوم.

     فيقصر كورنو إذن أهمية الفلسفة في إعادة موضعة العلوم الوضعية وفي إعادة تفكيرها في مبادئها، ولكنه يحصر مفهوم الفلسفة في مباحثها الأربعة، مبعدا إياها عن أن تكون طريقة للتفكير، من خلال تأكيده على قدم موضوعاتها، وإصرارها على طرحها باستمرار وعلى اختلاف الزمان مع الاختلاف في الكيفية والوسيلة، وهذا بعد عن طبيعة الفلسفة من حيث هي أداة.

     ويرى مور[18] أن هذه الاستمرارية التاريخية لهذه المشكلات الفلسفية والتراكم الفلسفي عند فلاسفة الغرب جعل الفلسفة تبدو في حالة تتناقض مع العلم من حيث إن الأخير، كما هو ملاحظ أسرع في التوصل إلى حل مشكلاته التي تواجهه بينما لا يزال الفلاسفة مشغولين بما أثاره "أفلاطون" من قضايا ميتافيزيقية، ويتساءل مور عن سبب ذلك، فيشير هو ومن شابهه من الفلاسفة التحليليين إلى أن هذا السؤال قد برز خلال الثلث الأول من القرن العشرين معبرا عن اقتناع متزايد مفاده: ربما أن المشروع الفكري الغربي يعاني خطأ في الفهم، أو يشوبه سوء تصوير، وكان يقال في سياق الموازنة }المقارنة{ بين الفلاسفة والعلماء أن الآخرين يحلون المشكلات العلمية التي تواجههم لأنها مشكلات حقيقية، وأن لديهم المناهج والأساليب الفعالة التي تساعدهم على إنجاز ذلك، بينما نجد الفلاسفة لا تزال الميتافيزيقية تقض مضاجعهم، ويقفون أمامها حائرين، وكان الحل عند الفلاسفة التحليليين هو إتباع العلم التجريبي في مواجهة تلك القضايا والمشكلات الميتافيزيقية التي يرون أنها ليست قضايا أو مشكلات على الإطلاق، وإنما هي مشكلات زائفة، تولدت نتيجة سوء استعمال اللغة، وحذف ما شابها من لغو.

     فعندما نقرأ مثل هذا الرأي من فيلسوف كمور، فإننا نجده رأيا متوائما جدا مع شخصية صاحبه وتوجهه الفكري الفلسفي، فهو أولا من مدرسة الفلسفة التحليلية التي سببت ثورة فلسفية في القرن العشرين؛ بسبب جمعهم بين الفلسفة كطريقة تفكير قوامها العقل المجرد والعلم التجريبي، فأخضعوا أفكارهم للتجربة، فما استقام معها أثبتوه وما خالفها أبعدوه، رادين بذلك حقيقة المشكلات الفلسفية من عهد أفلاطون إلى اللغة واستخداماتها، فلم تعد الفلسفة إذن عند مور مجرد طريقة للتفكير أو خارطة فكرية، بل تعدتها إلى ما يقربها من العلوم في وسائلها، وما جاءت هذه الفلسفة إلا لتثور على الفلسفة الأفلاطونية في جانبها الميتافيزيقي، ومن حق القارئ ألا يعتد به، كما هو الحال مع غيره من الآراء.

     ومن حيث الارتباط بين الفلسفة وأصحابها يؤكد الدكتور سعيد إسماعيل علي[19] على أن القوانين العلمية تنفصل عن أصحابها لكي تندرج في سجل الحقائق غير الشخصية، وأن النظرية العلمية ملك للجميع لا لصاحبها وحده، بحيث نتحدث عن " مبدأ إقليدس" أو "قاعدة أرشميدس" فإننا هنا إنما نتحدث عن أسماء لا عن شخصيات، وأما في مجال الفلسفة، فإن من المؤكد أننا لن نستطيع أن نفصل فلسفة الغزالي عن شخصية صاحبها، لأن هذه الفلسفة لا تصدق على وجه التحديد إلا بالنسبة إلى الغزالي أو لا وبالذات، وتبعا لذلك فإننا قد نستطيع أن نتصور رياضة أو طبيعة بلا أسماء، ولكننا لن نستطيع أن نتصور فلسفة بدون أسماء.

     وهذه حقيقة طبيعية وحتمية وليس انتقاصا من حق الفلسفة بل على العكس، لأنها تعطينا كشفا عن خارطة فيلسوف ما الفكرية إذا كنا نتفق مع سعيد إسماعيل علي في أن الفلسفة هي الخارطة الفكرية لشخص ما على أضيق الحدود، وإذا كنا نستبعد أن تتشابه الخرائط الفكرية فضلا عن أنها تتطابق بين عقلية وأخرى، تماما كما تختلف البصمات من شخص لآخر، فمن الطبيعي أن ترتبط كل خارطة بصاحبها، ولكن هذا الاختلاف لا يمنع وجود توجهات فكرية مختلفة وهو ما سيطالعنا فيما بعد من خلال المدارس الفكرية.

ما فائدة الفلسفة؟

     أما الفلسفة من حيث أهميتها المحضة البعيدة عن كل المقارنات، فإن البعض من الفلاسفة يستنكر هذا السؤال: ما فائدة الفلسفة؟ على أساس أن الفلسفة في حد ذاتها فوق النفع، بمعنى أنها في ذاتها تكمن المتعة العقلية والسعادة الأخلاقية، بل ويستند إلى هذا في إيضاح قيمتها، ولهذا السبب بالذات كانت حاجة الناس إليها شديدة، فهي تذكرهم بالفائدة الكبرى للأشياء التي تتناول الغايات دون الوسائل، فالإنسان لا يحيا بالخبز والفيتامينات والاكتشافات التكنولوجية فقط، بل بالقيم والحقائق التي هي فوق الزمن، والتي تستحق أن تعرف لذاتها فقط، فهو يتغذى بالغذاء غير المرئي الذي يحفظ الروح، والذي ينبهه لا إلى وسائل مختلفة تفيد حياته، بل إلى أسباب نفسها بآلامها وآمالها[20].

     وينطلق هذا التبسيط في عرض فائدة الفلسفة من أساس مراعاة الجانب الروحي وعدم إهماله لحساب الجانب المادي، فالفلسفة هي التي تغذي هذا الجانب الذي غالبا من يغفله العلم، أو قلما يعنى به، فالفلسفة بذلك لها فضل في حفظ التوازن الإنساني في زمن التقدم التكنولوجي المادي، فلغة الأرقام وحدها لم تعد كافية، ومازالت الأيام تكشف عن الحاجة الماسة للجانب الروحي الذي تكفله الفلسفة، ولعل في مثال المهندس والفيلسوف السابق الذكر خير دليل على أهمية الفلسفة في ملامستها لواقع الناس واهتماماتهم.

     والفيلسوف في المجتمع دليل على رفعة الفكر وسمو مرتبته، فهو يشير إلى كل ما هو خالد في الإنسان، ويثير تعطشنا إلى المعرفة المحضة، المعرفة التي لا تهدف إلى مصلحة، أي معرفة هذه الأمور الأساسية – عن طبيعة الأشياء، وطبيعة العقل والإنسان والله – هي أعظم وأكثر استقلالا عن أي شيء نستطيع أن ننتجه أو نخلقه.[21]فإذا ما سلمنا بأن الفيلسوف هو الحكيم الذي أُعطي مواهب عقلية لا تتأتى لجميع البشر، فمما لاشك فيه بأنه يمثل قمة الهرم العقلي في مجتمع ما، وهو عنوان فكر المجتمع الذي ينتمي إليه، فالأمة الإسلامية على سبيل المثال تنسب لعصور الفارابي وابن رشد وابن خلدون وابن سينا عزها الماضي ومجدها الذاهب، فكان وجود هؤلاء شاهدا على رقي الفكر وسمو مرتبته.

     والفلسفة ترمي أولا إلى المعرفة شأنها في ذلك شأن سائر الدراسات، والمعرفة التي تصبو إليها إنما هي ذلك النوع من المعرفة يكسب مجموعة العلوم وحدة، ويضفي عليها نظاما، ذلك النوع الذي يتأتى من التمحيص الدقيق والنقد النافذ للأسس التي تقوم عليها آراؤنا وأحكامنا ومعتقداتنا[22]

     فإذا كانت إذن الرغبة العارمة للمعرفة موجودة في الفلسفة وهي أساسها مع تغير الزمان والمكان، فكيف نستطيع بعدها أن ندعي موت الفلسفة، أو عدم جدواها؟ أليست الفلسفة رافدا مهما للعلم وستظل كذلك ما بقيت هناك عقول تفكر، وتخط طريقها بين كل ما يغمض من أمور الحياة بمعناها الواسع وفي جوانبها الميتافيزيقية والفيزيقية على حد سواء؟

    يقول ديكارت: "إن الفلسفة وحدها هي التي تميزنا عن الأقوام المتوحشين والهمجيين، وإنما تقاس حضارة الأمة وثقافتها بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها، ولذلك فإن أجل نعمة ينعم بها الله على بلد من البلاد هي أن يمنحه فلاسفة حقيقيين"[23] فهو إذ يركز على الفلسفة الصحيحة والفلاسفة الحقيقيين، يؤمن بأن الفلسفة ما هوجمت إلا بوجود أشباه الفلاسفة وأنصافهم، فديكارت هذا هو نفسه الذي اتهم بالإلحاد، فما كان منه إلا أن قال: "إن قليلا من الفلسفة يؤدي إلى الإلحاد، وكثيرا منها يؤدي إلى التوحيد" وهو بذلك يرد على من يقول بأن الفلسفة ما هي إلا وجهات نظر حول الأمور المختلفة، وهذه قضية سيرد علاجها. ويضيف: "إن المرء الذي يحيا دون تفلسف لهو حقا كمن يظل مغمضا عينيه لا يحاول أن يفتحهما، ولا يمكن أن يقارن التلذذ برؤية كل ما يستكشفه البصر بالرضا الذي ينال من معرفة الأشياء التي تنكشف لنا بالفلسفة"[24] فالفلسفة لديه مطلب لابد أن يحرص عليه كل ذي عقل، فهي وظيفة العقل التي خلق لأجلها، فالفلسفة عند ديكارت تساوي العقل الفعال الذي لا يقنع بالقليل ولا يقبل الأمور على عواهنها، فيؤكد: " إنه من الطبيعي أن تكون الحكمة هي القوت الصحيح للعقول، فإن الذهن هو أهم جزء فينا، وطلب الحكمة لابد بالضرورة من أن يكون همنا الأكبر".[25]

     والفلسفة تكسبنا سعة الأفق، فإذا كنا قد قلنا بأن الفلسفة تختلف من عصر لآخر ومن زمن لآخر ومن مدرسة لأخرى، وهناك اختلافات في خضم المدرسة الواحدة، وكل فلسفة لابد وأن تطلع على غيرها من الفلسفات تأييدا أو معارضة، ولكنها في النهاية لا تطمس فلسفة لاحقة فلسفة سابقة، فقد عارض أرسطو أستاذه أفلاطون ولكنه لم يقض على فلسفته، بل أصبحت هناك فلسفة أرسطية بجانب أخرى أفلاطونية، وفي ظل هذا التعدد، والاختلاف في الرؤى، وفي التوجهات، يظهر أمامنا مساحات واسعة من التفكير، وأبواب كثيرة للعقل، نقول في ظل هذا كله يتسع الأفق أمام العقل المفكر، فيصبح أكثر تقبلا للرأي والرأي الآخر، بعيدا عن التعصب للرأي والفكرة والتوجه؛ لأن سلاحه في ذلك العقل، وبما أنه يؤمن باختلاف العقل، قلا يضيره من أن يختلف فيلسوف معه أو يعارضه، وحسبه من ذلك أن يستخدم بني جنسه عقولهم، وهي بلا شك  ستثمر شيئا ذا فائدة إذا ما وجهه وجهته الصحيحة.

     ويؤكد إخوان الصفا على أن النتيجة المرجوة من الفلسفة هي أن تشكل شخصية الإنسان بحيث يكون على التشبيه بالله عز وجل[26]. فهي إذن إعمال للعقل للوصول إلى الكمال الإنساني .

     وقبل أن أغلق باب أهمية الفلسفة لابد من تلخيص فائدتها كما جاء على لسان سعيد إسماعيل علي[27]:

     إذا كانت الفلسفة تمثل الخريطة الفكرية العامة أو الرؤية الفكرية العامة، فهي إذن تمثل الخطوة الأولى لأي مجتمع من المجتمعات في مسيرته الحياتية.

مباحث الفلسفة:

     هناك جهود كثيرة بذلت لتصنيف العلوم الفلسفية، واختلفت تلك التصنيفات بين النظري والعملي، والمعرفي والعقلي، ومن بين كل تلك التقسيمات، يبدو أن أشهرها تقسيم "إمام" الذي يقسم مجالات الأصول الفلسفية أو مباحثها إلى:

-         الكوسمولوجيا: وهو علم الكونيات، ويعد هذا المبحث سابقا على غيره من المباحث  زمنيا، ولا غرابة في ذلك ما دام الإنسان متأملا في الوجود قبل أن يكون أي شيء آخر، ولتفسير هذه الأهمية للطبيعة التأملية عند البشر، وأهمية الوجود وتأمله في التوصل للحقيقة، سأورد ما كتبه الدكتور سعيد إسماعيل علي في هذا الصدد[28]: فحين بدأت الفلسفة تخطو خطواتها الأولى في التاريخ القديم – وعلى وجه التحديد في القرن السادس قبل الميلاد – فإنها بدأت بموضوعات كوسمولوجية، ففي ملطية، من بلاد اليونان، كان أول ما استرعى نظر قدامى مفكري الإغريق، واستدعى إعمال الفكر، هذا التغير الدائب الذي بدأ يطرأ على الأشياء جميعها، فها هو ذا كل شيء – كائنة ما كانت مرتبته في الحياة – يكون بعد أم لم يكن، ويظل حينا يقصر أو يطول، ثم ينحل ويتلاشى كأن لم يكن بالأمس، فمن أين جاء، وإلى أين سيذهب؟ إنه لم يخلق من العدم، ولم ينحصر إلى العدم، بل تكون من مادة موجودة فعلا، ثم استحال إلى مادة لا تزال موجودة كذلك، فمهما يكن من أمر هذه الأشياء التي لا تراها في الأرض أو في السماء، ومهما يكن من ألوانها المختلفة وأشكالها المتباينة، فهي جميعا أجزاء من مادة بعينها، يطرأ عليها التغير والتحول، فماذا عسى أن تكون تلك المادة.

فإذن جميع هذه التساؤلات وغيرها كانت أول ما اشتغل به فكر الإنسان الأول، فكان هذا المبحث من أوائل المباحث التي اشتغلت بها الفلسفة، ويستبق الدكتور سعيد إسماعيل قارئ كتابه[29] ويتساءل: وما للفلسفة بنشأة الكون وتطوره؟ أليست هذه الموضوعات مما يتصدى العلم لدراستها بما له من إمكانيات وما لدى علمائه من مناهج بحث وأدوات؟ فيجيب عن هذا التساؤل بشقين: الشق الأول: هو أن الفلسفة في العصور السابقة، كانت تعنى بالمعرفة العلمية بكل فروعها، ومن هنا كان الفلاسفة هم الذين يتصدون لدراسة هذه الموضوعات، أما في الحاضر }الشق الثاني{: فإن التصور المذهل الذي أحدثه العلماء في دراسة هذه الموضوعات إذا كان قد وصل إلى العديد من الإجابات المتصلة بجوانب متعددة من الكون بمنهجية علمية تختلف عما توصل إليه الفلاسفة القدامى نتيجة تأملات وتحليلات فلسفية، إلا أنه من ناحية أخرى قد أثار علامات استفهام متعددة في نظرتنا للكون وفي آرائنا عن معنى الحياة البشرية وهي بطبيعة الحال مسائل فلسفية.

     نجد من خلال إجابة الدكتور سعيد إسماعيل علي عن هذا السؤال – وهو سؤال يلقي بالكثير من الضوء على أهمية الفلسفة قديما وحديثا – أنه يكرس معنى الوظيفة الحقيقية للفلسفة، وهي السعي للمعرفة، وهي وظيفة كانت ومازالت تعنى بها الفلسفة، وفي الشق الثاني من الإجابة يدحض تلك الأقوال التي تنعى الفلسفة وتشيع موتها أو عدم جدواها في عصر العلوم الطبيعية والتطبيقية، التي ما كانت لتكن لولا فضل الفلسفة، ولكنها مع ذلك نجدها قاصرة عن معرفة الحقائق الأخرى، التي لا سبيل للتوصل إليها إلا بالفلسفة.

ومن الموضوعات التي تدخل تحت مبحث الكوسمولوجيا[30]:

-         الكون، والزمان والإنسان.

-         أصل الحياة، وهناك ثلاث نظريات:

1.     نظرية الخلق الخالص، وهي النظرية الدينية التي ترى أن الله خلق الحياة خلقا مباشرا.

2.     نظرية الانتقال التي تقول إن الحياة انتقلت إلينا من كوكب آخر غير الأرض.

3.     البداية التلقائية التي تقول إن الوسائل الطبيعية نفسها هي التي تجمعت مصادفة وأوجدت الحياة.

وبتمعن بسيط في هذه النظريات الثلاث نجد أن كلا منها متمثلة في فكرٍ ما في الحياة المعاصرة، فالنظرية الأولى أساس الفكر الإسلامي، والدين الإسلامي الذي يؤمن بالله ربا للكون وخالقا له، والنظرية الثانية نجدها موجودة في الفكر المسيحي وفق ما يسمى بوحدة الوجود وتناسخ الأرواح، في سبيل التوحد بالذات العليا، والنظرية الثالثة تظهر في المجتمعات العلمانية التي تلغي الغائية من الوجود، وأن الكون كما كان تلقائيا في نشأته هو أيضا تلقائي في غايته.

-         فلسفات التطور، وهنا نجد لدينا نظرية لامارك ونظرية داروين في تفسير مجرى الحياة، وسنجد كيف أن هذه النظرية لها تطبيقات في مجال التربية.

-         الغائية: فهل هناك غاية أو هدف للكون كما يقول أصحاب مذهب "الغائية" أم أن الكون يسير بلا هدف، ولا غاية كما يقول الطبيعيون؟ وستأتي أصداء هذه القضية من خلال أهمية الأهداف التربوية.

فالمتأمل في حياة الإنسان وسلوكه، فليس هناك فعل ليست له غاية يسعى لتحقيقها، حتى أولئك الذين ينكرون الغاية من الوجود على أساس أن الظروف هي التي تسعى بالإنسان والموجودات الأخرى إلى حيث تشاء، هم أيضا يقعون في فخ أقوالهم، فهذا النظام البديع الذي تسير عليه الأمور مما يدلنا على وجود خالق لكل شيء ومبدع له، وهذا الإبداع لا يكون عبثا إطلاقا، يقول الحق سبحانه: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، فكل شيء في الكون مسخر لخدمة الإنسان ليعمر هذه الأرض. ومن ثم تنظر بعض الفلسفات – من هذا المنطلق – للإنسان نظرة المسئولية، فهو مسئول عن أعماله، ومن خلال ما تقدم نستنتج الآتي:

    أن التربية قد استفادت من نظريات الكون التي وضعها الفلاسفة على اختلافهم، وانعكست عليها بشكل واضح ومن هذه الأصداء: مبدأ الغائية الذي تسعى إليه التربية، فما من عملية تربوية تسير بلا أهداف، ومبدأ المسئولية المناطة بها على الإنسان، فتنظر النظم التربوية إلى هذه القيمة باعتبارها من الأسس التي تقوم عليها العمليات التربوية، وفلسفة التطور الدارونية التي كان لها أبعد الأثر في طبيعة الأهداف التربوية، ومن آثارها على سبيل المثال:

1.     الهدف ليس شعارا، ولكنه خطة عمل، وليس صياغة لغوية، ولكنه ممارسة، وإلا فكيف يتطور ما بقي أسطرا على الورق ولم يدخل حيز الممارسة والتطبيق.

2.     خطة العمل موجهة صوب إنجاز محدد، وهذا أثر يتبع مبدأ الغائية أكثر من أن يكون نتاجا للفلسفة الدارونية.

3.     مما يستلزم للأهداف أن تكون مرنة؛ لأن الممارسة قد تبين أن النشاط الذي يمارسه التلميذ لا يحقق الهدف الذي رسمه، فلذلك يغيره إلى عمل آخر، أكثر دقة وفاعلية.

4.     وإن هذا الهدف الجديد ينبع من العمل نفسه، ولا يفرض عليه من خارجه، بحيث يستفيد المتعلم من خبراته الخاصة بجانب خبرات غيره في ضوء إمكانيات وسطه.

  الانطولوجيا أو مبحث الوجود: يشير الدكتور سعيد إسماعيل علي في الأصول الفلسفية للتربية[31]، إلى أن هناك فرقا بين المبحث الأول وهذا المبحث إذ أن كثيرا ما يخلط الدارسين بين هذين المبحثين، ويدخلونهما تحت باب واحد كبير وهو الميتافيزيقيا، والحقيقة أنه لابد من التمييز بينهما على أساس أن الكون هو الظواهر الحسية التي نراها ونحسها في العالم من حولنا، لكن الوجود، هو الخاصية الكامنة خلف هذه الظواهر، وأرسطو هو أول من نبه إلى هذه التفرقة عندما قال عن الفلسفة الأولى }الميتافيزيقيا{بأنها البحث في الوجود بما هو موجود، ويعني بذلك أن طريقنا لمعرفة الوجود من خلال الموجود }الظواهر الحسية{، وهذه الصفة هي الوجود، والعلم الذي يدرس هذه الصفة هو العلم الذي يسقط من حسابه التفصيلات والاختلافات والفروق الجزئية التي يمكن أن تكون موضوعات لعلوم أخرى. ولكن عندما تعتبر فكرة الوجود هذه هي الفكرة الأولى التي نادى بها الفلاسفة، وهي المصدر الأول للمعرفة[32]، فهذا كلام يحتاج إلى إعادة تفكير، فبالعودة إلى الفطرة الأولى بعيدا عن كل معرفة سابقة، ما أكثر ما يشغل عقل الإنسان البدائي الذي بدأ لتوه يتأمل في الوجود حوله؟ دون شك أنه سيبدأ في السؤال عمن يقف خلف هذه الظواهر، وسبب وجودها، وسبب وجوده هو أيضا على وجه الخصوص، وعن الغاية منه ومصيره، وهذه كلها أسئلة فلسفية تابعة للمبحث الأول إذا سلمنا بأن هذا المبحث يختلف عن المبحث الثاني الذي نحن بصدده الآن، فلا يهتم الإنسان أول ما يهتم ما إذا كان ما حولي من ظواهر موجودة فعلا أم أنها غير موجودة، وهل هي من تصوير ذهني، أم أنها صور حقيقية؟ فمهما يكن من رأي الدكتور سعيد إسماعيل علي وغيره من الدارسين والفلاسفة، فأنا لي رأي يخالفه في قضية كون هذه الفكرة هي الأولى، وحسبي في ذلك أن تخيل العودة إلى الجذور الفطرية الأولى يشفع لي ما أقول، وهو رأي غير ملزم لأحد.

     عود على بدء، هناك مشكلتان تبحث فيهما الفلسفة من مشكلات الوجود، وكان لهما تأثيرهما الواضح على الفكر التربوي:

1.     مشكلة الوحدة والكثرة: فهل الكثرة التي نشاهدها في الوجود أصيلة بحيث لا نستطيع أن نردها إلى نوع من الوحدة؟ أم أنها ليست إلا كثرة سطحية ظاهرية تحمل في طياتها المتعددة معنى أو مبدأ ما للوحدة؟ وإذا كان رد الكثرة أو التعدد إلى الوحدة ممكنا، فأي نوع من أنواع الوحدة سنختار؟ أهي روحية أم مادية؟ أهي وحدة تتفق مع ما يمليه هذا الدين أو ذاك؟ أم أنه لا صلة بالصورة التي تعطيها لنا الأديان عن المبدأ الواحد أو الله؟ وهل الوحدة التي سنختارها تكون وحدة عقلية تتمثل في العقل الإنساني باعتباره سلاحا بشريا خالصا يمسك الإنسان بزمامه دون حاجة إلى عون خارجي، ويستطيع أن يوجد به العالم المتكثر؟ أم أن الوحدة التي سنختارها ستكون وحدة مادية تنبع من التطور الذاتي للكون ومن انبثاق الموجودات بعضها عن البعض الآخر واتصالها المتعاقب في حلقة التطور؟ هذه مجموعة التساؤلات التي يسوقها الدكتور سعيد إسماعيل[33] علي ليوضح لنا حقيقة المشكلة النابعة من مبحث الوجود، وتقصي الإجابة عنها في كل فكر على حدة من المتعذر في هذه العجالة، ولكن سأتناولها من الناحيتين الإسلامية ورؤية المسيحية لهذه القضية، ففي الأساس الذي تقوم عليه التربية الإسلامية  نجد أن قيام هذه التربية على الإيمان بالله الواحد القادر يستلزم بالضرورة العقلية وحدة خلقه، قال تعال: "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا"، فلو كان هناك أكثر من حقيقة مطلقة واحدة لما بقيت هناك أية حقيقة مطلقة، وأن الكون حينها سيشهد تنظيمات عدة، ولن يكون النظام هو نفسه الذي نعرفه في اتساقه وانسجامه، ولن تكون هناك علاقات الترابط والسببية التي تكفل استمرار هذا النظام، هذا من ناحية التربية الإسلامية في ربطها للكون ونظامه بوحدة خلقه، أما ما يتعلق بالمسيحية، فإن نظرتها لهذه القضية تأتي من خلال التوحد الروحي لهذه الظواهر بعضها ببعض، فعقيدة وحدة الوجود وتناسخ الأرواح تعطينا مفهوما آخر لنظرية الوحدة، فالإنسان في المسيحية عندما يموت فلا بأس في أن تتوحد روحه بشجرة أو حجرة، فهذه المخلوقات والظواهر أخوة له في الروح، فربما حجرة في صحراء كانت طفلا ذات يوم، فهذه الوحدة على مستوى الموجودات، وليست على مستوى وحدة الخلق.

2.     الله: هل الوجود حادث أم قديم؟ وبعبارة أخرى: هل يعتمد الكون في وجوده على خالق أحدثه وأوجده؟ أم أنه موجود على هذه الصورة الني ألفناها منذ القدم أو الأزل دون أن يكون في حاجة إلى موجد أو خالق؟ ويُسمى الفلاسفة الذين يقولون بحدوث العالم بالفلاسفة المؤلهة، أي مؤمنون بوجود الله، أما الفلاسفة الذين ينكرون الخلق فهم الملحدون أو الزنادقة[34].

     فالحقيقة التي تعتمد عليها التربية الإسلامية هي أن الله هو الخالق لهذا الكون الموجد له، فالله هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، إليه يرجع كل شيء كما خلق كل شيء يعيده، وهذا الإيمان بالله الواحد يشكل قوة وسندا للإنسان تدفعه للعمل والبذل وعدم الاستسلام للشهوات، فللحياة عند الإنسان المسلم خالق وهدف وغاية يحيا لأجلها، تدفعه لإعمار الأرض، والعمل لرضا الله سبحانه وتعالى، وهذا الإيمان لا يكون باللسان فقط بل هو اعتقاد وعمل، به تصلح الحياة ويصلح الفرد والمجتمع.

     و حظي هذان القسمان {الكونيات – الوجود} بهجوم عنيف حيث صنفا معا، كما أشرت، تحت عنوان {الميتافيزيقيا}، وكان الهجوم الأعنف من قبل الفلاسفة التحليليين، ذلك أن الفلسفة عند الميتافيزيقيين طريقة في البحث بغير موضوع، فليست هناك غايتها أن تبحث "مسائل" لتصل فيها إلى "نتائج"، لأنه ليست هناك مسائل فلسفية، ولا ينبغي – كما يقول التحليليون – أن يطلب من الفلسفة أن تصل إلى نتائج عن حقائق الكون، وقد بالغ التحليليون في السخرية من دراسة هذين القسمين والبحث فيهما، نظرا لعدم وجود المادة المدروسة، إذ اعتمد التحليليون في فلسفتهم على إخضاع معارفهم للتجربة – كما ذكرت في موضع سابق – فما أثبتته التجربة اعتمد، وما لم تثبته أبعد، ويبدو أنه من حسن حظ المسلم أن المناقشات بخصوص هذه القضية لا تجد الإطار العقيدي في التربية الإسلامية، ذلك لأن الإنسان لا يملك الأدوات والقوى التي تمكنه من البحث في مثل هذه القضايا الوجودية، ومحاولته لن تقوده إلا للضلال، وفي ذلك يقول الشاعر:

العجز عن درك الإدراك إدراك       والبحث في كنــه الله إشراك

     ويبدو الآن أن هناك تشابها بين الموقف التحليلي والموقف العقيدي  في طرح المناقشة هنا جانبا، نعم الاتفاق في الترك، ولكن أساس الترك مختلف، فبينما يؤمن الموقف العقيدي بوجود الروح، تسليما واكتفاء بما يقوله القرآن الكريم عنها، نجد الموقف التحليلي ينكر وجودها كلية[35].

     ونخرج من هذا الحديث حول شقي الجانب الميتافيزيقي {الكونيات – الوجود} بالتأكيد على انعكاس هذا المبحث على المجال التربوي والتعليمي وعلى وجه الخصوص هذه الطبيعة المزدوجة للعالم الميتافيزيقي: الكونيات {الظواهر المحسوسة}، والوجود {الصفة الكامنة في هذه الموجودات}، من خلال وجود منهجين في كل عملية تربوية، هما: المنهج الرسمي الظاهر، والمنهج الخفي، وكلاهما لابد له من الآخر لتتكامل العملية التربوية، ولعل في هذا التطبيق التربوي لهذه الفلسفة أكبر دليل على ضرورة التفرقة بين المبحثين، وتكاملهما في آن واحد، كما أن النظرة إلى قضية الوجود وأصل هذا الوجود، والخلاف بين الفلاسفة حول وجود الخالق الذي خلق هذا الكون، وعدمه ينعكس كل ذلك على مواقف الإنسان إلى حد كبير، فحقيقة وجود الإله الخالق تحدد مواقف الإنسان إزاء الكم الأكبر من قضايا التربية والتعليم ويصبح البحث في الوجود والكونيات مسألة ضرورية مادامت تشكل الإطار العقائدي في الدين الإسلامي، ويصبح حينئذ القائمين على التربية مسئولين أمام الله عن مدى تطبيق هذا المبدأ في العملية التربوية وتعليمه للمتعلمين باعتباره الأساس الذي يقوم عليه هذا الدين الإسلامي.

     وإذا كنا قد قلنا بأن البحث في الوجود والكونيات مسألة ضرورية مادامت تشكل الإطار العقائدي، فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هو كيف يمكن البحث في هذا المجال والدين قد أمر بالكف عن الخوض في مثل هذه الأمور الغيبية اكتفاء بأخذها من النصوص المقدسة الثابتة لعدم توفر الإمكانات لدى البشر التي تؤهلهم للوصول إلى الحقيقة المطلقة للخالق؟

     يرد الدكتور سعيد إسماعيل علي[36] على هذا التساؤل من خلال تقسيمه الدين إلى مجموعة من الأصول إلى جانب مجموعة أخرى من الفروع، فالأصول يكون الجهد فيها مقتصرا على الشرح والتحليل، أما الفروع، فالإنسان مطلق اليد في التفكير فيها، وحتى بالنسبة للأصول فإن التفكير فيها واجب على فئة معينة من الناس بهدف الرد على غيرهم من الطوائف غير المسلمة سواء من أصحاب الديانات السماوية أو أولئك الذين ينكرون الألوهية.

     فالعلاقة إذن متينة بين الدين والتربية، ويظهر ذلك من خلال ضرورة استناد التربية إلى مبدأ عقائدي يفسر الأمور ويساعد على اتخاذ المواقف إزاءها، كما أن التربية وسيلة لترجمة مبادئ الدين؛ لأنها سلوك به تتضح معالم الدين الإسلامي الذي هو ليس مجرد صوم أو صيام وغيره بقدر ما ينتج عنهما وغيرهما من سلوك بشري يقوِّم الإنسان والحياة والمجتمع.

نظرية المعرفة {إبيستمولوجيا}:

      فكما كانت هناك تفرقة بين الكونيات والوجود في المبحث الميتافيزيقي من مباحث الفلسفة، يظهر هنا أمامنا أيضا فرق آخر في الجانب المعرفي بين ما يسمى الإبيستمولوجيا ونظرية المعرفة، وباختصار شديد، تدل الأولى على فلسفة العلوم، ولكن بمعنى أكثر تحديدا، فهي ليست دراسة المناهج العلمية، التي هي موضوع علم مناهج البحث، وليست تركيبا أو توقعا حدسيا للقوانين العلمية بل هي دراسة نقدية للمبادئ والفروض والنتائج بمختلف العلوم، فهي إذن تهتم بتشكيل النظريات في كل علم على حدة، أما نظرية المعرفة تهتم بجميع أنواع المعارف دون تخصيص، ومن ثم فإن الإبيستولوجيا تقود إلى تكوين نظرية المعرفة التي يفسرها البعض على أنها حالة من الاتحاد بين الذات والموضوع أثناء عملية المعرفة، وفي تفسير هذه القضية أمور أبعد ما تكون عن التصور الذهني[37].

     وتنقسم الموضوعات التي تدرس في نظرية المعرفة إلى ثلاثة أقسام:

1.     القسم الأول: مصادر المعرفة، يحاول فيه الإنسان أن يقف على الطرق المؤدية إلى المعرفة، وذلك بأن يسأل، مثلا: كيف يعرف الإنسان ما حوله من موضوعات؟ كيف أعرف الأشياء من حولي: هذا الكرسي، وهذا المكتب، وهذه السبورة... الخ، ففريق يجيب عن ذلك بأن الوسيلة الصحيحة لمعرفة الأشياء هي الحواس، وآخرون يقولون، بل العقل... وهكذا. ولكننا إذا كنا نبحث عن كيفية البحث، أبالعقل أم بالحواس، فهو إذن قسم وسائل المعرفة وليس مصادرها كما يقول الدكتور إسماعيل، فمصادرها هو ما يحيط بالإنسان من موجودات يقود تأملها إلى المعرفة الحقيقية، إلا إذا كان الدكتور إسماعيل ينطلق من أساس أن العقل منتج للمعرفة بقطع النظر عن تطابقها مع الواقع، ولا أحسبه يؤمن بمثل هذا القول.

2.     القسم الثاني: ويسمى طبيعة المعرفة، والبحث في هذا القسم يعني البحث في النسيج الذي تتألف منه المعرفة، فأيا كان مصدرها، فإن علينا بعد ذلك أن نتساءل: هل نسيج المعرفة أو الخيوط التي تتألف منها المعرفة ذات طبيعة ذهنية مثالية، أم أنها ذات طبيعة واقعية؟ ومعنى ذلك: هل ما يشاهده الإنسان ويعرفه في العالم الخارجي هو حقيقة ماثلة أمامه أم أنها صور ذهنية تتراءى له بأنها حقيقة؟ وعلى الرغم من الجدل الكبير المثار حول هذه القضايا، يبقى لكل فريق حجته في إثبات موقفه منها.

3.     القسم الثالث: ويسمى إمكان المعرفة، وهو محاولة الإجابة عن هذا السؤال: هل في استطاعة الإنسان أن يدرك جميع الأشياء؟ هل في استطاعته أن يصل إلى جميع الحقائق؟ وهل في استطاعته أن يطمئن إلى صدق إدراكه وصحة معلوماته: هل قدرة الإنسان على المعرفة محدودة بحدود معينة أم هي مطلقة؟

      ويبقى السؤال البدهي هو ما علاقة كل هذا بشخصية المعلم؟ من المعلوم أن الجانب المعرفي يشكل أبرز ما في العملية التربوية، واختلفت الفلسفات التربوية في مدى اهتمامها بهذا الجانب، فأفلاطون – كما هو الحال في المدرسة المثالية كما سيأتي – أولاه اهتماما بالغا باعتباره الدعامة الأساسية والوحيدة في العملية التربوية، وجاءت المدارس اللاحقة تصحح ما سارت عليه المدرسة المثالية، فراوحت بين الجانب المعرفي والجوانب الأخرى، أما ما يخص الفلسفة الإسلامية، فإنها تؤمن بأن هناك مصدرين للمعرفة هما القرآن الكريم وهذا الكون بمظاهره وظواهره، والإيمان بهذين المصدرين يقتضي التنوع في المنهج التربوي، والموائمة بين الجانب العقلي والجانب المادي، فهاتان قراءتان للمعرفة لا ينبغي أن تنفصل إحداهما عن الأخرى، فكل ما في الكون سخره الله للإنسان فعليه اكتشافه والتنقيب فيه ليحسن استغلاله، وتحصل بعد ذلك عمارة الأرض والاستخلاف الحقيقي، ولا يكون ذلك من خلال المعرفة العقلية النظرية فقط المترفعة عن عالم المادة، فلا تستقيم المادة بدون العقل والروح، ولا تحقق الروح والعقل للإنسان رغبته الجامحة إلى المعرفة، ولكننا نجد للأسف هذا الانفصال بين المعرفة الروحية والعلوم التطبيقية، فهناك فصل للعلوم الطبيعية عن العلوم الشرعية، ولن يعود لهذه الأمة مجدها السالف إلا بالجمع بينهما، وهذا الانفصال ليس فقط في العالم الإسلامي، بل هو في أوروبا وأمريكا أوضح وأبلغ.

القيم أو الأكسيولوجيا:

     يعرف معجم علم النفس القيم بأنها: "الأمور التي يعدها الفرد جيدة وذات أهمية ومظاهر الحياة التي ينسب إليها الإنسان وزنا معنويا.. وهي بهذا المعنى دلالة على الشخصية"[38].

     أما المعجم الفلسفي فيعرف القيمة من الوجهة الأخلاقية أنها: "ما يدل عليه لفظ الخير، بحيث تكون قيمة كل فعل تابعة لما يتضمنه من خيرية، فكلما كانت المطابقة بين الفعل والصورة الغائبة للخير أكمل، كانت قيمة الفعل أكبر وتسمى الصورة الغائبة المرتسمة على صفحات الذهن بالقيمة المثالية، وهي الأصل الذي تنبني عليه الأحكام الإنسانية التي تأمر بالفعل أو الترك.."[39]

    وهذا تعريف ينطبق مع توجهات الفلسفة المثالية في نظرتها للقيم، وهذا حديث سيأتي تفصيله.

    وتعد القيم من ضمن التقسيمات المعروفة في عالم التربية التي تقسم الإنسان – نظريا – إلى ثلاثة مستويات: مستوى المعرفة، ومستوى المهارات العملية، ومستوى الأخلاق والقيم، ويعد هذا الأخير على خلاف القسمين الأولين لا يمكن قياسه، وخطورته في أنه هو الموجه الأساسي لسلوك الإنسان، وبالنظر إلى الجهود الفلسفية طوال التاريخ نجد أن الفلاسفة قد أولوها اهتماما خاصا، باعتبار أنها المؤثرة في حركة الفكر التربوي وتشكل كثيرا من اتجاهاته.

     ودور الفلسفة في هذا الجانب هو الإجابة عن الأسئلة التي مؤداها: لماذا هذا السلوك جيد، وذاك سيء؟ فهذه الأسئلة لا تصعب الإجابة عنها في ضوء الدين أو الحلال والحرام، أو بناء على القوانين والأعراف، ولكن الصعوبة تكمن في لماذا يرى الدين أن هذا العمل جيد وذاك حرام؟ أو لماذا سن القانون ما يحرم هذا الجرم، ويبيح عملا بعينه؟ هذه الأسئلة تجيب عنها الفلسفة، فمتى ما وصلت إلى تلك الإجابة تكون بذلك قد أعطت للفعل المعين أو الاتجاه قيمة، تنبني عليها ردود أفعالنا وسلوكنا في الحياة.

     أما قضية القيم من حيث إطلاقها ونسبيتها، فتلك قضية أفردت لها مبحثا خاصا، نظرا لأنها أثارت جدلا، وصراعا ذهنيا في عقلي أنا على الأقل، فلا أجد أقل من أن أفرد لها عنوانا خاصا مضيفة إليها: ما الثابت؟ القيم، أم نظرتنا لهذه القيم؟ وسيأتي في حينه.

     وعادة ما تقسم القيم في الفلسفة إلى ثلاث، وهي الحق والخير والجمال، كما يحدث أحيانا أن تدمج كل اثنتين مع بعضهما، فنجد أحيانا توحيدا بين الحق والجمال، فالحق دائما جميل، العكس نجد الباطل قبيح دائما، وهناك توحيد آخر نجده بين الجمال والأخلاق {التي غالبا ما تنضوي تحت لواء الحق}، وهذا النوع من التوحيد هو الأكثر شيوعا، ومن ثم كان الأكثر جدلا، لاسيما في مجال الفن والكتابة الأدبية[40]

 

 

[1] سعيد إسماعيل علي: الأصول الفلسفية للتربية، القاهرة، دار الفكر العربي، 2000، ط1، ص9- 11.

[2]  ابن منظور: لسان العرب، بيروت، دار صادر، مجلد9، ص273.

[3] الطاهر أحمد الزاوي: ترتيب القاموس المحيط، دار الفكر، ج3، ط3، ص545.

[4] رفائيل نخلة اليسوعي: المنجد في المترادفات والمتجانسات، بيروت، دار المشرق، 1986، ط2، ص174.

[5] جبران مسعود: رائد الطلاب، بيروت، دار العلم للملايين، 1977، ط2، ص705.

[6] سعيد إسماعيل علي: الأصول الفلسفية للتربية، القاهرة، دار الفكر العربي، 2000، ط1، ص9.

[7] أنظر: عبد الراضي إبراهيم محمد عبد الرحمن: دراسات في فلسفة التربية المعاصرة، القاهرة، دار الفكر العربي، 2002، ط1، ص16.

[8]  سعيد إسماعيل علي: الأصول الفلسفية للتربية، القاهرة، دار الفكر العربي، 2000، ط1، ص22.

[9] عبد الراضي إبراهيم محمد عبد الرحمن: دراسات في فلسفة التربية المعاصرة، القاهرة، دار الفكر العربي، 2002، ط1، ص18.

[10]  : سعيد إسماعيل علي: الأصول الفلسفية للتربية، القاهرة، دار الفكر العربي، 2000، ط1، ص28 – 30.

[11]  المصدر نفسه: ص66.

[12] من محاضرات الدكتور ياسر فتحي الهنداوي المهدي، جامعة السلطان قابوس، كلية التربية والعلوم الإسلامية، قسم الأصول التربوية، 24/9/2006م

[13]  سعيد إسماعيل علي: الأصول الفلسفية للتربية، القاهرة، دار الفكر العربي، 2000، ط1، ص23.

[14] أنظر تقديم  د. سعيد إسماعيل/ عبد الراضي إبراهيم محمد عبد الرحمن: دراسات في فلسفة التربية المعاصرة، القاهرة، دار الفكر العربي، 2002، ط1، ص5.

[15]  www.google.com: عن الإمام الصادق عليه السلام، الفلسفة والحكمة والفرق بينهما.

[16] فيليب فرانك: فلسفة العلم، الصلة بين العلم والفلسفة، ترجمة د. علي علي ناصف، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1983، ط1، ص33.

[17] سعيد إسماعيل علي: الأصول الفلسفية للتربية، القاهرة، دار الفكر العربي، 2000، ط1، ص29.

[18] عبد الراضي إبراهيم محمد عبد الرحمن: دراسات في فلسفة التربية المعاصرة، القاهرة، دار الفكر العربي، 2002، ط1، ص19.

[19]   سعيد إسماعيل علي: الأصول الفلسفية للتربية، القاهرة، دار الفكر العربي، 2000، ط1، ص66.

[20] المصدر نفسه: ص67.

[21] المصدر نفسه: ص68.

[22] المصدر نفسه: ص69.

[23] المصدر نفسه: ص69.

[24] المصدر نفسه: ص 69.

[25] المصدر نفسه: ص69.

[26] المصدر نفسه: ص76.

[27] أنظر مقدمة: عبد الراضي إبراهيم محمد عبد الرحمن: دراسات في فلسفة التربية المعاصرة، القاهرة، دار الفكر العربي، 2002، ط1، ص6.

[28] سعيد إسماعيل علي: الأصول الفلسفية للتربية، القاهرة، دار الفكر العربي، 2000، ط1، ص266.

[29] المصدر نفسه: ص267.

[30] أنظر المصدر السابق: من ص266 إلى ص273.

[31] المصدر نفسه: 274.

[32] المصدر نفسه: ص274.

[33] المصدر نفسه: ص276.

[34] المصدر نفسه: ص277.

[35] المصدر نفسه: ص279.

[36] المصدر السابق: ص284.

[37] أنظر المصدر نفسه: ص291.

[38] عيسى الشماس: الثقافة والتربية/ أدب الأطفال بين الثقافة والتربية، دمشق، منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية، 2000، ط1، ص122.

[39] المصدر نفسه: ص122.

[40] أنظر سعيد إسماعيل علي: الأصول الفلسفية للتربية، القاهرة، دار الفكر العربي، 2000، ط1، ص296 – 319.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق