عندما تتنفس الذاكرة بروح نزوى - 2007
منى بنت حبراس السليمية
محاولة الكتابة عن الذكريات عملية ممتعة، وصعبة في الوقت نفسه، هذا إذا ما حصرنا الذكريات في مكان محدد ومرحلة زمنية لا تتجاوز مدة قصيرة، ولك أن تتخيل صعوبة المهمة لو امتد بنا الزمان واتسع المكان.
ومهما يكن من أمر، فكتابة الذكريات – وأية كتابة – ليست محاكاة للأحداث كما حصلت على أرض الواقع – كما يحاول أن يقنعنا أفلاطون – فكاتب السيرة لا يكتبها بعين الواقع والحقيقة، بل يكتبها بعين نفسه ووجدانه. فهل أقول عن جلوسي في مكتبة الكلية التقنية لساعات طوال أنها ساعات كنت أقضيها قارئا لكتاب في الرياضيات – لأنه الأحب إلي من بين المعروض على الرفوف وقد انعدمت كتب الأدب – مثلا، وقد تمكنت من حل عشر مسائل رياضية في اليوم الفلاني، إلى أن حان وقت الغداء فتوجهت إلى "الكانتين" وتناولت الأرز مع الدجاج و"توب فروت مانجو" – الذي أحب؟!!
استعادة الذكريات لا تكون بهذه الطريقة قط، ولا بذلك الترتيب، إذ غالبا ما تتقاطر ذكريات المكتبة كاملة من كل الأيام أثناء عملية الكتابة، دون تحديد واضح لما يلي المكوث فيها هذا اليوم أو ذاك، أو ما قد يسبقه.
أما عن الهدف الذي لابد أن يسبق كتابة الذكريات، فبالنسبة لي لا شيء يدعوني لفعل ذلك - في نظر من يعرفني أو من لا يعرفني على حد سواء - فالقارئ مشدود دائما للشخصيات التي تملأ الدنيا وتشغل الناس، ومع ذلك أجدني أغامر؛ لأن قارئي الذي أعنيه قد حددته ضمنا، قارئ لا يخرج عن حدود الشخصيات التي أسرد مواقفها معي، ولا أطمع في أكثر من ذلك.
فقد آمنت بأن ما أكتبه الآن قد شكل منعطفا كبيرا في حياتي، وأضاف خبرة جعلتني أرى الناس من حولي بعين أخرى، وهي مدة من الزمن انقضت واقعا، ولكني مازلت أحيا روعتها مع الذكريات، فخشيت على هذه الروعة أن يطفئها النسيان، فهي سطور لي إذن، وما حاجتي للشخصيات التي سأذكرها - كونها شريحة قرائي المحدودة - إلا لتتذاكر معي أياما هي من أجمل أيام عمري...
- 1 -
لما كنت أعشق المكتبة "بـلا حدود"، فقد عشقت برنامج أحمد منصور على قناة الجزيرة؛ لأنني آمنت بالمطلق، ولا أعرف معنى للحدود إلا بقدر ما تهيئه لحرية جديدة، فغالبا ما أترجم ميلي إلى شيء معين ترجمة مطلقة، حتى لا أترك شيئا لغيري، فإما أن آخذ الشيء كله، وإما أن أتركه كله – لا أعرف الوسط، وليكن عيبا!! – ومهما يكن من أمر، فقد كنت أهرب إلى المكتبة من كل شيء، فأعسكر فيها برفقة كتاب غالبا ما كنت أجلبه معي من مكتبتي الصغيرة.
فالمكتبة – كما كنت أراها – هي المكان الأرقى بين مرافق الكلية من الناحية المادية، ربما لأنها الأحدث عمرا بين المباني الأخرى كما يبدو، وحجمها لا بأس به كونها تضم الكتب التي يحتاجها الطلاب في دراستهم الأكاديمية فقط، ولعل الصدمة الصاعقة بالنسبة لي هي أنها تخلو من الكتب الناطقة بالعربية على إطلاقها!! – إلى أن أدخل الأستاذ إسماعيل (رئيس شعبة المكتبات) أعدادا من مجلة نزوى الأدبية – والواضح أن سياسة المكتبة كانت تقتضي إلغاء كل ما ليس له علاقة بالدراسة الأكاديمية، وكنت أتساءل: أين موقع المطالعة الحرة على الأقل؟
ومع ذلك، ففي المكتبة ما كان يشبع الميول الأدبية لدي، وما ذاك إلا الأستاذ إسماعيل، فهو كاتب رقيق جدا، ويملك قلما نادرا، أعاد إليَّ رائحة الأدب الجميل الذي افتقدته مذ تخرجت في الجامعة في يوليو من عام 2006، ولمَّا كنت الوحيدة المتخصصة في اللغة العربية وجدت نفسي مضطرة لأن أمارس دور الناقد لكل إنتاج أدبي يصدر من قبل الأستاذ إسماعيل أو غيره من الموظفين والطلاب... خدعة مارستها عليهم قرابة سبعة شهور!
في مكتبة الكلية تعرفت على الكثير من الطالبات والطلاب، فهي التي فتحت لي باب المشاركة في كل صغيرة وكبيرة، وفي الحق تمنيت لو تتاح لي فرصة الاستيلاء على مكتب الأستاذ إسماعيل الموجود بقلبها، فقد كان حلما أن يكون مكتبه لي، أما هو أين يذهب فهذا ما لم أفكر فيه قط! ولكن كان يهمني أن يبقى في الجوار، لأنه المدد الذي أستقي منه كل جميل، إضافة إلى أنه قِبلة الموهوبين من الطلاب.
أما الآن – وبعد أن رحلتُ عنهم – فقد أصبحت لا أشك في أن أمنيتي تلك كانت سببا في نقله من مكتبه ليصبح مساعدا للعميد لشئون الطلبة، ولكن بعد أن لم أكن ... !!!
كاريزما استطاع الرجل أن يستقطبها لشخصيته، فالمكتبة عندي تعني أمرين: الكتاب الذي في يدي – إذ لا حاجة لي بالكتب التي على رفوفها – والأستاذ إسماعيل!
ولا أريد أن أبخس حق شخصين رائعين كانا يعنيان لي الشيء الكثير، هما رحمة وهيلة - موظفتان في المكتبة - اللتان أجد بالجلوس معهما سعادة كبيرة.
فطِيبةُ رحمة تنسيني همومي، وخفة دم هيلة تجعلني أضحك حتما مهما كان ما يزعجني قابضا على قلبي وأعصابي، وسيكتمل المشهد الفكاهي إذا ما انضم الأستاذ عبد العزيز – الفيسلوف المتدثر بعلوم الحاسب الآلي – إلى المجموعة المرحة، فله مع هيلة صولات فلسفية وجولات؛ إذ كثيرا ما كان يتعمد إثارتها بجمله الفلسفية التي تقابلها بالامتعاض، حتى غدت المواقف بينهما من أجمل الذكريات التي أحملها على الإطلاق!
ولست أنسى يوم أن اتصل بي الأستاذ عبد العزيز طالبا مني المرور على مركز تقنية المعلومات – حيث مكتبُه – وما كان لي أن أتخيل حاجته إليّ غير ما اعتدنا عليه من نقاشات في الفكر والفلسفة، ولكن سعادتي كانت غامرة عندما مد لي يده بورقة كُتِبَ عليها نص قصير تناول موضوع الغرور!
قد يقول قائل: وماذا في ذلك؟ فسأقول: إن هذا الرجل الذي أعطاني النص، لم يقل إن النص له، بل هو نص يريد رأيا فيه والسلام! ولكني علمت أنه الكاتب، وبالطبع لا غرابة في هذا بعد، ولكن الغريب هو أنه لم يسبق أن كتب جملة عربية كاملة على ورقة ولا حتى شاشة هاتف، باستثناء عبارة "عمان بلد الخيرات" التي تُزاحم عليه الورقة كلما أمسك بالقلم، حتى أصبحت كتابته لهذه الجملة كاشفا له على علاقته – عبثه – بأية ورقة.
فأن يكتب الأستاذ عبد العزيز أربعة أسطر (بداية الغيث)، لهي بشارة خير: إذ أخيرا ستجد أفكاره - التي يلقيها هنا وهناك دون أن يعبأ بأهميتها - مستودعا تُحفظ فيه. بالطبع ما كان لي أن أخفي سعادتي بمفتاح الكنز، وقد تحقق ما لم يكن يستطيعه، وهو أن يعبر عن أفكاره (كِ تَ ا بَ ةً)!
فهو مرتبط أشد ما يكون الارتباط بالمكتبة؛ لأن صديقه الأستاذ إسماعيل، وبعض لقاءاته مع الطلاب والموظفين تتم هناك. ولن تكتمل صورة المكتبة دون ذكر مكتب يقع على يمين مكتب الأستاذ إسماعيل، يفصل بينهما ممر يؤدي إلى قاعة ملحقة بالمكتبة، وذاك هو مكتب الأستاذ نصر، الذي حل فيه قادما من مبنى الإدارة حيث كان، ويبدو أن الرجل لم تعجبه الإقامة بجوار الإدارة – أو فوقها على الأصح – فآثر النزول إلى المكتبة؛ ليكتمل مثلث الإبداع بانضمام الضلع الثالث ( أ. إسماعيل ، أ. عبد العزيز، أ. نصر).
للأستاذ نصر موقف مع بدايات التحاقي بالهيئة التدريسية بالكلية؛ إذ دخل عليَّ قاعة الدراسة في أول محاضرة ألقيها – بعد أن نقلت إليه ثريا "منسقة مكتب العميد" رغبتي في استخدام جهاز عرض الشفافيات، كونه المسؤول عن الأمور التقنية – وسألني: أأنتِ الأستاذة منى؟ وفي الحق إنها المرة الأولى التي كنت أسمع فيها اسمي مسبوقا بكلمة (أستاذة)، ما توقعت أن وقع هذه الكلمة سيكون قويا، فحبست شهقة كادت تضطرني للإجابة بلا؛ فأنا التي ما استطعت أن أرى نفسي أستاذة لطلاب في مثل سني، ومنهم من يكبرني بعام يقل قليلا أو يزيد! فالطلاب أنفسهم حتى تلك اللحظة ما استطاعوا أن ينطقوها، وحُق لهم! فمن هذه التي جاءت لتؤدي عليهم دور الأستاذ قبل أوانها؟
قد كان الأستاذ نصر شخصية رائعة بهدوئه وتعاونه، وقد عملنا معا بقيادة الأستاذ إسماعيل في إعداد العدد الثاني من المجلة الشهرية "تروس"، التي صدر العدد الأول منها عند أول انضمامي للكلية، وقبل أن أرحل جمعنا مادة العدد الثالث ولست أدري ما حدث بعدها.. وكذلك كانت المجلة السنوية "نزوى التقنية".
لعل أوضح المواقف التي مازالت عالقة في الذاكرة عن الأستاذ نصر، المصادفة التي جمعتني به في مكتب العميد ذات يوم، وكان من الأحاديث المفتوحة ساعتها، موضوع بقائي في الكلية بعد أن تم قبولي في برنامج الماجستير بجامعة السلطان قابوس.
وعاد في اليوم نفسه ليسألني ما إذا كنت قد قررت أن أبقى أم أرحل، وعقَّب بقوله: نحن بحاجتك. You are important person وترسختْ جملته في ذهني، وتسببت في طول ترددي! ليس لأنني قد أكون حقا مهمة، ولكني - بجملته - تذكرت كل الأشياء الجميلة لتي سأتركها.
شيء مهم لا يمكنني تجاوزه عند الحديث عن المكتبة، وهو أنها كانت ضحية إجرامنا – نحن الموظفين – عندما نقرر إقامة وليمة لسبب ولغير سبب، إذ غالبا ما كنا نفترش الأرض في القاعة الملحقة، في الأيام التي لا دراسة فيها، فنضمن غياب الطلاب الذين يحفظون قانون الأستاذ إسماعيل عن ظهر قلب: يمنع تناول الطعام في المكتبة منعا باتا!! أو مكتب الأستاذ إسماعيل نفسه – كما فعلنا ذات يوم مع الخبز والعسل الذي جاءت به رحمة من الجبل – أو في مكتب الأستاذ نصر – مخزن القهوة التركية والبسكويت.
في الأيام الأولى ما كنت معروفة لدى الطلاب، الأمر الذي يشعرني بالراحة كونهم ينظرون إلي كطالبة، ولكني كنت ألحظ النظرات المستغربة وكأنها تسأل عن هوية وجه غريب لم تعهده – أو يخيل إليَّ أن ثمة نظرات – غير أن سرعان ما انتشر خبرٌ عن أستاذة عمانية جديدة - لمادة الاتصال في اللغة العربية - كانتشار النار في الهشيم، فأصبحت مسألة القراءة في المكتبة ضربا من المبالغة؛ إذ أن فتح الكتاب أصبح لا يسفر عن أكثر من قراءة صفحة على الأكثر!! وتعرفون السبب.
في معظم الأيام ما كنت أدخل قسم الدراسات التجارية – الذي أنتمي إليه – فأقضي اليوم كاملا في المكتبة؛ لأنني ما كنت أشعر بانتمائي لذاك القسم؛ فأنا ولغة الأرقام والتجارة لا نجتمع، ولسوء حظي أن تنبثق المادة من هذا القسم، وأعلم أن اعترافا كهذا لن يُعجب تركية – أستاذة بقسم الدراسات التجارية – التي كلما سألت عني قيل لها في المكتبة، حتى أصبح التواصل بيننا في معظمه عبر الهاتف، رغم التصاق مكتبي بمكتبها!!.. حتى ارتأت في نقل مكتبي إلى المكتبة حلاً لتشردي الإرادي.
بعد مدة وجيزة وجدت مبررا لهروبي إلى المكتبة؛ وكان ذلك بقدوم بثينة – أستاذة أخرى التحقت بالقسم لاحقا – إذ اضطررنا إلى التناوب على المكتب – لضيق القسم – فهو لها في الفترة الصباحية ولي في الفترة المسائية.. وكثيرا ما يحدث أن نجتمع – نحن الاثنتين – في وقت واحد، وعليَّ أن أبدي الإيثار ودماثة الخلق، فأجمع أوراقي وأتوجه [هرولة] إلى المكتبة - مكاني الأثير!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق